- اسم الكاتب:إسلام ويب
- التصنيف:من بدر إلى الحديبية
في المحرم من السنة السابعة للهجرة النبوية كانت غزوة "ذي قرد (الغابة)" التي تعد من الغزوات التأديبية الكبيرة التي قادها النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه ضد أعراب نجد، لإيقاف شرهم واعتداءاتهم على المسلمين في المدينة المنورة، ولنشر الأمن والسلام في الدولة الإسلامية وما حولها.. وقد سميت بغزوة "ذي قرد" لأن الماء الذي نزل به رسول الله صلى الله عليه وسلم يقال له: "ذو قرد".. وتسمى كذلك بغزوة "الغابة"، إشارة إلى موضع قرب المدينة المنورة من ناحية الشام فيه شجر كثير..
ولم تكد تمر أيام قليلة على عودة النبي صلى الله عليه وسلم من هذه الغزوة إلى المدينة المنورة، حتى أغار عيينة بن حصن الفزاري في جماعة من مشركي قومه غطفان على لقاح (إبل ذوات لبن قريبة من الولادة) للنبي صلى الله عليه وسلم كانت ترعى، وقتلوا رجلا وأسروا امرأة من المسلمين.. وعندما سمع سلمة بن الأكوع رضي الله عنه باعتداء عيينة بن حصن الفزاري ومن معه على المسلمين، صاح منذرا لإعلام المسلمين بما حدث، وذهب بمفرده يطارد عيينة بن حصن ومن معه، وكان رضي الله عنه أسرع الناس عدوا (كان يسبق الفرس جريا)، حتى أدركهم على رجليه، وجعل يرميهم بالنبل (السهام)، وكان راميا، وهو يقول: "خذها وأنا ابن الأكوع، واليوم يوم الرضع (هلاك اللئام).. وتوالت سهامه عليهم وهو يطاردهم وحده، حتى ألقوا بالكثير من أمتعتهم التي أثقلتهم عن الهروب، وكانوا كلما ألقوا شيئا وضع عليه علامة كي يعرفها النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه الذين تبعوه، واستمر على ذلك حتى استنقذ منهم بعض الإبل، وثلاثين بردة (كساء) وثلاثين رمحا..
لحق النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه من الصحابة بسلمة بن الأكوع، واستعادوا معه الإبل كلها، ثم عاد النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة المنورة وقد أردف خلفه على ناقته سلمة رضي الله عنه، وأثنى عليه قائلا: (خير فرساننا اليوم أبو قتادة، وخير رجالتنا سلمة) رواه مسلم.
أما المرأة المسلمة التي أسرها المغيرون، فقد عادت سالمة إلى المدينة بعد أن تمكنت من الإفلات والهرب منهم، وللنبي صلى الله عليه وسلم معها موقف يرويه عمران بن حصين رضي الله عنه فيقول:
(..وأسرت امرأة من الأنصار، وأصيبت (وأخذت معهم) العضباء (ناقة النبي)، فكانت المرأة في الوثاق، وكان القوم يريحون نعمهم بين يدي بيوتهم، فانفلتت ذات ليلة من الوثاق (فكت وثاقها)، فأتت الإبل، فجعلت إذا دنت من البعير رغا (أحدث صوتا) فتتركه (مخافة أن يظهر أمرها)، حتى تنتهي إلى العضباء (ناقة النبي التي أخذها المشركون) فلم ترغ، قال: وهي ناقة منوقة (مذللة مدربة لا نفرة عندها)، فقعدت في عجزها (ركبت على مؤخرتها) ثم زجرتها (حركتها لتسرع بها في السير) فانطلقت، ونذروا بها (علم المشركون بهروبها) فطلبوها (بحثوا عنها ليمسكوا بها) فأعجزتهم (لم يستطيعوا اللحاق بها)، قال: ونذرت لله إن نجاها الله عليها لتنحرنها (تذبح الناقة صدقة)، فلما قدمت المدينة رآها الناس فقالوا: العضباء، ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: إنها نذرت إن نجاها الله عليها لتنحرنها، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكروا ذلك له، فقال: سبحان الله! بئسما جزتها (كافأتها على إحسانها بإنجائها من عدوها)، نذرت لله إن نجاها الله عليها لتنحرنها؟!! لا وفاء لنذر في معصية، ولا فيما لا يملك العبد) رواه مسلم. وفي رواية أحمد (بئسما جزيتها، أن حملك الله عليها ونجاك ثم تنحرينها، إنه لا نذر في معصية الله، ولا فيما لا تملكين، إنما هي ناقة من إبلي، فارجعي إلى أهلك على بركة الله)..
