الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

بعد وفاة أبي حزنت كثيراً وأشعر أني جسد بلا روح

السؤال

توفي أبي منذ ثلاثة أشهر ونصف، فجأة، هو الأب والسند والحماية بالنسبة لي، هو المرشد والمرجع في الحياة.

كل ما سأكتبه لن يوفيه حق مكانته، فقد كان جداً مسؤولاً عنا، وفياً، طالباً للعلم دائماً، مثقفاً، يريدنا دائماً في أحسن المراتب، وأعلى الأخلاق، رغم تظاهري بالقوة من أجل أمي وإخوتي -أعلم أنه لا بد لنا من الصبر لأنه أمر الله-، إلا أنني أشعر بأني جسد دون روح، تفكيري كله في فقد أبي.

الإجابــة

بسم الله الرحمن الرحيم
الأخت الفاضلة/ إيمان حفظها الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:

أهلاً بك -أختنا الكريمة- في موقعك إسلام ويب، ونسأل الله أن يرحم والدك، وأن يغفر له ما قدم وما أخر، وما أسر وما أعلن، وأن يجعل مقامه في عليين، مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، إنه ولي ذلك والقادر عليه.

أختنا الكريمة: لا شك أن المصاب في فقد والد بهذا الوصف: ابتلاء عظيم، لكن على عظم الابتلاء يكون عظم الأجر عند الله تعالى، وأنت -والحمد لله- مؤمنة بقضاء الله، وتعلمين أن ﺍﻟﺼﺒﺮ ﻣﻦ ﺍﻟﺪﻳﻦ ﺑﻤﻨﺰﻟﺔ ﺍﻟﺮﺃﺱ ﻣﻦ ﺍﻟﺠﺴﺪ، وأن مقام الصبر من أعظم مقامات الإيمان، والله يعطى على الصبر الأجر الجزيل، لذا أمر به فقال: (وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ).

نحن ندرك -أختنا- أن الصبر مر تذوقه، وصعب على النفس تقبله بيسر، لكنه في النهاية ضياء للقلب ونجاة له، يقول ابن رجب: (ولما كان الصبر شاقاً على النفوس، يحتاج إلى مجاهدة النفس وحبسها وكفها عما تهواه كان ضياء).

ثانياً: يعينك على تجاوز الألم أو التعايش الإيجابي معه، ومعرفتك أن الأصل في هذه الحياة أنها مجبولة على الحزن والهم، ومن أصدق ما قيل في ذلك قول الشاعر:

حكم المنية في البرية جارِ . ما هذه الدنيا بدار قرار
بينا يرى الإنسان فيها مخبراً . حتى يرى خبراً من الأخبار
جبلت على كدر وأنت تريدها . صفواً من الأقدار والأكدار
ومكلف الأيام ضد طباعها . متطلبٌ في الماء جذوة نار
فالعيش نوم والمنية يقظة . والمرء بينهما خيال سار
وإذا رجوت المستحيل فإنما . تبني الرجاء على شفير هار

ثالثاً: لا يخفاك -أيتها الفاضلة- أن أفضل معين على الصبر هو التسليم لله في قضائه، والإيمان بأن الخير كل خير فيما قضى الله وقدر، كما قال صلى الله عليه وسلم: (عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له). رواه مسلم.

رابعاً: من المعينات كذلك على الصبر استحضار الأجر، وما أعده الله من فضل للصابرين، ومنها:

1- أن الله معهم قال تعالى: (واصبروا إن الله مع الصابرين).

2- الإمامة في الدين منوطة بالصبر واليقين، قال تعالى: (وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون).

3- مرد الصبر عظيم، وهو الخير لصاحبه، قال تعالى: ( ولئن صبرتم لهو خير للصابرين).

4- محبة الله للصابرين، قال تعالى: (والله يحب الصابرين).

5- بشر الله الصابرين بثلاث، كل منهن خير من ملء الأرض ذهباً، قال تعالى: (وبشر الصابرين * الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون * أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون).

6- الفوز بالجناة والنجاة من النار منحة للصابرين قال تعالى: (إني جزيتهم اليوم بما صبروا أنهم هم الفائزون).

خامساً: من المعينات كذلك على الصبر استحضار الأحاديث فيه، ومن تلك الأحاديث:

1- عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال : قال رسول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( مَنْ يَتَصَبَّرْ يُصَبِّرْهُ اللَّهُ، وَمَا أُعْطِيَ أَحَدٌ عَطَاءً خَيْرًا وَأَوْسَعَ مِنْ الصَّبْرِ).

2-عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنها أَنَّهَا قَالَتْ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: ( مَا مِنْ مُسْلِمٍ تُصِيبُهُ مُصِيبَةٌ فَيَقُولُ مَا أَمَرَهُ اللَّهُ " إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، اللَّهُمَّ أْجُرْنِي فِي مُصِيبَتِي وَأَخْلِفْ لِي خَيْرًا مِنْهَا " إِلا أَخْلَفَ اللَّهُ لَهُ خَيْرًا مِنْهَا).

3- صُهَيْبٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (عَجَبًا لأَمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَاكَ لأَحَدٍ إِلا لِلْمُؤْمِنِ ، إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ).

سادساً: استحضار قصص أهل البلاء في القرآن والسنة والقراءة فيها، والاستماع إلى كلام السلف حول معاني الصبر معين آخر، ومن ذلك قول عمر رضي الله عنه: (وجدنا خير عيشنا بالصبر). وقول علي رضي الله عنه: (الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد فإذا ذهب الصبر ذهب الإيمان). وقول الحسن: (وجدت الخير في صبر ساعة). وقال عمر بن عبد العزيز: (ما أنعم الله على عبد نعمة فانتزعها منه فعاض مكانها الصبر إلا كان ما عوضه خيرًا مما انتزعه).

سابعاً: -أختنا الكريمة- إننا مؤمنون بأن هذه الدنيا مرحلة، وهي أقصر المراحل في الحياة الخالدة، ومن وراء هذه الدنيا نعيم لا ينفد، وحياة لا كدر معها ولا ألم، والعمل على اللحاق بهذا الركب المبارك هو ما ينبغي أن يكون شاغلًا لكل واحد فينا، وتذكري أختنا قول الله (وما عند الله خير وأبقى) فاعلمي أن البر به بعد موته لم ينقطع، بالدعاء له، والصدقة عنه، وصلة من كان يحبهم، يكون من البر.

نسأل الله أن يرحم والدك، وأن يبارك في عمرك، والله والموفق.

مشاركة المحتوى

مواد ذات صلة

الاستشارات

الصوتيات

تعليقات الزوار

أضف تعليقك

لا توجد تعليقات حتى الآن

بحث عن استشارة

يمكنك البحث عن الاستشارة من خلال العديد من الاقتراحات



 
 
 

الأعلى تقيماً