الواصل من إذا قُطعت رحمه وصلها

2011-01-12 08:52:15 | إسلام ويب

السؤال:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أخي الشاب وأخواتي البنات كلهم متزوجون، ولديهم أبناء وأحفاد وأنا لم يرزقني الله إلا ببنت واحدة ولم تتزوج بعد، أحب أن أصل رحمي وأحب أخوتي وهم يحبونني، ولكنهم لا يحبون العلاقات الأخوية، فكل واحد لا يريد أن يزوره لا أخ ولا أخت، رغم أنني أحسنت أنا وابنتي لهم جميعاً، أستقبل أبناءهم عند الامتحانات؛ لأنني الوحيدة المتعلمة بينهم فأدرسهم ويقيمون عندي إلى أن تنتهي امتحاناتهم، ولا أريد أن أعد كم أحسنت إليهم، ولكن بعد انتهاء مصلحتهم لا أرى أحداً منهم، ولا يرغبون أن أزورهم أبداً، وهم أيضاً لا يزورون بعضهم البعض، لا يتمنون لي ولا لابنتي الخير، ويحسدوننا على أقل الأشياء بحياتنا، ولا يقدرون وحدتنا، وأننا بحاجة ماسة إلى الأهل والناس، فنحن وحيدتان وزوجي كبير بالسن، وعنده زوجة وأبناء ولديه عمل، وابنتي عندها عمل ومسؤوليات كبيرة كونها وحيدة، وأنا أشعر بوحدة قاتلة وأشعر بالرغبة أن أكون كالناس لدي أخوة يزورونني وأزورهم، وقد قدمت لهم الكثير (مال وأعمال حسنة وملاطفة وغيرها) ليرغبوا في التواصل معي، ولكن دون جدوى.
أرشدوني .. أشعر بوحدة قاتلة، لا يزورني أحد ولا أجد من أزورهم، أو أكلمهم على الهاتف فيشكون لي همومهم، وعندما يكونون سعداء لا يردون على مكالماتي، ولا يكلمونني إلا إذا كانت هناك مصلحة، أخشى من قطيعة الرحم وأخشى من وحدتي، فهل من حل؟
وأشكركم الشكر الجزيل.


الإجابــة:

بسم الله الرحمن الرحيم
الأخت الفاضلة/ زينة حفظها الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
فإنه ليسرنا أن نرحب بك في موقعك إسلام ويب، فأهلاً وسهلاً ومرحباً بك، وكم يسعدنا ويشرفنا اتصالك بنا في أي وقت وفي أي موضوع، ونسأل الله جل جلاله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يطيل في عمرك على طاعته، وأن يشرح صدرك للذي هو خير، وأن يصرف عنك كيد شياطين الإنس والجن، وأن يرزقك الأُنس به وحده، وأن يبارك لك في ابنتك، وأن يجعلك من سعداء الدنيا والآخرة.
وبخصوص ما ورد برسالتك: فإنه مما لا شك فيه أن نكران الجميل أمرٌ يؤدي إلى جراحات، وآلام تظل مع الإنسان حتى يخرج من الحياة، فالإنسان بطبيعته مدني يُحب أن يتعامل مع الناس بنوع من المكافئة وبنوع من التوازن، يُقدم ويأخذ ويُعطي ويمنع ويصل ويصله الناس ويتكلم مع الناس ويكلمونه الناس، ويتواصل معهم بأي صورة من صور التواصل المشروع، أما أن يكون الإنسان إنساناً مُقدماً مضحياً باذلاً ولا يجد من الطرف الآخر أي تقدير أو مراعاة لمشاعره أو تقديرا لهذه الجهود المبذولة، فهذا أمر مما يؤلم حقّاً، وقد يترتب على ذلك أيضاً مع الأسف الشديد أن النفس البشرية لا تطاوع الإنسان دائماً أبداً، فقد تتمرد النفس على هذه المواقف المؤلمة، لماذا نحن نقدم ونضحي وغيرنا لا يقدر جهدنا؟ إذن الأفضل أن لا نُقدم شيئاً وأن لا نضحي من أجل أحد.

