الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

كيفية التخلص من الوساوس القهرية المتعلقة بالدين؟

السؤال

السلام عليكم..

فضيلة الدكتور:
سأحاول من خلال رسالتي هذه أن أفسر لك حالتي، لأنها حالة يصعب فهمها.
أنا يا فضيلة الدكتور فتاة أبلغ من العمر 27 سنة، محامية، ومتحجبة، وأقوم بكل ما يرضي ربنا تبارك وتعالى، إن شاء الله.
منذ العاشرة واظبت على الصلاة وعملت جاهدة على تطبيق تعاليم الإسلام، وجدت نفسي متعلقة بقوة غريبة اسمها الله، فأحببته وأحببت رسوله الكريم وتعلقت بالقرآن.

عشت في الطمأنينة والسكينة والسعادة والتفاؤل، لا أفكر إلا في إرضاء ربي لأنال الجنة.

فجأة ومنذ 3 سنوات، فتحت عيني ذات ليلة ووجدت نفسي مضطربة حائرة، ما الذي أصابني؟ فاقشعر منه بدني؟ وبدأت الأسئلة تنهال على عقلي، من أنت؟ ومن الإنسان؟ ما هي هذه الدنيا؟ من هو الله؟ ما معنى الله؟ من خلقه؟ ما هي الجنة والنار؟ ما هو الخلود؟ هل أنت فعلاً موجودة أم أنك غير موجودة؟
ضحكت في البداية وحاولت طرد هذه الأفكار لكنها كانت ملحة وصاحبتني ليالي وأياماً ولم أجد لها أجوبة؟ مما زاد في اضطرابي وحتى التي وجدت لها أجوبة لم أكن مقتنعة بها، وأحسست بأني أفقت على حقيقة مزعجة أدخلتني في دوامة الحزن والاكتئاب، فندمت كثيراً لأني سمحت لعقلي أن يفكر في أسئلة فوق طاقة البشر.

أرجو يا فضيلة الدكتور أن تكون قد فهمت ولو جزءا مما فكرت فيه، لأني شعرت بالعجز عن وصف الضياع الذي كنت فيه، بعد هذه التجربة القاسية أقبلت أكثر على طاعة الله سبحانه، ونسيت نوعاً ما من هذه الأسئلة، لكني كنت دائماً خائفة بيني وبين نفسي من أن تعاودني تلك الأفكار.

حاولت، جاهدت، أن لا أطرق هذا الباب مجددا، لكن هيهات، لقد عادت إلي هذه الأسئلة اليوم وبأكثر حدة وألم.

لقد تعبت يا فضيلة الدكتور مما أنا فيه، خارت قواي وأنا أقاوم بكل ما عندي، علني أنقذ ما يمكن إنقاذه من الطمأنينة والسكينة، فأصابني الجزع والاضطراب واليأس.

إن ما يزيد في قلقي هو أني عندما تأتيني تلك الأسئلة أشعر بالنقمة (أستغفر الله) ويخيل لي أننا نحن خلق الله لعب بين يديه سبحانه (أستغفر الله) وأحس بالفناء والتعاسة، لأنني إنسان لا أعرف هويتي ولا مصيري، وأشعر بالرعب من الحياة الأخرى والخلود، وأتساءل إلى متى إلى متى؟ وأتوه في هذا إلى أن أشعر بصداع وغيبوبة.

أعلم بأني مخطئة في التفكير بكل ذلك، ولكن لا أستطيع أن أضع حدا لذلك، وحتى وإن أفلحت في ذلك أبقى قلقة من الحقائق التي توصلت لها، فهذه الحياة غامضة، وهناك لغز إن توصلت لحله فسأكون سعيدة، وإن فشلت فأنا شقية لا محالة.

فضيلة الدكتور! أنا خائفة حائرة، أرجو منك أن تفهمني وتفسر لي حالتي هذه؟ قيل لي أنه من تلبيس إبليس، وأنه عين حاسدة، وأنها أفكار وسواسية، وأنا لست مقتنعة رغم قوة الحجة.

أرجوك يا فضيلة الدكتور، إني خائفة ومرهقة، ضيعت كل شيء في حياتي! وبت أركض وراء هذه الأفكار، وأعيش حالة من الحيرة منذ أكثر من شهر، أحس بأني في طريق العصيان، فقدت أعصابي وراحتي، أصبحت حياتي جحيما، أفكر في الانقطاع عن عملي والانزواء في مكان بعيد، ساعدني يا شيخ! لا أريد إلا أن أكون إنسانة مؤمنة إيمانا صادقاً وراسخا، وأن أجد السعادة والسكينة التي فقدتها.

