الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                      صفحة جزء
                                                                                      العمري

                                                                                      الإمام القدوة الزاهد العابد أبو عبد الرحمن ، عبد الله بن عبد العزيز بن عبد الله ابن صاحب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عبد الله بن عمر بن الخطاب القرشي العدوي العمري المدني . [ ص: 374 ]

                                                                                      روى عن أبيه ، وعن أبي طوالة .

                                                                                      وعنه : ابن عيينة ، وابن المبارك ، وعبد الله بن عمران العائذي ، وغيرهم .

                                                                                      وهو قليل الرواية ، مشتغل بنفسه ، قوال بالحق ، أمار بالعرف ، لا تأخذه في الله لومة لائم . كان ينكر على مالك الإمام اجتماعه بالدولة .

                                                                                      قال ابن عيينة فيما رواه عنه نعيم بن حماد ، عن أبي الزبير ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوشك أن يضرب الناس أكباد الإبل فلا يجدون عالما أعلم من عالم المدينة .

                                                                                      وقد قال ابن عيينة في العمري هذا : هو عالم المدينة الذي فيه الحديث .

                                                                                      علي بن حرب ، عن أبيه قال : مضى الرشيد على حمار ، ومعه غلام إلى العمري ، فوعظه ، فبكى ، وغشي عليه .

                                                                                      قال ابن أبي أويس : كتب العمري إلى مالك ، وابن أبي ذئب ، وغيرهما ، بكتب أغلظ لهم فيها ، وقال : أنتم علماء تميلون إلى الدنيا ، وتلبسون اللين ، وتدعون التقشف . فجاوبه ابن أبي ذئب بكتاب أغلظ له . وجاوبه مالك جواب فقيه .

                                                                                      وقيل : إن العمري وعظ الرشيد مرة ، فكان يتلقى قوله بنعم يا عم ، فلما ذهب ، أتبعه الأمين والمأمون بكيسين فيهما ألفا دينار ، فردها وقال : هو أعلم بمن يفرقها عليه ، وأخذ دينارا واحدا ، وشخص عليه بغداد ، فكره [ ص: 375 ] مجيئه ، وجمع العمريين ، وقال : مالي ولابن عمكم ! احتملته بالحجاز ، فأتى إلى دار ملكي ، يريد أن يفسد علي أوليائي ، ردوه عني . قالوا : لا يقبل منا . فكتب إلى الأمير موسى بن عيسى : أن ترفق به حتى ترده . .

                                                                                      قال مصعب الزبيري : كان العمري أصفر جسيما ، لم يكن يقبل من السلطان ولا غيره ، ومن ولي من أقاربه ومعارفه لا يكلمه . وولي أخوه عمر المدينة وكرمان ، فهجره ، ما أدركت بالمدينة رجلا أهيب منه . وكان يقبل صلة ابن المبارك . وقدم الكوفة ليخوف الرشيد بالله ، فرجف لمجيئه الدولة ، حتى لو كان نزل بهم من العدو مائة ألف ، ما زاد من هيبته ، فرد من الكوفة ، ولم يصل إليه .

                                                                                      وروي أنه كان يلزم المقبرة كثيرا ، معه كتاب يطالعه ، ويقول : لا أوعظ من قبر ، ولا آنس من كتاب ، ولا أسلم من وحدة .

                                                                                      عمر بن شبة : حدثنا أبو يحيى الزهري : قال العمري عند موته : بنعمة ربي أحدث ، لو أن الدنيا تحت قدمي ما يمنعني من أخذها إلا أن أزيل قدمي ، ما أزلتها ، معي سبعة دراهم من لحاء شجرة فتلته بيدي .

                                                                                      قال ابن عيينة : دخلت على العمري الصالح ، فقال : ما أحد أحب إلي منك ، وفيك عيب . قلت : ما هو ؟ قال : حب الحديث ، أما إنه ليس من زاد الموت ، أو قال : من أبزار الموت .

                                                                                      قال أبو المنذر إسماعيل بن عمر : سمعت أبا عبد الرحمن العمري الزاهد يقول : إن من غفلتك عن نفسك إعراضك عن الله ، بأن ترى ما يسخطه فتجاوزه ، ولا تأمر ، ولا تنهى خوفا من المخلوق . من ترك الأمر بالمعروف خوف المخلوقين ، نزعت منه الهيبة ، فلو أمر ولده ، لاستخف . [ ص: 376 ]

                                                                                      قال محمد بن حرب المكي : قدم العمري ، فاجتمعنا إليه ، فلما نظر إلى القصور المحدقة بالكعبة صاح : يا أصحاب القصور المشيدة ، اذكروا ظلمة القبور الموحشة ، يا أهل التنعم والتلذذ اذكروا الدود والصديد ، وبلاء الأجسام في التراب ، ثم غلبته عينه ، فقام .

