الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

إرشادات لفتاة في عدم قدرتها على تخطئة غيرها خوفاً من جرح مشاعره

السؤال

السلام عليكم.
مشكلتي أنني طيبة القلب زيادة عن اللزوم، فأنا لا أحب أن يغضب مني أحد حتى لو كان الحق معي! مثلاً: عندما تحدث مُشادة كلامية (حوار شديد) بيني وبين إحدى زميلاتي فإنني أحاول أن أنتقي الكلمات والعبارات التي لا تزعجها ولا تحزنها، مع أن الحق يكون معي وتكون هي المخطئة وتكون مصرة على خطئها، ولكنني بدل أن آخذ حقي تراني قلقة على مشاعرها، وحتى في بعض الأحيان لشدة طيبتي ينقلب الوضع وأصبح أنا المخطئة.

كل هذا لأنني لا أستطيع أن أقيم الحجة عليها مع أنني قادرة، ولكن خوفاً على مشاعرها، والمشكلة الأكبر إذا حصل موقف بين صديقتين لي تراني منصفة، مع أنني أعرف الحق مع مَن إلا أنني أحاول أن أرضي الطرفين، وأجد صعوبة في قول الحق خوفاً من أن أجرح مشاعر إحدى الصديقتين!

لا أعرف ماذا أفعل؟ هل أقول الحق ولا أهتم إذا جرحت مشاعر أحد أم أستمر على طريقتي أم ماذا؟
دائماً أقول لنفسي: يجب ألا أكون بهذه الدرجة من الطيبة وأجعل الغير يأخذ حقي، يجب أن أدافع عن حقي، ولكن أرجع وأقول: ما الفائدة من العنف والشجار على أمور دنيوية؟! ودائماً عندما أكون في موقف بين أن أغضب أحداً أو آخذ حقي أتخيل نفسي أنني ميتة وأنني لن أستفيد من جرح مشاعر الآخرين وأتنازل عن حقي، وحتى يكون الأمر واضحاً إليكم مثالاً:

استعارت إحدى صديقاتي مني كتاباً، وعندما انتهت منه طلبته صديقة أخرى مني فطلبت من الأولى إرجاعه فتأخرت، فأصبحت أذكرها به، فأخذت تتحجج بأنها لا تملك الوقت للبحث عنه بين كتبها لأنها مشغولة بزفاف أخيها، وبعد شهر ضاقت وغضبت صديقتي الأخرى وبعثت إليها برسالة تخبرها أنها تريد الدفتر وإلا أسمعتها كلاماً غير لائق، وحصلت مشكلة بينهما وأدخلتاني في الموضوع لأنني صاحبة الكتاب، وأنا مع علمي بأن الخطأ على صديقتي الأولى لأنها تأخرت في إرجاع الكتاب إلا أنني لم أستطع أن أقول ذلك خوفاً على مشاعرها.

قد يبدو الموقف سخيفاً، ولكن هذا مثال واحد من أمثلة ومواقف أخرى كثيرة تحدث معي وأعجز فيها عن قول الحق.

ترى هل ينطبق علي قول: الساكت عن الحق شيطان أخرس؟

أفيدوني جزاكم الله خيراً.

وآسفة على الإطالة، وشكراً.

الإجابــة

بسم الله الرحمن الرحيم
الأخت الفاضلة/ أميرة حفظها الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:

إنه ليسرنا أن نرحب بك في موقعك استشارات الشبكة الإسلامية، فأهلاً وسهلاً ومرحباً بك، وكم يسعدنا اتصالك بنا في أي وقت وفي أي موضوع، ونسأله تبارك وتعالى أن يبارك فيك، وأن يُكثر من أمثالك، وأن يزيدك طيبة ورحمة وحلماً وشفقة لجميع المسلمين وعلى جميع المسلمين، وأن يجعلك من المحبوبات في الدنيا والآخرة.

بخصوص ما ورد برسالتك أختي الكريمة الفاضلة: فإن طيبة القلب ليست مشكلة، وإنما هي نعمة من نعم الله تعالى التي يُكرم بها بعض عباده؛ لأن سلامة القلب هي من أعظم عوامل دخول الجنة، والنبي عليه الصلاة والسلام في الحديث الذي رواه عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: (خير الناس صاحب القلب المخمول واللسان الصادق. قالوا: وما القلب المخموم يا رسول الله؟ قال: التقي النقي الذي لا يحمل حقداً ولا بغياً ولا حسداً لأحد).

أنا أبشرك بهذه البشرى العظيمة، وأسأل الله أن يجعلك من أصحاب القلب المخموم، أي: التقي النقي الذي لا يحمل حقداً ولا بغضاء ولا كراهية ولا حسداً لأحد.

