المسألة الثالثة عشرة
وذلك أن
السبب المشروع لحكمة لا يخلو أن يعلم أو يظن وقوع الحكمة به أو لا فإن علم أو ظن ذلك فلا إشكال في المشروعية ، وإن لم يعلم ، ولا ظن ذلك فهو على ضربين :
أحدهما : أن يكون ذلك لعدم قبول المحل لتلك الحكمة أو لأمر خارجي .
فإن كان الأول ; ارتفعت المشروعية أصلا فلا أثر للسبب شرعا ألبتة بالنسبة إلى ذلك المحل ، مثل الزجر بالنسبة إلى غير العاقل إذا جنى ، والعقد
[ ص: 391 ] على الخمر ، والخنزير ، والطلاق بالنسبة إلى الأجنبية ، والعتق بالنسبة إلى ملك الغير ، وكذلك العبادات ، وإطلاق التصرفات بالنسبة إلى غير العاقل ، وما أشبه ذلك .
والدليل على ذلك أمران :
الأول أن أصل السبب قد فرض أنه لحكمة بناء على قاعدة إثبات المصالح حسبما هو مبين في موضعه ، فلو ساغ شرعه مع فقدانها جملة لم يصح أن يكون مشروعا ، وقد فرضناه مشروعا هذا خلف .
والثاني : أنه لو كان كذلك ; لزم أن تكون الحدود وضعت لغير قصد الزجر ، والعبادات لغير قصد الخضوع لله ، وكذلك سائر الأحكام ، وذلك باطل باتفاق القائلين بتعليل الأحكام .
وأما إن كان امتناع وقوع حكم الأسباب ـ وهي المسببات ـ لأمر خارجي مع قبول المحل من حيث نفسه فهل يؤثر ذلك الأمر الخارجي في شرعية السبب أم يجري السبب على أصل مشروعيته ، هذا محتمل ، والخلاف فيه سائغ ، وللمجيز أن يستدل على ذلك بأمور :
أحدها : أن القاعدة الكلية لا تقدح فيها قضايا الأعيان ولا نوادر التخلف ، وسيأتي لهذا المعنى تقرير في موضعه إن شاء الله .
[ ص: 392 ] والثاني : وهو الخاص بهذا المكان أن الحكمة إما أن تعتبر بمحلها وكونه قابلا لها فقط ، وإما أن تعتبر بوجودها فيه ، فإن اعتبرت بقبول المحل فقط فهو المدعى ، والمحلوف بطلاقها في مسألة التعليق قابلة للعقد عليها من الحالف وغيره ، فلا يمنع ذلك إلا بدليل خاص في المنع ، وهو غير موجود ، وإن اعتبرت بوجودها في المحل ، لزم أن يعتبر في المنع فقدانها مطلقا لمانع أو لغير مانع ، كسفر الملك المترفه ; فإنه لا مشقة له في السفر أو هو مظنة لعدم وجود المشقة فكان القصر والفطر في حقه ممتنعين ، وكذلك إبدال الدرهم بمثله ، وإبدال الدينار بمثله مع أنه لا فائدة في هذا العقد ، وما أشبه ذلك من المسائل التي نجد الحكم فيها جاريا على أصل مشروعيته ، والحكمة غير موجودة .
ولا يقال : إن السفر مظنة المشقة بإطلاق ، وإبدال الدرهم بالدرهم
[ ص: 393 ] مظنة لاختلاف الأغراض بإطلاق ، وكذلك سائر المسائل التي في معناها ، فليجز التسبب بإطلاق ، بخلاف نكاح المحلوف بطلاقها بإطلاق ; فإنها ليست بمظنة للحكمة ، ولا توجد فيها على حال .
لأنا نقول : إنما نظير السفر بإطلاق نكاح الأجنبية بإطلاق ; فإن قلتم بإطلاق الجواز مع عدم اعتبار وجود المصلحة في المسألة المقيدة فلتقولوا بصحة نكاح المحلوف بطلاقها ; لأنها صورة مقيدة من مطلق صور نكاح الأجنبيات ، بخلاف نكاح القرابة المحرمة كالأم والبنت مثلا ; فإنها محرمة بإطلاق فالمحل غير قابل بإطلاق ، فهذا من الضرب الأول ، وإذا لم يكن ذلك فلا بد من القول به في تلك المسائل ، وإذ ذاك يكون بعض الأسباب مشروعا ، وإن لم توجد الحكمة ولا مظنتها ، إذا كان المحل في نفسه قابلا ;لأن قبول المحل في نفسه مظنة للحكمة وإن لم توجد وقوعا ، وهذا معقول .