الإجابــة

بسم الله الرحمن الرحيم.
الأخت الفاضلة/ س حفظها الله
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:

فلقد قرأت رسالتك واطلعت عليها بكل دقة وتأمل، وقد احتوت رسالتك على هذه الأسئلة التي تنتاب بعض الناس، وهذه الأفكار تكون متسلطة وتكون سخيفة وذات طابع فلسفي، وهي تقوم على أفكار يؤمن الإنسان بسخفها ولكنها تفرض نفسها عليه.

حقيقةً أيتها الأخت الفاضلة أرجو أن أؤكد لك بصورة قطعية أن هذه الأفكار هي ما يعرف بالأفكار أو الاجترارات الوسواسية القهرية، أفكار واجترارات وسواسية قهرية، ومن صيغة التسمية -إن شاء الله- سوف تقتنعين تماماً أن هذه الأفكار هي هكذا وليست شيطانية ولا علاقة لها بالمس مطلقاً.

الوساوس القهرية تكون في عدة أشكال، ربما تكون أفكارا كما هو يحدث لك، أو ربما تكون خيالات، أو تكون مخاوف، أو تكون في صورة شكوك وتردد وتأخذ الطابع الطقوسي والفعلي في بعض الأوقات. أعرف -يا أختي- أن الوساوس -بكل أسف- دائماً تنمو من أفكار الناس وحول عقائدهم، وفي بعض الحالات تكون ذات طابع جنسي، وكلها مؤلمة للنفس، ولكن صدقيني أنها إن شاء الله لخير، لأننا نعرف أن الوساوس تصيب دائماً الأشخاص الحساسين وأصحاب الضمائر اليقظة وأصحاب القيم العالية، وكل الدراسات تشير إلى أن الشخصية الوسواسية تحمل هذه السمات لدرجة كبيرة.

الذي أرجو أن أؤكده لك أن الوساوس هي مكتسبة، ويقال: إن هنالك تغيراً كيميائياً يحدث أيضاً في مناطق معينة في الدماغ، وهذا التغير يحدث لمادة تعرف بالسيرتونين وهو الذي يؤدي إلى حدوث هذه الظاهرة بشرط أن يكون للإنسان الاستعداد لذلك، وهذا الاستعداد يكون قائماً على البناء النفسي للشخصية أو الوراثة في بعض الحالات، ولابد أن تكون هنالك حادثة معينة أو اطلاع معين قد مررت عليه وكان هذا هو السبب في تولد هذه الوساوس.

الذي أود أن أؤكده لك أنها -إن شاء الله- سوف تعالج، وإن شاء الله سوف تزول، وهي لا علاقة لها مطلقاً بالأمراض العقلية أو الأمراض الذهانية، كما أنها ليست من قبيل وسوسة الشيطان، وإن كان هنالك خلاف حول هذا الأمر، ولكن أنت الحمد لله مؤمنة ومواظبة على عباداتك، وهذه الوساوس لا تدل مطلقاً على ضعف في إيمانك أو في شخصيتك، بل على العكس تماماً، أقول أنها ليست شيطانية، ولكن لابد أن نستعيذ بالله العظيم من الشيطان الرجيم دائماً، فالدعاء سلاح مطلوب في هذه المواقف وغيرها.

طريقة العلاج تنقسم إلى طريقتين أساسيتين: الطريقة الأولى هي السلوكية المعرفية، والطريقة الثانية هي الطريقة العلاجية الدوائية.

بالنسبة للوساوس ننصح الإنسان أن يكتب هذه الوساوس جميعها، يبدأ بأقلها ثم بعد ذلك الأشد والأشد وهكذا، ثم بعد ذلك تبدئي في تداول الفكرة مع نفسك وتقولي لنفسك أن هذه فكرة سخيفة يجب ألا أفكر فيها، هذه فكرة سخيفة يجب ألا أفكر فيها، كرري ذلك عدة مرات، مع محاولة بناء القناعة الذاتية بسخفها.