هذه القصة التي تعرفينها أيضاً عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما عندما قال النبي عليه الصلاة والسلام لأصحابه: (يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة)، فقال هذا في الليلة الأولى، فدخل رجل لا يعرفونه، هو من الصحابة ولكنه غير مشهور وغير معروف، وفي الليلة الثانية قال النبي صلى الله عليه وسلم نفس الكلام فكان هو نفس الشخص، وفي الليلة الثالثة قال نفس الكلام فكان هو نفس الشخص، فعبد الله بن عمرو استعجب: كيف يقول النبي صلى الله عليه وسلم هذه البشريات الثلاث لصحابي مغمور ولا يعرف الناس عنه شيئاً، في حين أنه ما قال هذا الكلام لكل الصحابة رضي الله تعالى عنهم؟! فذهب إلى هذا الرجل وقال: أنا بيني وبين أبي خلاف وأريد أن أكون عندك، فقال: مرحباً بابن أخي الكريم الفاضل، ثلاثة أيام وجد الرجل صلاته عادية وعبادته عادية وما عنده ذاك الجهد الكبير ككبار الصحابة، فلما انتهت الثلاثة أيام قال: يا عم! أريد أن أخبرك الحقيقة، أنا لم يكن بيني وبين أبي خلاف، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم قال كذا وكذا فأردت أن أتأكد منه، قال: هو ما رأيت يا ابن أخِي. هذا الذي رأيته، يعني: عبادة عادية: يصلي الفروض، يصلي بعض النوافل، ليس مجتهداً في الصيام ولا في القيام ولا في غيره، وإنما عبادات عادية جدّاً.

فولَّى عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنه وتعجب لماذا بشره النبي صلى الله عليه وسلم بهذه البشرى؟! فلما انصرف ناداه هذا الصحابي وقال: يا ابن أخِي! غير أني أبيت ولا أحمل في صدري حقداً ولا حسداً لأحد، يعني: أي واحد يُخطئ عليَّ أنا لا أحمل في صدري عليه أي شيء، وأسامح كل من يتعامل معي، فقال ابن عمرو: بها أوتيت بشرى النبي صلى الله عليه وسلم.

ذلك لأنه ليس كل واحد يستطيع أن يملك هذا القلب الطيب، فأنت أكرمك الله عز وجل بقلب طيب، وهذه رحمة من الله تعالى، وكونك تتنازلين عن حقك للإصلاح بين الناس فهذه نعمة، ليس هذا ضعفاً، حتى وإن قالوا فيك ما قالوا، ولكن المسألة لا ينبغي أن تصل إلى درجة الفوضى وأن يكون الإنسان لا شخصية له، وإنما أيضاً يحتاج لنوع من الحزم، مع هذا الأسلوب أنا أعتقد أنك موفقة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم سُئل عن أكثر أهل الجنة؟ قال: (كل سهلٍ هيِّنٍ ليِّن)، فالسهل الهين اللين هذا من أكثر أهل الجنة، وأنا أبشرك - بإذن الله تعالى – بأن هذه الصفة التي فيك صفة رائعة وليست فيها نوع من النقص أو غيره.

بالنسبة لما إذا كان هناك حكم ما بين أختين فمن الممكن أن تقولي الحق بأسلوب لطيف، أما كونك أساساً تنكرين الحق خوفاً على مشاعر الأخت فهذا لا يجوز، من الممكن أن تقولي الحق ولكن بأسلوب لطيف وبأسلوب مهذب لا يجرح المشاعر ولا يخدش الحياء، ومن الممكن أن تقولي هذا الكلام لإحدى الأختين، يعني: أختك مخطئة تقولين لها بينك وبينها تري أنا حاولت الإصلاح بينك وبينها ولكن أنا أرى أن الخطأ عندك، بأسلوب هادئ، بشرط أنك لا تجرحينها أمام الأخت الأخرى.

قضية الساكت عن الحق شيطان أخرس هذه ليست في كل موضع، هذه قد تكون في موضع كتمان الشهادة أو عدم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أما أنت فتحرصين - بارك الله فيك – على الإصلاح بين أخواتك، فإذا حصل موقف بين صديقتين فأنت - بارك الله فيك – رغم أنك تعرفين الحق تحاولين أن ترضي الطرفين، وتجدين صعوبة في ذلك، ولكن تحاولين أن تكون هذه راضية وهذه راضية، هذه لا تغضب على هذه ولا تقاطعها.

أنت تجتهدين دائماً في تقوية أواصر المحبة بين الأخوات وفي شيوع المودة والرحمة بينهن، فهذه نعمة عظيمة.

أرى أنك على خير إن شاء الله تعالى، ولكن كما ذكرت على الأقل عندما تكونين عالمة بالحق أين هو ومع من ومن المخطئ فتحاولين الإصلاح وبتبسيط الأمور فيما بينهما، ثم تأخذين الأخت التي ترين أنها مخطئة على جانب وحدها وتنصحينها وتقولين لها: أختِي الكريمة باركَ الله فيك! أنا طبعاً تكلمت هذا الكلام من باب الإصلاح بينك وبين أختك، ولكن في الواقع أنا من وجهة نظري على الأقل أنت مخطئة، والدليل على ذلك هو: واحد، اثنان، ثلاثة، أربعة. وبهذه الطريقة تكونين أصلحت بين أخواتك، وفي نفس الوقت أيضاً بيَّنت لهن الحق، حتى لا تكوني فعلاً من المنكرات للحق.

أسأل الله أن يبارك فيك وأن يكثر من أمثالك، وأن يثبتك على الحق، وأن يشرح صدرك للذي هو خير، وأن يجعلك من ذوي الصفات الطيبة السهلة الهينة اللينة التي أخبر بها النبي عليه الصلاة والسلام أن أصحابها من أهل الجنة، ونسأله تعالى أن يجعلنا وإياك من أهل الجنة.

هذا وبالله التوفيق.

مشاركة المحتوى

مواد ذات صلة

الاستشارات

الصوتيات

تعليقات الزوار

أضف تعليقك

لا توجد تعليقات حتى الآن

بحث عن استشارة

يمكنك البحث عن الاستشارة من خلال العديد من الاقتراحات



 
 
 

الأعلى تقيماً