الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 481 ] [ ص: 482 ] [ ص: 483 ] بسم الله الرحمن الرحيم

القول في تأويل قوله جل جلاله وتقدست أسماؤه ( والضحى ( 1 ) والليل إذا سجى ( 2 ) ما ودعك ربك وما قلى ( 3 ) وللآخرة خير لك من الأولى ( 4 ) ولسوف يعطيك ربك فترضى ( 5 ) ألم يجدك يتيما فآوى ( 6 ) ووجدك ضالا فهدى ( 7 ) ووجدك عائلا فأغنى ( 8 ) ) .

أقسم ربنا جل ثناؤه بالضحى ، وهو النهار كله ، وأحسب أنه من قولهم : ضحي فلان للشمس : إذا ظهر منه ; ومنه قوله : ( وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى ) أي : لا يصيبك فيها الشمس .

وقد ذكرت اختلاف أهل العلم في معناه في قوله : ( والشمس وضحاها ) مع ذكري اختيارنا فيه . وقيل : عني به وقت الضحى .

ذكر من قال ذلك :

حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ( والضحى ) ساعة من ساعات النهار .

وقوله : ( والليل إذا سجى ) اختلف أهل التأويل في تأويله ، فقال بعضهم : معناه : والليل إذا أقبل بظلامه .

ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ( والليل إذا سجى ) يقول : والليل إذا أقبل .

حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن الحسن ، في قول الله : ( والليل إذا سجى ) قال : إذا لبس الناس ، إذا جاء . [ ص: 484 ]

وقال آخرون : بل معنى ذلك : إذا ذهب .

ذكر من قال ذلك :

حدثني علي ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس ( والليل إذا سجى ) يقول : إذا ذهب .

وقال آخرون : معناه : إذا استوى وسكن .

ذكر من قال ذلك :

حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا مهران ; وحدثنا أبو كريب ، قال : ثنا وكيع ، جميعا عن سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ( والليل إذا سجى ) قال : إذا استوى .

حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ; وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ( والليل إذا سجى ) قال : إذا استوى .

حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ( والليل إذا سجى ) سكن بالخلق .

حدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : ثنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : ( والليل إذا سجى ) يعني : استقراره وسكونه .

حدثني يونس ، قال : أخبرني ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( والليل إذا سجى ) قال : إذا سكن ، قال : ذلك سجوه ، كما يكون سكون البحر سجوه .

وأولى هذه الأقوال بالصواب عندي في ذلك قول من قال معناه : والليل إذا سكن بأهله ، وثبت بظلامه ، كما يقال : بحر ساج : إذا كان ساكنا ; ومنه قول أعشى بني ثعلبة :


فما ذنبنا إن جاش بحر ابن عمكم وبحرك ساج ما يواري الدعامصا

[ ص: 485 ]

وقول الراجز :


يا حبذا القمراء والليل الساج     وطرق مثل ملاء النساج .



وقوله : ( ما ودعك ربك وما قلى ) وهذا جواب القسم ، ومعناه : ما تركك يا محمد ربك وما أبغضك . وقيل : ( وما قلى ) ومعناه : وما قلاك ، اكتفاء بفهم السامع لمعناه ؛ إذ كان قد تقدم ذلك قوله : ( ما ودعك ) فعرف بذلك أن المخاطب به نبي الله صلى الله عليه وسلم .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك :

حدثني علي ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس ، في قوله : ( ما ودعك ربك وما قلى ) يقول : ما تركك ربك ، وما أبغضك .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( ما ودعك ربك وما قلى ) قال : ما قلاك ربك وما أبغضك ; قال : والقالي : المبغض .

وذكر أن هذه السورة نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم تكذيبا من الله قريشا في قيلهم لرسول الله ، لما أبطأ عليه الوحي : قد ودع محمدا ربه وقلاه .

ذكر الرواية بذلك :

حدثني علي بن عبد الله الدهان ، قال : ثنا مفضل بن صالح ، عن الأسود بن قيس العبدي ، عن ابن عبد الله ، قال : لما أبطأ جبريل على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالت امرأة من أهله ، أو من قومه : ودع الشيطان محمدا ، فأنزل الله عليه : ( والضحى ) . . . إلى قوله : ( ما ودعك ربك وما قلى ) .

قال أبو جعفر : ابن عبد الله : هو جندب بن عبد الله البجلي .

حدثني محمد بن عيسى الدامغاني ، ومحمد بن هارون القطان ، قالا ثنا [ ص: 486 ] سفيان ، عن الأسود بن قيس سمع جندبا البجلي يقول : أبطأ جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم حتى قال المشركون : ودع محمدا ربه ، فأنزل الله : ( والضحى والليل إذا سجى ما ودعك ربك وما قلى ) .

حدثنا ابن المثنى ، قال : ثنا محمد بن جعفر ، قال : ثنا شعبة ، عن الأسود بن قيس ، أنه سمع جندبا البجلي قال : قالت امرأة لرسول الله صلى الله عليه وسلم : ما أرى صاحبك إلا قد أبطأ عنك ، فنزلت هذه الآية : ( ما ودعك ربك وما قلى ) .

حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا مهران ، عن سفيان ، عن الأسود بن قيس ، قال سمعت جندب بن عبد الله يقول : إن امرأة أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : ما أرى شيطانك إلا قد تركك ، فنزلت : ( والضحى والليل إذا سجى ما ودعك ربك وما قلى ) .

