الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 61 ] ثم دخلت سنة أربع عشرة وستمائة

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      في ثالث المحرم منها كمل تبليط داخل الجامع الأموي ، وجاء المعتمد مبارز الدين إبراهيم المتولي بدمشق ، فوضع آخر بلاطة منه بيده عند باب الزيارة ، فرحا بذلك .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفيها زادت دجلة ببغداد زيادة عظيمة ، وارتفع الماء حتى ساوى السور إلا مقدار أصبعين ، ثم طفح الماء من فوقه ، وأيقن الناس بالهلكة ، واستمر ذلك سبع ليال وثمانية أيام حسوما ، ثم من الله فتناقص الماء ، وذهبت الزيادة وقد بقيت بغداد تلولا ، وتهدمت أكثر البنايات ، فإنا لله وإنا إليه راجعون .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفيها درس بالنظامية محمد بن يحيى بن فضلان ، وحضر عنده القضاة والأعيان .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 62 ] وفيها سار الصدر بن حمويه في الرسلية إلى بغداد من العادل إلى الخليفة .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفيها قدم ولده الفخر من الكامل إلى أخيه المعظم يخطب منه ابنته على ابنه أقسيس صاحب اليمن ، فعقد العقد بدمشق على صداق هائل .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفيها قدم السلطان علاء الدين خوارزم شاه محمد بن تكش إلى همذان قاصدا إلى بغداد في أربعمائة ألف ، وقيل في ستمائة ألف . فاستعد له الخليفة ، واستخدم الجيوش الكثيرة ، وأرسل إلى الخليفة يطلب منه أن يكون بين يديه على قاعدة من تقدمه من الملوك السلاجقة ، وأن يخطب له ببغداد على منابرها ، فلم يجبه الخليفة إلى ذلك ، وأرسل إليه الشيخ شهاب الدين السهروردي ، فلما وصل شاهد عنده من العظمة وكثرة الملوك بين يديه ، وهو جالس في خركاه من ذهب على سرير ساذج ، وعليه قباء بخاري ما يساوي خمسة دراهم ، وعلى رأسه جلدة ما تساوي درهما ، فسلم فلم يرد عليه من الكبر ، ولم يأذن له في الجلوس ، فقام إلى جانب السرير ، وأخذ في خطبة هائلة ، فذكر فيها فضل بني العباس وشرفهم ، وأورد حديثا في النهي عن أذاهم ، والترجمان يعيد على الملك ، فقال الملك : أما ما ذكرت من فضل الخليفة فإنه ليس كذلك ، ولكني إذا قدمت بغداد أقمت من يكون بهذه الصفات ، وما ذكرت من النهي عن أذاهم ، فإني لم أوذ منهم أحدا ، ولكن الخليفة في سجونه منهم طائفة كثيرة [ ص: 63 ] يتناسلون في السجون ، فهو الذي آذى بني العباس . ثم تركه ولم يرد عليه جوابا بعد ذلك ، وانصرف السهروردي راجعا ، وأرسل الله تعالى على الملك وجنده ثلجا عظيما ثلاثة أيام حتى طم الخراكي والخيام ووصل إلى رءوس الأعلام ، وتقطعت أيدي رجال وأرجلهم ، وعمهم من البلاء ما لا يحد ولا يوصف ، فردهم الله خائبين ، والحمد لله رب العالمين .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفيها انقضت الهدنة التي كانت بين العادل والفرنج ، واتفق قدوم العادل من الديار المصرية ، فاجتمع هو وولده المعظم ببيسان ، فركبت الفرنج من عكا ومقدمهم وصحبتهم ملوك السواحل كلهم ، وساقوا كلهم قاصدين مغافصة العادل ، فلما أحس بهم فر منهم لكثرة جيوشهم وقلة من معه ، فقال له ابنه المعظم : إلى أين يا أبت؟ فشتمه بالعجمية ، وقال له : أقطعت الشام مماليكك ، وتركت من ينفعني من أبناء الناس . فتوجه العادل إلى دمشق ، وكتب إلى واليها المعتمد ليحصنها من الفرنج ، وينقل إليها من الغلات من داريا إلى القلعة ، ويرسل الماء على أراضي داريا ، وقصر حجاج والشاغور ، ففزع الناس من ذلك ، وابتهلوا إلى الله بالدعاء ، وكثر الضجيج بالجامع ، وأقبل السلطان ، فنزل بمرج الصفر ، وأرسل إلى ملوك الشرق ليقدموا لقتال الفرنج ، فكان أول من قدم صاحب حمص أسد الدين شيركوه ، فتلقاه الناس فدخل من باب الفرج ، وجاء فسلم على ست الشام بدارها عند المارستان ، ثم عاد إلى داره ، ولما قدم [ ص: 64 ] أسد الدين سري عن الناس وأمنوا ، فلما أصبح توجه إلى السلطان بمرج الصفر ، وأما الفرنج فإنهم وردوا إلى بيسان ، فنهبوا ما كان بها من الغلات والدواب ، وقتلوا وأسروا شيئا كثيرا ، ثم عاثوا في الأرض فسادا يقتلون وينهبون ويسبون ما بين بيسان إلى بانياس ، وخرجوا إلى أراضي الجولان إلى نوى وخسفين وغير ذلك من الأراضي ، وسار الملك المعظم ، فنزل على عقبة اللبن بين القدس ونابلس خوفا على القدس الشريف ، ثم حاصر الفرنج حصن الطور حصارا هائلا ، ومانع عنه الذين به من الأبطال ممانعة هائلة ، ثم كر الفرنج راجعين إلى عكا ، وجاء الملك المعظم إلى الطور ، فخلع على الأمراء الذين به ، وطيب نفوسهم ، ثم اتفق هو وأبوه على هدمه ، كما سيأتي .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية