الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 5 ] ثم دخلت سنة ست وستين

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفيها وثب المختار بن أبي عبيد الثقفي الكذاب بالكوفة ؛ ليأخذ بثأر الحسين بن علي - فيما يزعم - وأخرج عنها عاملها عبد الله بن مطيع ، وكان سبب ذلك أنه لما رجع أصحاب سليمان بن صرد مغلوبين إلى الكوفة وجدوا المختار بن أبي عبيد الكذاب مسجونا ، فكتب إليهم يعزيهم ويعدهم ويمنيهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا ، وقال لهم فيما كتب به إليهم خفية : أبشروا ، فإني لو قد خرجت إليكم جردت فيما بين المشرق والمغرب من أعدائكم السيف ، فجعلتهم بإذن الله ركاما ، وقتلتهم فذا وتوأما ، فرحب الله بمن قارب منكم واهتدى ، ولا يبعد الله إلا من أبى وعصى . فلما وصلهم الكتاب [ ص: 6 ] قرءوه سرا وردوا إليه : إنا كما تحب ، فمتى أحببت أخرجناك من محبسك . فكره أن يخرجوه من مكانه على وجه القهر لنواب الكوفة ، فتلطف فكتب إلى زوج أخته صفية - وكانت امرأة صالحة - وهو عبد الله بن عمر بن الخطاب يسأله أن يشفع في خروجه من محبسه عند نائبي الكوفة عبد الله بن يزيد ، و إبراهيم بن محمد بن طلحة ، فكتب ابن عمر إليهما يشفع عندهما فيه فلم يمكنهما رده ، وكان فيما كتب إليهما ابن عمر : قد علمتما ما بيني وبينكما من الود وما بيني وبين المختار من القرابة والصهر ، وأنا أقسم عليكما لما خليتما سبيله ، والسلام . فاستدعيا به فضمنه جماعة من أصحابه ، واستحلفه عبد الله بن يزيد إن هو بغى للمسلمين غائلة فعليه ألف بدنة ينحرها تجاه الكعبة ، وكل مملوك له - من عبد وأمة - حر ، فالتزم لهما بذلك ، ولزم منزله ، وجعل يقول : قاتلهما الله ، أما حلفي بالله ، فإني لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرا منها إلا كفرت عن يميني ، وأتيت الذي هو خير ، وأما إهدائي ألف بدنة فيسير ، وأما عتقي مماليكي فوددت أنه قد استتم لي هذا الأمر ولا أملك مملوكا واحدا .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      واجتمعت الشيعة عليه ، وكثر أصحابه وبايعوه في السر . وكان الذي يأخذ البيعة له ويحرض الناس عليه خمسة ; وهم السائب بن مالك الأشعري ، و يزيد بن أنس ، و أحمر بن شميط ; ورفاعة بن شداد ، و عبد الله بن شداد الجشمي ، ولم يزل أمره يقوى ويشتد ويستفحل ويرتفع ، حتى عزل [ ص: 7 ] عبد الله بن الزبير عن الكوفة عبد الله بن يزيد ، و إبراهيم بن محمد بن طلحة ، وبعث عبد الله بن مطيع نائبا عليها ، وبعث الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة نائبا على البصرة .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      فلما دخل عبد الله بن مطيع المخزومي إلى الكوفة ، في رمضان سنة خمس وستين ، خطب الناس ، وقال في خطبته : إن أمير المؤمنين عبد الله بن الزبير أمرني أن أسير فيكم بسيرة عمر بن الخطاب ، و عثمان بن عفان . فقام إليه السائب بن مالك الأشعري فقال : لا نرضى إلا بسيرة علي بن أبي طالب التي سار بها في بلادنا ، ولا نريد سيرة عثمان - وتكلم فيه - ولا سيرة عمر ، وإن كان لا يريد للناس إلا خيرا . وصدقه على ما قال بعض أمراء الشيعة ، فسكت الأمير وقال : إني سأسير فيكم بما تحبون من ذلك .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وجاء صاحب الشرطة ، وهو إياس بن مضارب العجلي إلى ابن مطيع فقال له : إن هذا الذي رد عليك من رءوس أصحاب المختار ، ولست آمن المختار ، فابعث إليه فاردده إلى السجن ، فإن عيوني قد أخبروني أن أمره قد استجمع له ، وكأنك به وقد وثب بالمصر . فبعث إليه عبد الله بن مطيع زائدة بن قدامة ، وأميرا آخر معه ، فدخلا على المختار فقالا له : أجب الأمير . فدعا بثيابه وأمر بإسراج [ ص: 8 ] دابته ، وتهيأ للذهاب معهما ، فقرأ زائدة بن قدامة وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك الآية . فألقى المختار نفسه وأمر بقطيفة أن تلقى عليه ، وأظهر أنه مريض ، وقال : أخبرا الأمير بحالي ، فرجعا إلى ابن مطيع فاعتذرا عنه ، فصدقهما ولها عنه .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      فلما كان المحرم من هذه السنة عزم المختار على الخروج لطلب ثأر الحسين - فيما يزعم - فلما صمم على ذلك اجتمعت عليه الشيعة وثبطوه عن الخروج الآن إلى وقت آخر ، ثم أنفذوا طائفة منهم إلى محمد ابن الحنفية يسألونه عن أمر المختار وما دعاهم إليه ، فلما اجتمعوا به كان ملخص ما قال لهم : إنا لا نكره أن ينصرنا الله بمن شاء من خلقه . وقد كان المختار بلغه مخرجهم إلى محمد ابن الحنفية ، فكره ذلك ، وخشي أن يكذبه فيما أخبر به عنه ، فإنه لم يكن بإذن محمد ابن الحنفية ، وهم بالخروج قبل رجوع أولئك ، وجعل يسجع لهم سجعا من سجع الكهان بذلك ، ثم كان الأمر على ما سجع به . فلما رجعوا أخبروه بما قال ابن الحنفية ، فعند ذلك قوي أمر الشيعة على الخروج مع المختار بن أبي عبيد .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقد روى أبو مخنف أن أمراء الشيعة قالوا للمختار : اعلم أن جميع أمراء [ ص: 9 ] الكوفة مع عبد الله بن مطيع وهم ألب علينا ، وإنه إن بايعك إبراهيم بن الأشتر النخعي وحده أغنانا عن جميع من سواه . فبعث إليه المختار جماعة من أصحابه يدعونه إلى الدخول معهم في الأخذ بثأر الحسين ، وذكروه سابقة أبيه مع علي رضي الله عنه ، فقال : قد أجبتكم إلى ما سألتم ، على أن أكون أنا ولي أمركم . فقالوا : إن هذا لا يمكن ؛ لأن المهدي قد بعث المختار إلينا وزيرا له وداعيا إليه . فسكت عنهم إبراهيم بن الأشتر ، فرجعوا إلى المختار فأخبروه ، فمكث ثلاثا ثم خرج في جماعة من رءوس أصحابه إليه ، فدخل على ابن الأشتر فقام إليه واحترمه وأكرمه وجلس إليه فدعاه المختار إلى الدخول معهم ، وأخرج له كتابا على لسان ابن الحنفية يدعوه إلى الدخول مع أصحابه من الشيعة ، فيما قاموا فيه من نصرة آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم ، والأخذ بثأر الحسين . فقال إبراهيم بن الأشتر : إنه قد جاءتني كتب محمد ابن الحنفية بغير هذا النظام ، فقال المختار : إن هذا زمان وذاك زمان . فقال إبراهيم بن الأشتر : فمن يشهد أن هذا كتابه . فتقدم جماعة من أصحاب المختار فشهدوا بذلك . فقام ابن الأشتر من مجلسه وأجلس المختار فيه وبايعه ، ودعا لهم بفاكهة وشراب من عسل .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قال الشعبي - وكان حاضرا ذلك من أمرهم هو وأبوه - : فلما انصرف المختار ، قال لي إبراهيم بن الأشتر : يا شعبي ، وماذا ترى فيما شهد به هؤلاء ؟ فقلت : إنهم قراء وأمراء ووجوه الناس ، ولا أراهم يشهدون إلا بما يعلمون . قال : [ ص: 10 ] وكتمته ما في نفسي من اتهامهم ، ولكني كنت أحب أن يخرجوا للأخذ بثأر الحسين ، وكنت على رأي القوم .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ثم جعل إبراهيم يختلف إلى المختار في منزله هو ومن أطاعه من قومه ، ثم اتفق رأي الشيعة على أن يكون خروجهم ليلة الخميس لأربع عشرة ليلة خلت من ربيع الأول من هذه السنة ; سنة ست وستين .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقد بلغ ابن مطيع أمر القوم وما اشتوروا عليه ، فبعث الشرط في كل جانب من جوانب الكوفة ، وألزم كل أمير بحفظ ناحيته من أن يخرج منها أحد ، فلما كان ليلة الثلاثاء خرج إبراهيم بن الأشتر قاصدا إلى دار المختار في مائة رجل من قومه وعليهم الدروع تحت الأقبية ، فلقيه إياس بن مضارب فقال له : أين تريد يا ابن الأشتر في هذه الساعة ؟ إن أمرك لمريب ، فوالله لا أدعك حتى أحضرك إلى الأمير فيرى فيك رأيه . فتناول إبراهيم بن الأشتر رمحا من يد رجل فطعنه في ثغرة نحره ، فسقط وأمر رجلا فاحتز رأسه ، وذهب به إلى المختار فألقاه بين يديه ، فقال له المختار بشرك الله بخير ، فهذا طائر صالح . ثم طلب إبراهيم من المختار أن يخرج في هذه الليلة ، فأمر المختار بالنار أن ترفع ، وأن ينادى بشعار أصحابه : يا منصور أمت ، يا ثارات الحسين . ثم نهض المختار فجعل يلبس درعه وسلاحه وهو يقول : [ ص: 11 ]

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قد علمت بيضاء حسناء الطلل واضحة الخدين عجزاء الكفل     أني غداة الروع مقدام بطل

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وخرج بين يديه إبراهيم بن الأشتر ، فجعل يتقصد الأمراء الموكلين بنواحي البلد ، فيطردهم عن أماكنهم واحدا واحدا ، وينادي بشعار المختار . وبعث المختار أبا عثمان النهدي فنادى بشعار المختار : يا ثارات الحسين . فاجتمع الناس إليه من هاهنا وهاهنا ، وجاء شبث بن ربعي فاقتتل هو والمختار عند داره وحصره حتى جاء إبراهيم بن الأشتر فطرده عنه .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      فرجع شبث إلى ابن مطيع ، وأشار عليه بأن يجمع الأمراء إليه ، وأن ينهض بنفسه ، فإن أمر المختار قد قوي واستفحل ، وجاءت الشيعة من كل فج عميق إلى المختار ، فاجتمع إليه في أثناء الليل قريب من أربعة آلاف ، فأصبح وقد عبى جيشه وصلى بهم الصبح ، فقرأ فيها : والنازعات غرقا و عبس وتولى في الثانية . قال بعض من سمعه : فما سمعت إماما أفصح لهجة منه . وقد جهز ابن مطيع جيشا ؛ ثلاثة آلاف عليهم شبث بن ربعي ، وأربعة آلاف أخرى مع راشد بن إياس بن مضارب ، فوجه المختار إبراهيم بن الأشتر في ستمائة فارس وستمائة راجل إلى راشد بن إياس ، وبعث نعيم بن هبيرة في ثلاثمائة فارس وستمائة راجل إلى شبث بن ربعي . فأما إبراهيم بن الأشتر فإنه هزم قرنه راشد [ ص: 12 ] بن إياس وقتله وأرسل إلى المختار يبشره ، وأما نعيم بن هبيرة فإنه لقي شبث بن ربعي فهزمه شبث بن ربعي وقتله وجاء فأحاط بالمختار بن أبي عبيد وحصره ، وأقبل إبراهيم بن الأشتر نحو المختار بن أبي عبيد ، فاعترض له حسان بن فائد العبسي في نحو من ألفي فارس من جهة ابن مطيع ، فاقتتلوا ساعة ، فهزمه إبراهيم ، ثم أقبل نحو المختار ، فوجد شبث بن ربعي قد حصر المختار وجيشه ، فما زال حتى طردهم عنه ، وكروا راجعين . وخلص إبراهيم إلى المختار ، وارتحلوا من مكانهم ذلك إلى غيره في ظاهر الكوفة فقال له إبراهيم بن الأشتر : اعمد بنا إلى قصر الإمارة ، فليس دونه أحد يرد عنه . فوضعوا ما معهم من الأثقال وأجلسوا هنالك ضعفة المشايخ والرجال .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      واستخلف المختار على من هنالك أبا عثمان النهدي ، وبعث بين يديه إبراهيم بن الأشتر ، وعبأ المختار جيشه كما كان ، وسار نحو القصر ، فبعث ابن مطيع عمرو بن الحجاج في ألفي رجل ، فبعث إليه المختار يزيد بن أنس ، وسار هو وابن الأشتر أمامه حتى دخل الكوفة من باب الكناسة ، وأرسل ابن مطيع شمر بن ذي الجوشن - الذي قتل الحسين - في ألفين آخرين ، فبعث إليه المختار سعيد بن منقذ الهمذاني ، وسار المختار حتى انتهى إلى سكة شبث ، وإذا [ ص: 13 ] نوفل بن مساحق بن عبد الله بن مخرمة في خمسة آلاف ، وخرج ابن مطيع من القصر في الناس ، واستخلف عليه شبث بن ربعي ، فتقدم إبراهيم بن الأشتر إلى الجيش الذي مع نوفل بن مساحق . فهزمهم وأخذ بلجام دابة ابن مساحق فمت إليه بالقرابة ، فأطلقه ، فكان لا ينساها بعد لابن الأشتر .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ثم تقدم المختار بجيشه إلى الكناسة وحصروا ابن مطيع بقصره ثلاثا ، ومعه أشراف الناس سوى عمرو بن حريث ، فإنه لزم داره ، فلما ضاق الحال على ابن مطيع وأصحابه استشارهم فأشار عليه شبث بن ربعي أن يأخذ له ولهم من المختار أمانا ، فقال : ما كنت لأفعل هذا وأمير المؤمنين مطاع بالحجاز وبالبصرة . فقال له : فإن رأيت أن تذهب بنفسك مختفيا حتى تلحق بصاحبك فتخبره بما كان من الأمر ، وبما كان منا في نصره وإقامة دولته . فلما كان الليل خرج ابن مطيع مختفيا حتى دخل دار أبي موسى الأشعري ، فلما أصبح الناس أخذ الأمراء لهم أمانا من أميرهم ابن الأشتر فأمنهم ، فخرجوا من القصر وجاءوا إلى المختار فبايعوه ، وجاء المختار فدخل القصر فبات فيه ، وأصبح أشراف الناس في المسجد وعلى باب القصر ، فخرج المختار إلى المسجد فصعد المنبر وخطب الناس خطبة بليغة ، ثم دعا الناس إلى البيعة وقال : فوالذي جعل السماء سقفا مكفوفا والأرض فجاجا سبلا ، ما بايعتم بعد بيعة علي أهدى منها ، ثم نزل فدخل ودخل الناس يبايعونه على كتاب الله وسنة رسوله ، والطلب بثأر الحسين وأهل البيت ، وجاء رجل إلى المختار فأخبره أن ابن مطيع في دار أبي موسى ، [ ص: 14 ] فأراه أنه لا يسمع قوله ، حتى كرر ذلك ثلاثا ، كل ذلك يريه أنه لا يسمع قوله . فسكت الرجل ، فلما كان الليل بعث المختار إلى ابن مطيع بمائة ألف درهم وقال له : اذهب فقد أخبرت بمكانك ، - وكان له صديقا قبل ذلك - فذهب ابن مطيع إلى البصرة وكره أن يرجع إلى عبد الله بن الزبير وهو مغلوب . وشرع المختار يتحبب إلى الناس بحسن السيرة ووجد في بيت المال تسعة آلاف ألف ، فأعطى الجيش الذين حضروا معه القتال نفقات كثيرة . واستعمل على شرطته عبد الله بن كامل الشاكري ، وقرب أشراف الناس فكانوا جلساءه ، فشق ذلك على الموالي الذين قاموا بنصره ، وقالوا لأبي عمرة كيسان مولى عرينة ، وكان على حرسه : قدم والله أبو إسحاق العرب وتركنا ، فأنهى ذلك أبو عمرة إليه ، فقال : بل هم مني وأنا منهم ، ثم قال إنا من المجرمين منتقمون [ السجدة : 22 ] فقال لهم أبو عمرة : أبشروا فإنه سيقتلهم ويقربكم فأعجبهم ذلك وسكتوا .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ثم إن المختار بعث الأمراء إلى النواحي والبلدان والأقاليم والرساتيق من أرض العراق وخراسان ، وعقد الألوية والرايات . وقرر الإمارة والولايات ، وجعل يجلس للناس غدوة وعشية يحكم بينهم فلما طال ذلك عليه استقضى شريحا ، [ ص: 15 ] فتكلم في شريح طائفة من الشيعة ، وقالوا إنه شهد على حجر بن عدي ، وإنه لم يبلغ عن هانئ بن عروة ما أرسله به ، وقد كان علي بن أبي طالب عزله عن القضاء ، فلما بلغ شريحا ذلك تمارض ولزم بيته ، فجعل المختار مكانه عبد الله بن عتبة بن مسعود ، ثم عزله وجعل مكانه عبد الله بن مالك الطائي قاضيا .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية