الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

كيفية التعامل مع الأب البخيل التارك للصلاة

السؤال

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

ترددت كثيراً قبل الكتابة عن هذا الموضوع، ولكن لكل إنسان حدود يستطيع تحملها، وموضوعي هو أني أكره أبي كرهاً شديداً، وذلك لأنه من النوع المحب للمال، ويحاسب كل قطعة تخرج من جيبه، ويغضب عندما نشتري حوائج ذات أسعار كبيرة، وعندما نذهب للتسوق فإنه يتبعنا كالظل ليرى إن كان سعر السلعة التي سنشتريها تناسبه أم لا، وعندما لا تناسبه فإن معركة حامية تحدث بينه وبين البائع، ويبدأ بالنفاق والكذب فيحلف بأنه سأل عن هذه السلعة في المحل الفلاني بأن سعرها كذا (وهو في الواقع لم يذهب إلى ذلك المحل)، والبائع المسكين يصدقه ويبيع السلعة بالثمن الذي يريده أبي.

وعندما نعود إلى البيت فإن السلعة التي اشتريناها من ذلك المحل تتلف بسرعة؛ لأن والدي اشتراها بدون رضا البائع، وأحياناً أحاول شراء السلعة كما يريدها البائع عندما لا تنفع محاولات أبي، ولكني أتلقى الشتم والسب واللعن من طرف أبي، وأكتم حزني في داخلي ولا أقول شيئاً، وتستمر الأمور هكذا.

والأمر الآخر هو أن لسان أبي لا يسلم منه أي شخص، حيث يسبهم ويشتمهم أمامهم، وأمامنا يقول كلاماً أخجل من سماعه، وعندما يقابل الآخرين يبتسم لهم ابتسامة عريضة لا نراها في المنزل، فهو في المنزل دائم العبوس.

وهو يكرهني كرهاً شديداً، حيث قال لي: إنه لا يحبني، ويعترف بأنه لا يطيق رؤيتي، والسبب هو أنني دائمة الحرص على تنبيهه على الخطأ، فأقول: يا أبي! هذا خطأ، وهذا صواب، فلا أجد منه كلمة (شكراً)، وإنما: (لعنة الله عليك وعلى اليوم الذي جئت فيه إلى الدنيا)!

وعندما أسمع هذا الكلام أركض إلى غرفتي وأبكي لمدة طويلة، وإخواني يخشون منه فيسكتون عندما يعمل الخطأ، ولهذا يحبهم أكثر مني، ويحب إخواني ذوي المناصب العليا في العمل لأنهم يعطونه المال، وأنا لا أعمل، وقد قال لي ذات مرة: أنت عالة علي بجلوسك في المنزل دون عمل، فتحطمت نفسيّاً من كلامه، وأمي لا حول لها ولا قوة ولا تستطيع قول شيء له.

والمصيبة الكبرى هي أنه لا يصلي ولا يصوم، وأنصحه بالصلاة فيقول: أنا إنسان مريض، فأعجب من هذا الجواب، وهل يعتبر مرض السكري سبباً في العزوف عن الصلاة، وهو الآن مبتلى بعدة أمراض، فأقول في نفسي: (الله يمهل ولا يهمل)، وأشعر بأني شريرة عندما أقول هذا الكلام في نفسي.

ولقد تعبت نفسياً ولا أطيق رؤيته، ولم تنفع معه النصيحة أو التوجيه، ولا أريد أن أكون عاقة ولكن لم أعد أحتمل، فجلوسي في البيت أشبه بالجحيم، ولا أستطيع تخيل بقية حياتي -إن لم يكتب لي نصيب في الزواج أو العمل- مع إنسان مثله، فكيف لي أن أغير أبي وأعيده إلى طريق الإيمان؟ وماذا علي أن أفعل؟

علماً أنه في سن كبيرة والشعر الأبيض يملأ رأسه.

وشكراً لكم.

الإجابــة

بسم الله الرحمن الرحيم
الأخت الفاضلة/ أمة الله حفظها الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:

فإننا نشكر لك غيرتك على الدين والقيم، ونسأل الله أن يهدي والديك إلى الدين والأخلاق والشيم، ونسأل الله أن يثيبك ويعينك على تجاوز الأزمات، ومرحباً بك في موقعك بين آباء وأخوان يتمنون لك التوفيق والخير.

وأرجو أن تقتربي من والدك وتزيدي من برك له، وحاولي أن تهتمي أولاً بأمر الصلاة؛ لأن الطبيب الناجح إذا جاءه مريض مصاب بعدد من الأمراض فإنه يبدأ بعلاج الأخطر والأكبر، فترك الصلاة هو أعظم جريمة بعد الشرك بالله، وأرجو أن يعاونك على إصلاح الوالد الأعمام والأهل والصالحون ممن يعرفون الوالد، مع ضرورة أن تكثري له من الدعاء.

وإذا وجدت من الوالد مضايقات أو كلمات فعليك بالصبر، وتذكري أنك مأجورة على كل ذلك، وإذا تذكر الإنسان لذة الثواب نسي ما يجد من الآلام، واعلمي أن الله سبحانه يدافع عنك وعن أهل الإيمان، وسوف يهيئ لك الخير بفضله ومنه وكرمه.

ولا شك أن الوالد مخطئ في أقواله وأفعاله، ولكننا ندعوك إلى الحكمة في المعالجة وندعوك لاختيار الألفاظ المناسبة والأوقات المناسبة والحرص على عدم نصحه عند غضبه، ولا توجهيه أمام الناس، واطلبي مساعدة الأهل.

وهذه وصيتي لك بتقوى الله ثم بكثرة اللجوء إليه، وتذكري أن شريعة الله تأمرك بالإحسان للوالد حتى ولو كان على غير الإسلام، وحتى لو أمرك بالعصيان ولكنك لا تطيعينه إذا أمرك بمعصية الخالق، قال تعالى: (( وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا ))[لقمان:15]، ثم قال سبحانه (( وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ ))[لقمان:15].

وبالله التوفيق والسداد.
--------------------------------------------------------------------------------
انتهت إجابة المستشار الشرعي د. أحمد الفرجابي، ولمزيد من البسط والتفصيل فقد أحلنا الاستشارة على المستشار الشيخ موافي عزب، فأجاب قائلاً:

فإنه ليسرنا أن نرحب بك في موقعك (استشارات الشبكة الإسلامية)، فأهلاً وسهلاً ومرحباً بك، وكم يسعدنا تواصلك معنا في أي وقت وفي أي موضوع، ونسأله تبارك وتعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العلا أن يصلح لك والدك وأن يغفر له وأن يتوب عليه، وأن يرزقه حسن الخلق وأن يعينه على ذكره وشكره وحسن عبادته، كما نسأله أن يثبتك على الحق وأن يشرح صدرك وأن يزيدك صلاحاً وتقىً، وأن يجعلك من الداعيات إليه على بصيرة وألا يحرمك بر والدك، إنه جواد كريم.

وبخصوص ما ورد برسالتك فإنه لأمر مؤلم حقّاً أن يعيش الإنسان مع أبٍ بهذه الصورة، حقاً إنها صورة مزعجة ومؤلمة ومنفرة، ولكن ما الحل؟ يبقى هنا السؤال، أبٌ طاعن في السن اشتعل رأسه شيباً يحمل صفات موروثة، تسربت إليه من البيئة التي رُبي فيها أو من المحيط الذي عاش فيه فترة من الزمن، أو من الظروف التي عانى منها، حتى أصبح حريصاً على هذا المال الحرص الشديد، ويحرص أن يأخذ الأسعار بأقل من قيمتها وذلك بدافع حبه للمال؛ لأن بعض الناس في أول حياتهم قد تعرضوا لمشاكل وأزمات طاحنة فأصبحت المادة تساوي عندهم قيمة كبيرة، ولذلك يحرصون على عدم إنفاقها إلا في أضيق الحدود.

وأيضاً قد يرون أن أبناءهم مبذرون ولذلك ينكرون عليهم، وقد يكون ما يوجهه إليك من سب وإهانة لأن الله قد منَّ عليك بتوجيهه ونصحه، وكونك تتكلمين معه، فهو لا يريد ذلك؛ لأنه نشأ ولا يريد أن يقول له أحد: هذا صواب وهذا خطأ، وإنما يريد من الناس أن يثنوا على تصرفاته حتى وإن كانت غير صائبة.

وأما أمك – حفظها الله – فإن تصرفها معه نتيجة للسلبية التي عاشتها معه لمعرفتها به وبظروفه وبأخلاقه، وهذا جعل والدك يتصور أن المرأة المثالية هي المرأة السلبية، ولذلك ينكر عليك ذلك، والدليل على ذلك أنه لا ينكر على إخوانك كما ينكر عليك، ويحبهم أكثر منك، لأنهم لا يوجهون أي نقد أو توبيخ أو اتهام.

والحل هو أننا نحنُ الذين نستطيع أن نغير من سلوكنا ومن تصرفاتنا ومن أفعالنا، ويصعب جدّاً على أي قوة في الأرض أن تغير من تصرفات والدك؛ لأن هذه رحلة طويلة جاوزت الخمسين أو الستين من العمر، وتأصلت تلك الأخلاق والصفات في أعماقه وجذوره، فقد تخرج روحه ولا تخرج منه هذه الصفات إلا بقوة الله جل جلاله وحده، وأما بتصرفات البشر العادية فمن الصعب أن يحدث التغيير الكلي، وأما التغيير الجزئي فهو ممكن، ولذلك جربي طريقة أخرى في التعامل، ولا أقصد بذلك التوقف عن النصيحة، ولكني أريدك أن تغيري طريقة النصيحة، وغيِّري الأسلوب الذي يستعمل لعل هذا الأمر يجدي نفعاً.