الطريقة الثانية هي أنه حين تأتيك الفكرة، أو حتى يمكنك استجلاب هذه الفكرة، ثم بعد ذلك القول بصوت مرتفع وقوي: قف .. قف .. قفي أيتها الفكرة .. قفي أيتها الفكرة السخيفة .. وهكذا.

الطريقة الثالثة: هي أن تحاولي أن تفكري في الفكرة الوسواسية وفي نفس الوقت تقومي بإيقاع أو إنزال نوع من الألم الجسدي على نفسك، وهنالك عدة طرق منها الطريقة البسيطة وهي أن تقومي بالضرب على يديك بقوة شديدة حتى تحسي بالألم، وهنا لابد أن يقترن الألم بالفكرة في نفس اللحظة، وهذا رابط مهم جدّاً.

هذه التمارين يجب أن تكرر عدة مرات، ولابد أن يخصص لها وقت؛ بمعنى أن تكوني جالسة في مكان مريح وتعرفي أن هذه الجلسة العلاجية مع النفس، وتكرر يومياً وتفضل بمعدل مرتين في اليوم، ومعظم الدراسات تدل أن الناس بعد أسبوعين أو ثلاثة يحدث لهم تحسن كبير.

هنالك طريقة سلوكية رابعة -وإن كان حولها بعض الخلاف- وهي أن يكرر الإنسان الفكرة الوسواسية، يكررها عدة مرات، مئات المرات، حتى يحس أنه قد أجهد وتعب منها، هذه أيضاً طريقة جيدة وتفيد بعض الناس ولكن يُفضل عليها الطرق الثلاثة الأولى.

المنهج العلاجي الآخر هو المنهج الدوائي، وأرجو أيتها الأخت الفاضلة أن تتناولي الأدوية لأنها الحمد لله سليمة ومريحة وسريعة الفعالية ومدعمة للعلاج السلوكي.

هنالك دوائان أرجو أن تبدئي في تناولهما.. الدواء الأول يعرف باسم بروزاك، وجرعته هي كبسولة واحدة في اليوم، استمري عليها لمدة ستة أشهر، وتبدئي معه في نفس الوقت بدواء آخر يعرف باسم فافرين، جرعة الفافرين في البداية هي 50 مليجرام ليلاً ترفع بعد أسبوعين إلى 100 مليجرام، ثم بعد أسبوعين أيضاً ترفع إلى 200 مليجرام.

إذن تكون الجرعة العلاجية الكاملة بالنسبة لك هي: كبسولة واحدة من البروزاك، و200 مليجرام من الفافرين، تستمري – كما ذكرت لك – مدة ستة أشهر على هذه الجرعة الكاملة، بشرط الالتزام اليومي بتناول الدواء؛ لأن هذه الأدوية تعمل عن طريق ما يعرف بالبناء الكيميائي.

بعد الفترة الستة أشهر يمكن أن تخفضي الفافرين إلى 100 مليجرام فقط، وتستمري عليه مع تناول البروزاك في نفس الوقت لمدة ثلاثة أشهر أخرى، ثم بعد ذلك توقفي عن تناول البروزاك، واستمري على الفافرين لمدة ثلاثة أشهر أخرى أيضاً، بعدها خفضي جرعة الفافرين إلى 50 مليجرام لمدة شهر، ثم توقفي عنه.

هذه الأدوية -إن شاء الله- سليمة وفعالة، وبعد أسبوعين إلى ثلاثة من بداية الدواء سوف تحسين إن شاء الله بفارق كبير، وسوف تحسين أن القلق والتوتر أصبحا أقل شدة، كما أن الوساوس بدأت إن شاء الله في الاضمحلال وسوف تزول.

أرجو أن أؤكد لك أن حالتك هي وساوس قهرية، وأنها إن شاء الله ستكون تحت السيطرة الكاملة، فقط عليك الالتزام بالتعليمات السلوكية السابقة وتناول الأدوية التي ذكرتها لك، ولابد أن تستمري في عملك وتكوني فعالة، ولا تتركي لهذه الوساوس سبيلاً لشد انتباهك وصرفه عن عملك ومتطلبات الحياة الأخرى.

وأسأل الله لك التوفيق والسداد.

مشاركة المحتوى

مواد ذات صلة

الاستشارات

الصوتيات

تعليقات الزوار

أضف تعليقك

لا توجد تعليقات حتى الآن

بحث عن استشارة

يمكنك البحث عن الاستشارة من خلال العديد من الاقتراحات



 
 
 

الأعلى تقيماً