النذر: هو إيجاب الإنسان على نفسه فعلا لم يجب عليه ولم يلزمه الشرع به، فإذا كان المنذور مستطاعا لا يعجز الإنسان عن الوفاء به، وكان طاعة لم تشتمل على معصية، فإنه يجب الوفاء به..
قال النووي: " قوله صلى الله عليه وسلم: (لا وفاء لنذر في معصية، ولا فيما لا يملك العبد) في هذا دليل على أن من نذر معصية كشرب الخمر ونحو ذلك فنذره باطل لا ينعقد". وفي "عون المعبود شرح سنن أبي داود": "(لا وفاء لنذر في معصية) استدل به على أنه يصح النذر في المباح، لأنه لما نفى النذر في المعصية بقي ما عداه ثابتا".
وقال القرطبي في "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم": "وقوله صلى الله عليه وسلم: (بئس ما جزتها) ذم لذلك النذر، من حيث إنه لم يصادف محلا مملوكا لها، ولو كانت ملكا لها للزمها الوفاء بذلك النذر، إذ كان يكون نذر طاعة، فيلزم الوفاء به اتفاقا.. ويمكن أن يقال: إنما صدر هذا الذم منه لأن ذلك النذر مستقبح عادة، لأنه مقابلة الإحسان بالإساءة، وذلك: أن الناقة نجتها من الهلكة، فقابلتها على ذلك بأن تهلكها (تذبحها). وهذا هو الظاهر من قوله صلى الله عليه وسلم: (سبحان الله! بئس ما جزتها! نذرت لله: إن نجاها الله عليها لتنحرنها!!)".
والأدلة على أنه لا نذر في معصية الله كثيرة، منها ما رواه عكرمة عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: (بينما النبي صلى الله عليه وسلم يخطب إذا هو برجل قائم في الشمس، فسأل عنه قالوا هذا أبو إسرائيل نذر أن يقوم ولا يقعد، ولا يستظل، ولا يتكلم، ويصوم، قال: مروه فليتكلم، وليستظل، وليقعد وليتم صومه) رواه أبو داود. قال الخطابي: "قد تضمن نذره نوعين: الطاعة والمعصية، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم بالوفاء بما كان منها من طاعة وهو الصوم، وأن يترك ما ليس بطاعة من القيام في الشمس وترك الكلام وترك الاستظلال بالظل، وذلك أن هذه الأمور مشاق تتعب البدن وتؤذيه، وليس في شيء منها قربة إلى الله تعالى"..
فوائد:
1 ـ الأصل أنه لا يجب على المكلف إلا ما وجب عليه في أصل الشرع، لكن قد يوجب الإنسان على نفسه تكليفا بطريق النذر..
2 ـ ورد النهي عن النذر المشروط والمعلق على شيء، ومن ذلك ما رواه البخاري ومسلم عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه قال: (أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما ينهانا عن النذر، ويقول: إنه لا يرد شيئا، وإنما يستخرج به من الشحيح)، وفي رواية: (النذر لا يقدم شيئا، ولا يؤخره، وإنما يستخرج به من البخيل).. وبعض الناس عندهم اعتقاد فاسد مفاده أن الله يحقق للناذر غرضه الذي نذر لأجله، أو أن النذر يجلب لهم في العاجل نفعا، ويصرف عنهم ضرا، فنهي عنه خوفا من ذلك.. قال القاضي عياض: "ويحتمل أن النهي لكونه قد يظن بعض الجهلة أن النذر يرد القدر، ويمنع من حصول المقدر، فنهى عنه خوفا من جاهل يعتقد ذلك".. والنهي عن هذا النذر متوجه إليه قبل وقوعه من الناذر، فإذا وقع منه وجب عليه الوفاء به إن كان طاعة، لقوله صلى الله عليه وسلم: (من نذر أن يطيع الله فليطعه) رواه البخاري. قال الخطابي في "أعلام الحديث في شرح صحيح البخاري": "هذا باب من العلم غريب، وهو أن ينهى عن فعل شيء حتى إذا فعل كان واجبا"..