فتوقفي عن النصيحة فترة لعل هذا يجعل قنوات الود بينك وبين أبيك تعود إلى مجاريها، خاصة أنه ينظر إليك على أنك عالة لست منتجة بالنسبة له، فإذن موقفك بالنسبة له ليس بالموقف الذي يُقبل منه، ولذلك لابد من مراعاة ذلك، فمثلاً: لا تخرجي معه إلى السوق ودعيه يشتري كيف شاء ويتصرف كيفما يريد، فهذه مسألة بينه وبين الله تعالى ولا تتكلمي أنت فيها، وما دمت قد سبق أن وجهته فهو يعرف، ولذلك اتركيه فترة وعليك بالإكثار له من الدعاء.

وأما قضية الصلاة فإنها من القضايا التي يمكن أن تُعرض بصورة أخرى، فمن الممكن عن طريق شريط مسجل يوضح بعض المشايخ فيه حكم الصلاة أو الكلام عن الجنة والنار، ثم تقولي: ما رأيك يا والدي العزيز أن نستمع هذا الشريط مثلاً إذا كان هناك فرصة أو متسع، أو حتى بدون استئذانه ضعي هذه المادة في البيت تتكلم عن ذلك مثلاً.

ومن الممكن أيضاً أن تستعيني ببعض الصالحين من كبار السن من أمثاله، ليعينه على قضية الصلاة، أي: تتصلين بأحد أعمامك أو أقاربك المقربين منه وتطلبين منه المساعدة في أن يزور والدك في وقت الصلاة ويقول له: هيا يا أبا فلان نصلي في المسجد، وإذا تكلم بالعلل والأمراض فيقول له: نحن كلنا علل وأمراض، ويشرح له قضية الصلاة على اعتبار أنها القضية الخطيرة والأهم.

وأما القضايا الأخرى كالسلوك فيصعب تغييرها، وسيظل عليها حتى يلقى الله تعالى إلا إذا جاءت معجزة من السماء، وعندما تتوقفين عن هذا الأسلوب من التعامل فيمكن أن تتوقف حدة هذه الألفاظ وتلك العبارات، ولعل هذا يصلح ما بينك وبينه.

وأتمنى أن تكثري له من الدعاء، فإن والدك مريض، والمريض يحتاج إلى علاج ولا يحتاج إلى سب أو مقاطعة أو إنكار، ويحتاج إلى من يمد يده لعلاجه، وأنت الطبيب الماهر، فقدمي له الدواء بأسلوب لين هينٍ، وثقي وتأكدي من أنه سيقبله.

وستكون هداية والدك على يدك بمشيئة الله تعالى، ولكن اخرجي من إطار الأسرة وابحثي عن أشخاص آخرين في مثل سنه، واعرضي واشرحي لهم وجهة نظرك من أن والدك لا يصلي وأنك تخافين عليه وأنك تسألينهم مساعدتهم في هذا الأمر، ويحرصون على ذلك، فإمام المسجد لو اتصلتم به وتكلمتم معه وجاء لزيارتكم في البيت بصورة أو بأخرى قد يتسبب ذلك في صلاحه، وأوصيك وأخواتك جميعاً بالدعاء له والحرص على حسن معاملته؛ لأنك تعلمين أن مقام الأبوة بعد مقام الألوهية: (( وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ))[الإسراء:23]، خاصة في هذا السن المتقدم يحتاج إلى خبرة ويحتاج إلى حسن تعامل حتى يشرح الله صدره لقبول أعمالك.

وقد جرت العادة بأن الأب يرى نفسه دائماً على صواب ويرى أبناءه لا يعرفون شيئاً، باعتبار أن عنده خبرة تراكمية وأنتم لا تعرفون شيئاً، وما تعبتم في هذه الأموال وتأتيكم بالراحة، وأما نحن فقد تعبنا فيها، فهذا كلام يقوله كل الآباء في كل زمان ومكان، ولذلك عليك بالدعاء والصبر واستعمال المساعدة الخارجية لعل الله تبارك وتعالى أن يصلحه وأن يهديه.

وبالله التوفيق.

مشاركة المحتوى

مواد ذات صلة

الاستشارات

الصوتيات

تعليقات الزوار

أضف تعليقك
  • السعودية Ali

    نصيحة عندي واحد نفس الوضع اطنشة ولا اعطيه وجه كان يقول لي سوو فعل خير ف إذا جينا نسويه يتكلم علينا فمره ضربت اخلاقي ورديت عليه كلام قوي لأني والله اكره ابو وجهين مع اصحابه فله ومع اهله كأنه في حرب لكن فرج الله قريب

بحث عن استشارة

يمكنك البحث عن الاستشارة من خلال العديد من الاقتراحات



 
 
 

الأعلى تقيماً