الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى : وينزل لكم من السماء رزقا . أطلق جل وعلا في هذه الآية الكريمة الرزق وأراد المطر ; لأن المطر سبب الرزق ، وإطلاق المسبب وإرادة سببه لشدة الملابسة بينهما ، أسلوب عربي معروف ، وكذلك عكسه الذي هو إطلاق السبب وإرادة المسبب كقوله :


                                                                                                                                                                                                                                      أكلت دما إن لم أرعك بضرة بعيدة مهوى القرط طيبة النشر



                                                                                                                                                                                                                                      فأطلق الدم وأراد الدية ; لأنه سببها .

                                                                                                                                                                                                                                      وقد أوضحنا في رسالتنا المسماة : منع جواز المجاز ، في المنزل للتعبد والإعجاز ، أن أمثال هذا أساليب عربية ، نطقت بها العرب في لغتها ، ونزل بها القرآن ، وأن ما يقوله علماء البلاغة من أن في الآية ما يسمونه المجاز المرسل الذي يعدون من علاقاته السببية والمسببية لا داعي إليه ، ولا دليل عليه ، يجب الرجوع إليه .

                                                                                                                                                                                                                                      وإطلاق الرزق في آية المؤمن هذه على المطر جاء مثله ، في غير هذا الموضع كقوله تعالى في أول سورة الجاثية : وما أنزل الله من السماء من رزق فأحيا به الأرض بعد موتها [ الآية 5 ] فأوضح بقوله : فأحيا به الأرض بعد موتها أن مراده بالرزق المطر ; لأن المطر هو الذي يحيي الله به الأرض بعد موتها .

                                                                                                                                                                                                                                      وقد أوضح جل وعلا أنه إنما سمي المطر رزقا ; لأن المطر سبب الرزق في آيات كثيرة من كتابه ، كقوله تعالى في سورة البقرة : وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم الآية [ 2 \ 22 ] ، والباء في قوله فأخرج به سببية كما ترى .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 378 ] وكقوله تعالى في سورة إبراهيم : الله الذي خلق السماوات والأرض وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم وسخر لكم الفلك الآية [ 14 \ 32 ] . وقوله تعالى في سورة ق : ونزلنا من السماء ماء مباركا فأنبتنا به جنات وحب الحصيد والنخل باسقات لها طلع نضيد رزقا للعباد [ 50 \ 9 - 11 ] .

                                                                                                                                                                                                                                      وبين في آيات أخر أن الرزق المذكور شامل لما يأكله الناس ، وما تأكله الأنعام ; لأن ما تأكله الأنعام ، يحصل بسببه للناس الانتفاع بلحومها ، وجلودها وألبانها ، وأصوافها وأوبارها وأشعارها ، كما تقدم ، كقوله تعالى : أولم يروا أنا نسوق الماء إلى الأرض الجرز فنخرج به زرعا تأكل منه أنعامهم وأنفسهم أفلا يبصرون [ 32 \ 27 ] ، وقوله تعالى هو الذي أنزل من السماء ماء لكم منه شراب ومنه شجر فيه تسيمون ينبت لكم به الزرع والزيتون والنخيل والأعناب ومن كل الثمرات الآية [ 16 \ 10 - 11 ] .

                                                                                                                                                                                                                                      فقوله : فيه تسيمون ، أي : تتركون أنعامكم سائمة فيه ، تأكل منه من غير أن تتكلفوا لها مئونة العلف ، كما تقدم إيضاحه بشواهده العربية ، في سورة النحل وكقوله تعالى : وأنزل من السماء ماء فأخرجنا به أزواجا من نبات شتى كلوا وارعوا أنعامكم الآية [ 20 \ 53 - 54 ] . وقوله تعالى : أخرج منها ماءها ومرعاها والجبال أرساها متاعا لكم ولأنعامكم [ 79 \ 31 - 33 ] إلى غير ذلك من الآيات .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية