الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                        معلومات الكتاب

                        إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول

                        الشوكاني - محمد بن علي بن محمد الشوكاني

                        صفحة جزء
                        [ ص: 259 ] البحث الثامن : في حجية إجماع أهل المدينة إجماع أهل المدينة على انفرادهم ليس بحجة عند الجمهور ; لأنهم بعض الأمة .

                        وقال مالك إذا أجمعوا لم يعتد بخلاف غيرهم .

                        قال الشافعي في كتاب اختلاف الحديث : قال بعض أصحابنا : إنه حجة ، وما سمعت أحدا ذكر قوله إلا عابه ، وإن ذلك عندي معيب .

                        وقال الجرجاني : إنما أراد مالك الفقهاء السبعة وحدهم ، والمشهور عنه الأول .

                        ويشكل على ما روي عن مالك من حجية إجماع أهل المدينة أنه نقل في الموطأ في باب العيب في الرقيق ، إجماع أهل المدينة ، على أن البيع بشرط البراءة لا يجوز ، ولا يبرئ من العيب أصلا علمه أو جهله ، ثم خالفهم فلو كان يرى أن إجماعهم حجة لم تسع مخالفته .

                        وقال الباجي : إنما أراد ذلك بحجية إجماع أهل المدينة ، فيما كان طريقه النقل المستفيض ، كالصاع ، والمد ، والأذان ، والإقامة ، وعدم وجوب الزكاة في الخضروات ، مما تقتضي العادة بأن يكون في زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، فإنه لو تغير عما كان عليه لعلم ، فأما مسائل الاجتهاد فهم وغيرهم سواء ، وحكاه القاضي في التقريب عن شيخه الأبهري ، وقيل : يرجح نقلهم عن نقل غيرهم .

                        وقد أشار الشافعي إلى هذا في القديم ، ورجح رواية أهل المدينة على غيرهم ، وحكى يونس بن عبد الأعلى قال : قال الشافعي : إذا وجدت متقدمي أهل المدينة على شيء ، فلا يدخل في قلبك شك أنه الحق ، وكلما جاءك شيء غير ذلك فلا تلتفت إليه ، ولا تعبأ به .

                        وقال القاضي عبد الوهاب : إجماع أهل المدينة على ضربين ، نقلي واستدلالي ، فالأول على ثلاثة أضرب ، منه نقل شرع مبتدأ من جهة النبي صلى الله عليه [ ص: 260 ] وسلم ، من قول ، أو فعل ، أو إقرار .

                        فالأول : كنقلهم الصاع والمد والأذان والإقامة والأوقات والأجناس ونحوهن .

                        والثاني : نقلهم المتصل كعهدة الرقيق ، وغير ذلك .

                        والثالث : كتركهم أخذ الزكاة من الخضروات ، مع أنها كانت تزرع بالمدينة ، وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم والخلفاء بعده لا يأخذونها منها ، قال : وهذا النوع من إجماعهم حجة يلزم عندنا المصير إليه ، وترك الأخبار والمقاييس به ، لا اختلاف بين أصحابنا فيه .

                        قال : والثاني وهو إجماعهم من طريق الاستدلال فاختلف أصحابنا فيه على ثلاثة أوجه :

                        أحدها : أنه ليس بإجماع ولا بمرجح ، وهو قول أبي بكر وأبي يعقوب الرازي والقاضي أبي بكر وابن فورك والطيالسي وأبي الفرج والأبهري ، وأنكر كونه مذهبا لمالك .

                        ثانيها : أنه مرجح ، وبه قال بعض أصحاب الشافعي .

                        ثالثها : أنه حجة وإن لم يحرم خلافه ، وإليه ذهب قاضي القضاة أبو الحسين بن عمر . قال أبو العباس القرطبي : أما الضرب الأول فينبغي أن لا يختلف فيه ; لأنه من باب النقل المتواتر ، ولا فرق بين القول والفعل والإقرار ، كل ذلك نقل محصل للعلم القطعي ، فإنهم عدد كثير وجم غفير تحيل العادة عليهم التواطؤ على خلاف الصدق ، ولا شك أن ما كان هذا سبيله أولى من أخبار الآحاد والأقيسة والظواهر .

                        ثم قال : والنوع الاستدلالي إن عارضه خبر فالخبر أولى عند جمهور أصحابنا ، وقد صار جماعة من أصحابنا إلى أنه أولى من الخبر ، بناء منهم على أنه إجماع ، وليس بصحيح ; لأن المشهود له بالعصمة إجماع كل الأمة لا بعضها .

                        وإجماع أهل الحرمين مكة والمدينة ، وأهل المصرين البصرة والكوفة ، ليس بحجة ; لأنهم بعض الأمة ، وقد زعم بعض أهل الأصول أن إجماع أهل الحرمين والمصرين حجة ، ولا وجه لذلك ، وقد قدمنا قول من قال بحجية إجماع أهل المدينة ، فمن قال بذلك فهو قائل بحجية إجماع أهل مكة والمدينة والمصرين بالأولى .

                        قال القاضي : وإنما خصوا هذه المواضع يعني القائلين بحجية إجماع أهلها ; لاعتقادهم تخصيص الإجماع بالصحابة ، وكانت هذه البلاد مواطن الصحابة ما خرج منها إلا الشذوذ .

                        قال الزركشي : وهذا صريح بأن القائلين بذلك لم يعمموا في كل عصر ، بل [ ص: 261 ] في عصر الصحابة فقط ، قال الشيخ أبو إسحاق الشيرازي قيل ، إن المخالف أراد زمن الصحابة والتابعين ، فإن كان هذا مراده فمسلم لو اجتمع العلماء في هذه البقاع ، وغير مسلم أنهم اجتمعوا فيها .

                        وذهب الجمهور إلى أن إجماع الأئمة الأربعة أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد ليس بحجة ; لأنهم بعض الأئمة ، وذهب الجمهور أيضا إلى إجماع الخلفاء الأربعة ليس بحجة ; لأنهم بعض الأمة .

                        وذهب بعض أهل العلم إلى أنه حجة لما ورد ما يفيد ذلك كقوله صلى الله عليه وآله وسلم عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين وقوله اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر وهما حديثان صحيحان ونحو ذلك .

                        وأجيب : بأن في الحديثين دليلا على أنهم أهل للاقتداء بهم ، لا على أن قولهم حجة على غيرهم ، فإن المجتهد مستعبد بالبحث عن الدليل حتى يظهر له ما يظنه حقا ، ولو كان مثل ذلك يفيد حجية قول الخلفاء أو بعضهم ، لكان حديث رضيت لأمتي ما رضي لها ابن أم عبد يفيد حجية قول ابن مسعود وحديث : إن أبا عبيدة بن الجراح أمين هذه الأمة يفيد حجية قوله وهما حديثان صحيحان ، وهكذا حديث [ ص: 262 ] أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم يفيد حجية قول كل واحد منهم ، وفيه مقال معروف ; لأن في رجاله عبد الرحيم بن زيد العمي عن أبيه ، وهما ضعيفان جدا ، بل قال ابن معين : إن عبد الرحيم كذاب .

                        وقال البخاري : متروك ، وكذا قال أبو حاتم وله طريق أخرى فيها حمزة النصيبي ، وهو ضعيف جدا . قال البخاري : منكر الحديث ، وقال ابن معين : لا يساوي فلسا ، وقال ابن عدي : عامة مروياته موضوعة ، وروي أيضا من طريق جميل بن زيد وهو مجهول .

                        اجتماع العترة

                        وذهب الجمهور أيضا إلى أن إجماع العترة وحدها ليس بحجة ، وقالت الزيدية والإمامية هو حجة ، واستدلوا بقوله تعالى : إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا والخطأ رجس فوجب أن يكونوا مطهرين عنه .

                        [ ص: 263 ] وأجيب : بأن سياق الآية يفيد أنه في نسائه صلى الله عليه وآله وسلم .

                        ويجاب عن هذا الجواب : بأنه قد ورد الدليل الصحيح أنها نزلت في علي وفاطمة والحسنين ، وقد أوضحنا الكلام في هذا في تفسيرنا الذي سميناه فتح القدير فليرجع إليه ، ولكن لا يخفاك أن كون الخطأ رجس لا يدل عليه لغة ولا شرع ، فإن معناه في اللغة القذر ، ويطلق في الشرع على العذاب ، كما في قوله سبحانه قال قد وقع عليكم من ربكم رجس وغضب وقوله من رجز أليم والرجز : الرجس . واستدلوا بمثل قوله قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى وبأحاديث كثيرة جدا تشتمل على مزيد شرفهم وعظيم فضلهم ، ولا دلالة فيها على حجية قولهم ، وقد أبعد من استدل بها على ذلك وقد عرفناك في حجية إجماع أهل الأمة ما هو الحق ، ووروده على القول بحجية بعضها أولى .

                        التالي السابق


                        الخدمات العلمية