والثالث : أن اعتبار وجود الحكمة في محل عينا لا ينضبط ; لأن تلك الحكمة لا توجد إلا ثانيا عن وقوع السبب ، فنحن قبل وقوع السبب جاهلون بوقوعها أو عدم وقوعها ، فكم ممن طلق على أثر إيقاع النكاح ، وكم من نكاح فسخ إذ ذاك لطارئ طرأ أو مانع منع ، وإذا لم نعلم وقوع الحكمة فلا يصح
[ ص: 394 ] توقف مشروعية السبب على وجود الحكمة ; لأن الحكمة لا توجد إلا بعد وقوع السبب ، وقد فرضنا وقوع السبب بعد وجود الحكمة ، وهو دور محال ، فإذا لا بد من الانتقال إلى اعتبار مظنة قبول المحل لها على الجملة كافيا .
وللمانع أيضا أن يستدل على ما ذهب إليه بأوجه ثلاثة : أحدها : إن قبول المحل ; إما أن يعتبر شرعا بكونه قابلا في الذهن
[ ص: 395 ] خاصة ، وإن فرض غير قابل في الخارج ، فما لا يقبل لا يشرع التسبب فيه ، وإما بكونه توجد حكمته في الخارج ، فما لا توجد حكمته في الخارج لا يشرع أصلا ، كان في نفسه قابلا لها ذهنا أو لا ، فإن كان الأول ; فهو غير صحيح ; لأن الأسباب المشروعة إنما شرعت لمصالح العباد ، وهي حكم المشروعية فما ليس فيه مصلحة ، ولا هو مظنة مصلحة موجودة في الخارج ، فقد ساوى ما لا يقبل المصلحة لا في الذهن ولا في الخارج من حيث المقصد الشرعي ، وإذا استويا امتنعا أو جازا ، لكن جوازهما يؤدي إلى جواز ما اتفق على منعه ، فلا بد من القول بمنعهما مطلقا ، وهو المطلوب .
الثاني : أنا لو أعملنا السبب هنا مع العلم بأن المصلحة لا تنشأ عن ذلك السبب ، ولا توجد به ; لكان ذلك نقضا لقصد الشارع في شرع الحكم ; لأن التسبب هنا يصير عبثا ، والعبث لا يشرع بناء على القول بالمصالح ، فلا فرق بين هذا وبين القسم الأول ، وهذا هو [ معنى ] كلام
القرافي .
والثالث : أن جواز ما أجيز من تلك المسائل إنما هو باعتبار وجود
[ ص: 396 ] الحكمة ; فإن انتفاء المشقة بالنسبة إلى الملك المترفه غير متحقق ، بل الظن بوجودها غالب ; غير أن المشقة تختلف باختلاف الناس ، ولا تنضبط ، فنصب الشارع المظنة في موضع الحكمة ضبطا للقوانين الشرعية ، كما جعل التقاء الختانين ضابطا لمسبباته المعلومة ، وإن لم يكن الماء عنه لأنه مظنته ، وجعل الاحتلام مظنة حصول العقل القابل للتكليف ; لأنه غير منضبط في نفسه ، إلى أشياء من ذلك كثيرة .
وأما إبدال الدرهم بمثله ، فالمماثلة من كل وجه قد لا تتصور عقلا ; فإنه ما من متماثلين إلا وبينهما افتراق ولو في تعيينهما ، كما أنه ما من مختلفين إلا وبينهما مشابهة ، ولو في نفي ما سواهما عنهما ، ولو فرض التماثل من كل وجه فهو نادر ، ولا يعتد بمثله أن يكون معتبرا ، والغالب المطرد اختلاف الدرهمين ، والدينارين ، ولو بجهة الكسب ، فأطلق الجواز لذلك ، [ وإذا كان ذلك ] كذلك ; فلا دليل في هذه المسائل على مسألتنا .