هذا قد يكون منطقياً في معظم الأحايين، عندما يضحي الإنسان بكل ما يمكن أن يضحي به، وعندما يبذل من وقته ومن ماله ومن جاهه ويفاجأ بأن الطرف الآخر في غاية السلبية ويعامله كأنه لم يقدم شيئاً، ويُنكر عليه جهده وفضله، هذا أمر فعلاً يقتل في الإنسان الرغبة في فعل الخير، ويقتل في الإنسان الرغبة في مساعدة الآخرين، هذه معادلة عادية، وكثير من الناس يفعل ذلك ويقول: (ما دام الناس لا يقدرون ما أفعل وما أصنع فلماذا أُتعب نفسي من أجل أُناس لا يردون معروفي أو جميلي ولو بكلمة طيبة أو بعبارات راقية؟ لماذا الناس لا يعرفونني إلا عند وجود مشاكل لديهم؟ أما أنا فطيلة العام لم يسألني أحد عن ظروفي ولا عن أحوالي، ولا حاول أن يتفقدني ليعرف هل أنا سعيدة أم شقية؟ هل أنا مختفية أم أنا في حاجة لمساعدة الآخرين؟).

هذه كلها أمور تفرض نفسها فعلاً على هذا الواقع الكئيب الذي يرى الإنسان فيه النكران للجميل، خاصة إذا كان ذلك من أقرب الناس إلينا وهم أرحامنا، إخواننا وأخواتنا؛ لأن الناس الآخرين قد نلتمس لهم الأعذار بأن العلاقة بيننا وبينهم علاقة عادية، وقد تكون لديهم ظروف تحول بينهم وبين التواصل، أما أن تأتي المصيبة من الأرحام بأن يعامل الأرحام أرحامهم مجرد المصلحة وأن تقوم العلاقات بين الناس على أساس المنافع والمصالح الشخصية، فإن كنتُ سأستفيد من إنسان فأنا سأصله وأتواصل معه وأتودد إليه حتى تنتهي مصلحتي ثم لا يراني بعد ذلك، هذا أمر غير مقبول وغير معقول، خاصة بالنسبة للأرحام.

وأنا معك حقيقة هذا أمر مؤلم، وخاصة أنك في أمس الحاجة إلى من يكون معك بصفة شبه منتظمة؛ لأنك تخافين الوحدة، وخاصة أنه لا يوجد ما لديك ما يملأ عليك معظم أوقات الفراغ، وصلت إلى درجة من السن متقدمة تحتاجين إلى مَن يرعاك ومن يتواصل معك ومن يتصل بك ومن يتفقدك ومن يُشعرك باهتمامه بك ومحبته لك لمجرد شخصك لا لمسألة مادية أو مسألة تعليمية أو غير ذلك.