حدثنا ابن أبي الشوارب ، قال : ثنا عبد الواحد بن زياد ، قال : ثنا سليمان الشيباني ، عن عبد الله بن شداد أن خديجة قالت للنبي صلى الله عليه وسلم ما أرى ربك إلا قد قلاك ، فأنزل الله : ( والضحى والليل إذا سجى ما ودعك ربك وما قلى ) .

حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ( ما ودعك ربك وما قلى ) قال : إن جبريل عليه السلام أبطأ عليه بالوحي ، فقال ناس من الناس ، وهم يومئذ بمكة ، ما نرى صاحبك إلا قد قلاك فودعك ، فأنزل الله ما تسمع : ( ما ودعك ربك وما قلى ) .

حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، في قوله : ( ما ودعك ربك وما قلى ) قال : أبطأ عليه جبريل ، فقال المشركون : قد قلاه ربه وودعه ، فأنزل الله : ( ما ودعك ربك وما قلى ) .

حدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : ثنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : ( ما ودعك ربك وما قلى ) مكث جبريل عن محمد صلى الله عليه وسلم ، فقال المشركون : قد ودعه ربه وقلاه ، فأنزل الله هذه الآية .

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ( ما ودعك ربك وما قلى ) قال : لما نزل عليه القرآن ، أبطأ عنه جبريل أياما ، فعير بذلك ، فقال المشركون : ودعه ربه وقلاه ، فأنزل الله : [ ص: 487 ] ( ما ودعك ربك وما قلى ) .

حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا وكيع ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، قال أبطأ جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم ، فجزع جزعا شديدا ، وقالت خديجة : أرى ربك قد قلاك ، مما نرى من جزعك ، قال : فنزلت ( والضحى والليل إذا سجى ما ودعك ربك وما قلى ) . . . إلى آخرها .

وقوله : ( وللآخرة خير لك من الأولى ) يقول تعالى ذكره : وللدار الآخرة ، وما أعد الله لك فيها ، خير لك من الدار الدنيا وما فيها . يقول : فلا تحزن على ما فاتك منها ، فإن الذي لك عند الله خير لك منها .

وقوله : ( ولسوف يعطيك ربك فترضى ) يقول تعالى ذكره : ولسوف يعطيك يا محمد ربك في الآخرة من فواضل نعمه ، حتى ترضى .

وقد اختلف أهل العلم في الذي وعده من العطاء ، فقال بعضهم : هو ما حدثني به موسى بن سهل الرملي ، قال : ثنا عمرو بن هاشم ، قال : سمعت الأوزاعي يحدث ، عن إسماعيل بن عبيد الله بن أبي المهاجر المخزومي ، عن علي بن عبد الله بن عباس ، عن أبيه ، قال : عرض على رسول الله صلى الله عليه وسلم ما هو مفتوح على أمته من بعده كفرا كفرا ، فسر بذلك ، فأنزل الله ( ولسوف يعطيك ربك فترضى ) فأعطاه في الجنة ألف قصر ، في كل قصر ما ينبغي من الأزواج والخدم .

حدثني محمد بن خلف العسقلاني ، قال : ثني رواد بن الجراح ، عن الأوزاعي ، عن إسماعيل بن عبيد الله ، عن علي بن عبد الله بن عباس ، في قوله : ( ولسوف يعطيك ربك فترضى ) قال : ألف قصر من لؤلؤ ، ترابهن المسك ، وفيهن ما يصلحهن .

حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ( ولسوف يعطيك ربك فترضى ) ، وذلك يوم القيامة .

وقال آخرون في ذلك ما حدثني به عباد بن يعقوب ، قال : ثنا الحكم بن ظهير ، عن السدي ، عن ابن عباس ، في قوله : ( ولسوف يعطيك ربك فترضى ) قال : من رضا محمد صلى الله عليه وسلم ألا يدخل أحد من أهل بيته النار .

وقوله : ( ألم يجدك يتيما فآوى ) يقول تعالى ذكره معددا على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم نعمه عنده ، ومذكره آلاءه قبله : ألم يجدك يا محمد ربك يتيما [ ص: 488 ] فآوى ، يقول : فجعل لك مأوى تأوي إليه ، ومنزلا تنزله ( ووجدك ضالا فهدى ) ووجدك على غير الذي أنت عليه اليوم .

وقال السدي في ذلك ما حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا مهران ، عن السدي ( ووجدك ضالا ) قال : كان على أمر قومه أربعين عاما . وقيل : عني بذلك : ووجدك في قوم ضلال فهداك .

وقوله : ( ووجدك عائلا فأغنى ) يقول : ووجدك فقيرا فأغناك ، يقال منه : عال فلان يعيل عيلة ، وذلك إذا افتقر ; ومنه قول الشاعر :


فما يدري الفقير متى غناه     وما يدري الغني متى يعيل



يعني : متى يفتقر .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك :

حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا مهران ، عن سفيان ( ووجدك عائلا ) فقيرا .

وذكر أنها في مصحف عبد الله ( ووجدك عديما فآوى ) .

حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ( ألم يجدك يتيما فآوى ووجدك ضالا فهدى ووجدك عائلا فأغنى ) قال : كانت هذه منازل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قبل أن يبعثه الله سبحانه وتعالى .

التالي السابق


الخدمات العلمية