3 ـ النذر الممدوح هو نذر الطاعة المجرد دون تعليقه على شيء، يلزم الإنسان نفسه به حملا لها على الطاعة ومنعا للكسل، أو شكرا على نعمة حدثت بالفعل له..
4 ـ "المعاوضة هي ما يعطى تعويضا أو مقابلا لشيء"، والنذر المنهي عنه هو نذر المعاوضة الذي يعلق فيه الناذر الطاعة على حصول شيء، بحيث لو لم يحصل لم يقم بالطاعة، وهذا محل النهي، ولعل الحكمة في ذلك تكمن في أن الناذر لما نذر القربة بشرط أن يحصل له ما يريد، صار نذره كالمعاوضة، فانه لو لم يشف مريضه، لم يتصدق بما علقه على شفائه، وهذه هي حالة البخيل..
5 ـ النذر الذي يجب الوفاء به هو نذر الطاعة، وهو كل نذر في طاعة الله، سواء كان شكرا لله على ما أنعم به من نعم، أو كان على سبيل التعليق كأن ينذر نذرا يتقرب به الى الله معلقا بشيء ينتفع به يفعله إذا حصل له ذلك الشيء، فيقول: إن قدم غائبي، أو شفى الله مريضي، فعلي صوم كذا أو صدقة كذا..
6 ـ نذر المعصية: هو كل نذر فيه معصية لله، كأن ينذر زيتا، أو شمعا، أو مصباحا، أو مالا، لبعض القبور والمشاهد، أو ينذر زيارة الأضرحة والموالد الشركية، وكذا لو نذر أن يفعل معصية من المعاصي، كالزنا، أو شرب الخمر، أو أن يقطع رحمه، فلا يصل قريبه الفلاني، أو لا يدخل بيته دون مانع شرعي، فإن هذا كله مما لا يجوز الوفاء به، لقوله صلى الله عليه وسلم: (من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصيه فلا يعصه) رواه البخاري، وفي حديث عمران بن حصين عن المرأة التي نذرت ذبح الناقة: قوله صلى الله عليه وسلم: (لا وفاء لنذر في معصية، ولا فيما يملكه العبد) رواه مسلم..
السيرة النبوية بأحداثها ومواقفها المختلفة تمثل حياة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ومن مقاصد وفوائد دراستها: استخراج الدروس التربوية، والفوائد والأحكام الشرعية، ليستفيد منها المسلم في واقع حياته.. وفي هذا الموقف النبوي مع المرأة وتعجبه من نذرها لذبح الناقة التي نجاها الله بها من الحبس والأسر، وقوله: (سبحان الله، بئسما جزتها (كافأتها على إحسانها بإنجائها من عدوها)، نذرت لله إن نجاها الله عليها لتنحرنها)، فيه إظهار لقيمة الوفاء الذي كان يتصف به نبينا صلى الله عليه وسلم، هذا الوفاء الذي شمل الإنسان والحيوان، وفي ذلك درس أن نقابل الإحسان بالإحسان، والجميل بالجميل، والنعم بالشكر، لا بالجحود والكفران.. وبعد أن بين النبي صلى الله عليه وسلم للمرأة أن نذرها، وإن كان لا يليق خلقا ومروءة، فهو لا يجوز شرعا، إذ لا نذر في معصية، ولا فيما لا يملكه الإنسان، فقال لها: (لا وفاء لنذر في معصية، ولا فيما يملكه العبد)..