فأنا أرى فعلاً أن إخوانك قصّروا تقصيراً بالغاً في التواصل الذي ينبغي أن يكون والذي حثّ عليه الشرع، والله تبارك وتعالى وضع ثواباً عظيماً جدّاً لمن يصل رحمه، بل إن النبي صلى الله عليه وسلم أخبرنا بحديث رائع وعظيم، حيث قال صلوات ربي وسلامه عليه: (من سرّه أن يُنسأ له في أجله ويُبارك له في رزقه فليصل رحمه)، (من أراد أن يوسع الله رزقه فعليه بصلة الرحم) وغير ذلك من الأحاديث التي تحض على صلة الرحم، ومن ذلك أيضاً كذلك الحديث القوي الذي قال عنه النبي صلى الله عليه وسلم: (الرحم معلقة بالعرش وهي تقول: من وصلني وصله الله، ومن قطعني قطعه الله) أين هؤلاء من تلك الأحاديث؟ إن الذي يقطع رحمه يقطعه الله تبارك وتعالى ويجعل حياته في قمة الكآبة ويأتي يوم القيامة أيضاً على رأس المتهمين بمخالفة الشريعة.
ولذلك أنا أقول: أولاً: لماذا لا نحاول أن نتكلم مع الناس، ونسألهم عن سبب هذا العزوف؟ هل لديهم مشاكل من الممكن أن نساعد في حلها؟ أنا قطعاً أرى أن لا هناك مشاكل، ولكن دعينا نلقي الكرة في ملعبهم كما يقولون، هل توجد هناك مشاكل تمنعكم من التواصل بي أو الاتصال بالهاتف لمجرد حتى الاتصال للاطمئنان عليَّ فقط دون مصلحة؟ هذا أمر أول.
ثانياً: أريدك أن تعلمي أن الزمن قد اختلف إلى حد كبير جدّاً، فالناس نتيجة الظروف الاجتماعية التي يعيشونها والضيق الاقتصادي الذي يعاني منه معظم المسلمين والعرب في بلادهم جعل الناس مشغولين شغلا غير عادي، لا هم لهم إلا توفير الأشياء الضرورية لأسرهم وأولادهم؛ ولذلك بعضهم يحاول أن يقتل نفسه في العمل حتى يوفر لأولاده حياة كريمة، فيعمل صباحاً ويعمل مساءً، وقد يعمل في أعمال غير لائقة، وقد يذهب ليبحث عن عمل آخر مساءً في مكان آخر، كل ذلك بغية أن يوفر لأولاده حياة كريمة، الحياة أصبحت صعبة والرواتب متواضعة والمتطلبات عالية والأسعار غالية، فبعض الناس فعلاً قد يكون مشغولاً للظروف التي يعيشها، ولعله لا يقصد مسألة قطع الرحم، وإنما هي المشاغل، ويمر يوم بعد يوم والأيام تتوالى وتترى وهو يجد نفسه وقد أصبح ليس بواصل للرحم، فيأتيه الشيطان يقول: الحياة تمشي وهي بخير واطمئن عليها، وتبقى المسألة في حدود المصلحة فقط، مع الأسف الشديد الذي تعانين منه أنت في هذه الرسالة أصبحت سمة السواد الأعظم من الناس.
ثالثاً: أتعرفين من الواصل في كلام الله تعالى، وفي كلام نبيه عليه الصلاة والسلام؟ يقول حبيبك صلى الله عليه وسلم: (ليس الواصل بالمكافئ، ولكن الواصل من إذا قُطعت رحمه وصلها) أما تحبين أن تكوني من هؤلاء الذين يصلهم الله تعالى؟ أما تحبين أن تكوني واصلة لرحمك حتى يصلك الله تبارك وتعالى؟ إذن أتمنى أن لا تقفي طويلاً أمام هذه السلبية، وإنما تجتهدي بارك الله فيك في وصلهم والإحسان إليهم وإكرامهم حتى وإن أساءوا إليك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر بقوله: (من سره أن يحاسبه حساباً يسيراً ويدخله الجنة بلا حساب ولا سابقة عذاب فليصل من قطعه وليعط من حرمه، وليعف عن من ظلمه) أو كما قال صلى الله عليه وسلم.
أما بالنسبة لوقت الفراغ الذي لديك فمن الممكن استغلاله في جهة أخرى، وإذا كانت لديك الآن قدرة على المشي والتعامل مع الناس تواصلي مع بعض الجمعيات الخيرية التي تقوم على رعاية بعض الشرائح الضعيفة في المجتمع، كالأيتام أو الأرامل أو ذوي الإعاقات، وغير ذلك، حتى تملئي هذا الفراغ في عمل مفيد ونافع؛ لأن الناس فعلاً مشغولين.
مع الأسف الشديد هذه سمة غالبة الآن في معظم بلاد العالم العربي والإسلامي؛ ولأن الوحدة قاتلة فعلاً، الوحدة تجعل الإنسان يُصاب بأمراض نفسية تترتب عليها أمراض بدنية، قلة الحركة يُصاب بنوع من التخمة وزيادة الوزن، ويفقد الرغبة في أشياء كثيرة حتى كأنه يعجل بقتل نفسه، أما الإنسان المؤمن لا يعرف اليأس ولا الممل ولا يتوقف أبداً عن العمل، فالنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (إذا قامت القيامة وفي يد أحدكم فسيلة فليغرسها) فأتمنى استغلال وقت الفراغ الذي لديك في الانضمام لجمعية من تلك الجمعيات الخيرية، أو تقديم أي مساعدة أو استشارة للناس، أو الذهاب إلى المساجد إذا كانت هناك ندوات أو محاضرات شرعية، أو البدء في مشروع قراءة العلم الشرعي، أو حفظ شيء من القرآن الكريم، أو سنة النبي عليه الصلاة والسلام، حتى تجدي فرصة أو مخرجاً من هذه الوحدة القاتلة، وإن جاءك من جاء بعد ذلك فأهلاً وسهلاً ومرحباً به، وإذا لم يأتِ فقد كفاك الله تبارك وتعالى بهذه المشاريع الرائعة وأغناك بفضله عمن سواه، وجعل وقتك كله في طاعة وعبادة.

أسأل الله أن يشرح صدرك للذي هو خير، وأن يوفقك إلى كل خير، إنه جواد كريم.

هذا وبالله التوفيق.


www.islamweb.net