                                                                                      أنبئت عن الكاغدي ، أخبرنا الحداد ، أخبرنا أبو نعيم ، حدثنا سليمان الطبراني ، حدثنا إسحاق الخزاعي ، حدثنا الزبير بن بكار ، حدثنا سليمان بن محمد ، سمعت عبد الله بن عبد العزيز يقول : قال لي موسى بن عيسى : ينهى إلى أمير المؤمنين أنك تشتمه وتدعو عليه ، فبم استجزت هذا ؟ قلت : أما شتمه ، فوالله هو أكرم علي من نفسي ، لقرابته من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأما الدعاء عليه ، فوالله ما قلت : اللهم إنه قد أصبح عبئا ثقيلا على أكتافنا ، فلا تطيقه أبداننا ، وقذى في جفوننا لا تطرف عليه جفوننا ، وشجى في أفواهنا لا تسيغه حلوقنا ، فاكفنا مؤنته ، وفرق بيننا وبينه . ولكن قلت : اللهم إن كان تسمى بالرشيد ليرشد ، فأرشده ، أو لغير ذلك فراجع به ، اللهم إن له في الإسلام بالعباس على كل مؤمن كفا وله بنبيك -صلى الله عليه وسلم- قرابة ورحم ، فقربه من كل خير ، وباعده من كل سوء ، وأسعدنا به ، وأصلحه لنفسه ولنا . فقال موسى : رحمك الله أبا عبد الرحمن ، كذاك لعمري الظن بك .

                                                                                      قال المسيب بن واضح : سمعت الزاهد العمري بمسجد منى يقول :

                                                                                      لله در ذوي العقول والحرص في طلب الفضول


                                                                                      سلاب أكسية الأرامل     واليتامى والكهول [ ص: 377 ]


                                                                                      والجامعين المكثرين     من الجناية والغلول


                                                                                      وضعوا عقولهم من     الدنيا بمدرجة السيول


                                                                                      ولهوا بأطراف الفروع     وأغفلوا علم الأصول


                                                                                      وتتبعوا جمع الحطام     وفارقوا أثر الرسول


                                                                                      ولقد رأوا غيلان ريب     الدهر غولا بعد غول



                                                                                      وفي تاريخ ابن جرير بإسناد : أن الرشيد قال : والله ما أدري ما آمر في هذا العمري ، أكره أن أقدم عليه ، وله سلف . وإني أحب أن أعرف رأيه فينا . فقال عمر بن بزيع ، والفضل بن الربيع : نحن له ، فخرجا من العرج إلى موضع له بالبادية في مسجده ، فأناخا ، وأتياه على زي الملوك في حشمة ، فجلسا إليه ، فقالا : نحن رسل من وراءنا من المشرق ، يقولون لك : اتق الله ، إن شئت فانهض . فقال : ويحكما ، فيمن ، ولمن ؟ قالا : أنت . قال : والله ، ما أحب أني لقيت الله بمحجمة دم مسلم وإن لي ما طلعت عليه الشمس ، فلما أيسا منه ، قالا : إن معنا عشرين ألفا ، تستعين بها ، قال : لا حاجة لي بها . قالا : أعطها من رأيت ، قال : أعطياها أنتما ، فلما أيسا منه ، ذهبا ، ولحقا بالرشيد ، فحدثاه ، فقال : ما أبالي ما صنع بعد هذا . فبينا العمري في المسعى إذا بالرشيد يسعى على دابة ، فعرض له العمري ، فأخذ بلجامه ، فأهووا إليه ، فكفهم الرشيد ، وكلمه ، فرأيت دموع الرشيد تسيل .

                                                                                      قال يحيى بن أيوب العابد : حدثني بعض أصحابنا قال : كتب مالك [ ص: 378 ] إلى العمري : إنك بدوت ، فلو كنت عند مسجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- . فكتب : إني أكره مجاورة مثلك ، إن الله لم يرك متغير الوجه فيه ساعة قط .

                                                                                      قلت : هذا على سبيل المبالغة في الوعظ ، وإلا فمالك من أقول العلماء بالحق ، ومن أشدهم تغيرا في رؤية المنكر . وأما العمري فما علمت به بأسا ، وقد وثقه النسائي .

                                                                                      أخبرنا أحمد بن سلامة كتابة ، عن عبد الرحيم بن محمد ، أخبرنا أبو علي المقرئ ، أخبرنا أبو نعيم الحافظ ، حدثنا سليمان بن أحمد ، حدثنا موسى بن محمد بن كثير السريني حدثنا عبد الملك الجدي حدثنا عبد الله بن عبد العزيز العمري ، عن أبي طوالة ، عن أنس -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال : الزبانية أسرع إلى فسقة القرآن منهم إلى عبدة الأوثان ، فيقولون : يبدأ بنا قبل عبدة الأوثان ؟ فيقال : ليس من علم كمن لا يعلم غريب منكر ، ولا أعرف موسى هذا . قال مصعب الزبيري : مات العمري سنة أربع وثمانين ومائة وله ست وستون سنة -رحمه الله تعالى .

                                                                                      التالي السابق


                                                                                      الخدمات العلمية