ماذا أعمل فأنا أحس بكراهية لأبي؟
2012-05-24 07:12:36 | إسلام ويب
السؤال:
منذ كنت صغيرة كان يضرب إخواني ضربًا مبرحًا, وبالذات أختي التي أكبر مني, وكان يذيقها جميع أنواع الألم, بالنار يحرقها, بالسوط, بأي شيء, يربطهم, ويعذبهم إذا شك فقط, وقد أصبح عمري 21, وأنا غير قادرة على النسيان, وصرت أكرهه, وبعدها كان يصرف على أهله وحبيبته, وكان لا يعطينا إلا القليل, وهم الكثير, وبعدها كان ينادي أمي بالغبية أمامنا, وكنا لا نذهب لأحد, حتى الأكل لا نأكل, وكان يضرب إذا شك, ويسحب أخواتي وأمي, ولا نرى إلا دمًا وصراخًا.
بعدها دخل في عمل ربوي, وخسر أمواله, وطلع مديونًا بمليون, تخيلوا أنه قال: خذوا أغراضكم واذهبوا أي مكان, وذهبنا لأقاربنا, لكنهم لم يرحمونا, وظللنا عندهم أشهرًا كلها ذل وإهانة, ثم طردونا.
قد أتاني مس في هذه الأيام, وتعبت كثيرًا, وولَّد عندي شذوذًا, وبعدها
تحطمت حياتي, وقد أحببت بنتًا؛ لأنها أعطتني كل الحنان, وبالأخير شتمتني, وتكلمت عن أهلي, وتخلت عني بعد علاقة سنين.
ظللنا 6 سنوات ونحن بفقر وذل, ومن بيت لبيت, وحدثت مشاكل, وأكثر شيء لا أنساه أن أختي ضربتها قريبة لنا وطردتنا الساعة 3, وأبي ساكن عند أخيه ولا يدري بنا.
في الأخير: تخليت عن حلمي بدخول الجامعة, وعملت من أجل أن أنفق,
وعملت بوظيفة متعبة, وذل, ورجع أبي يطلب مالاً, وعندما توظفنا جميعًا -والحمد لله- وسكنا بشقة, وسكن معنا, وصار يطلب فطورًا وغداء, وعشاء, وتنظيفًا, ويأمر بعدم الخروج لأي مكان, ويتحكم فينا كالعبيد, ويأخذ مالنا, ولا يعمل أي شيء, تعبتُ وأحس أني لا أكنُّ له مشاعر, ما الحل؟
الإجابــة:
بسم الله الرحمن الرحيم
الأخت الفاضلة/ غربة مشاعر حفظها الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته, وبعد:
إنه ليسرنا أن نرحب بك في موقعك إسلام ويب، فأهلاً وسهلاً ومرحبًا بك، وكم يسعدنا اتصالك بنا في أي وقت, وعن أي موضوع، ونسأل الله العلي الأعلى بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يعوضكم عما فقدتُم خيرًا، وأن يوسع أرزاقكم، وأن ييسر أموركم، وأن يعافيك من تلك الابتلاءات السابقة، وأن يجعل يومكم خيرًا من أمسكم، وأن يجعل غدكم خيرًا من يومكم, كما نسأله تبارك وتعالى أن يغفر لوالدكم, وأن يتوب عليه، وأن يعينكم على إكرامه وبره والإحسان إليه، وألا تردوا السيئة بالسيئة.
بخصوص ما ورد برسالتك - أختي الكريمة الفاضلة – فإنه ومما لا شك فيه أن تلك التصرفات التي صدرت من والدك لا تتحملها الجبال الشُمّ الراسيات، وهي كفيلة ودون أدنى شك بأن تجعل القلوب تمتلئ حقدًا وحسدًا وغيظًا وكراهية وبغضًا له؛ لأن الإنسان عادة تأسره الكلمة الطيبة والمعاملة الحسنة، أما هذه التي تذكرينها فهي لا تترك إلا بصمات مؤلمة وجراح مُدمية في داخل قلب الإنسان، فهي تصرفات كلها لا تحمل أي معنى من معاني الرحمة أو الرقة أو العطف أو الحنان أو الأبوة، وإنما معاملة – كما وردت في رسالتك – يَشيب منها الوليد، وهذه كما ذكرتُ يترتب عليها - ولابد – هذه النفرة وتلك الكراهية؛ لأن المحبة تأتي من الإحسان والإكرام وحسن العشرة ومراعاة المشاعر، حتى وإن كان الإنسان ليس أبًا للإنسان، بل حتى ولو كان عدوّه، فإنه بحسن العشرة والمعاملة يستطيع أن يملك عليه قلبه، والدليل على ذلك النبي المصطفى - صلى الله عليه وسلم – كيف أن أهل مكة رغم كفرهم بدعوته ومحاربتهم له كانوا يقدرونه ويعظمونه ويصفونه بأعظم الصفات, ويعلمون أنه على الحق، ولكنه - كما ذكر العلماء – الكِبر الذي حال بينهم وبين قبول الحق.
كما قال الشاعر:
(أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهمُ *** فطالما استعبد الإحسان إنسانُ),
لذلك فهذه الكراهية التي تكلمت عنها, والتي ملأت قلبك – ولعلها كذلك ملأت قلب والدتك وإخوانك – هي شيء طبيعي لتلك التصرفات السلبية المحزنة المدْمية غير المتوقعة، ولكن بما أن هذا الأب له مقام الأبوة, قد أصبح الآن في وضع صعب، ولا يستطيع أن يدبر أموره، فلا أتمنى أن تعاملوه كما عاملكم، ولا أتمنى أن تردوا السيئة بالسيئة، وكم أتمنى أن تلتزموا هدي النبي الكريم - صلى الله عليه وسلم – الذي كان يعفو ويصفح، كما أخبر الله تبارك وتعالى عنه، حيث أثنى عليه سبحانه وتعالى بذلك، وكما شهدت كتب السنة والتاريخ، خاصة عندما جاء أهل مكة الذين فعلوا به الأفاعيل, وعذبوه وأصحابه, بل وقتلوا بعضهم، وقفوا أمامه أذلة صاغرين ليسألهم: (ماذا تظنون أني فاعل بكم) فلم يجدوا جوابًا, إلا هذا الكلام الذي سجله التاريخ (أخٌ كريم وابن أخٍ كريم), وإذ بالنبي - صلى الله عليه وسلم – يعامل هؤلاء - الذين أساءوا إليه أيَّما إساءة, وأهانوا أصحابه أيَّما إهانة – بغاية الإحسان واللطف والعطف والبر والرحمة، قائلاً لهم: (اذهبوا فأنتم الطلقاء، لا تثريب عليكم اليوم، يغفر الله لي ولكم).
كم أتمنى - أختي الكريمة الفاضلة – أن تكوني كحبيبك محمد - صلى الله عليه وسلم – وأن تتركي هذا الأمر جانبًا.
نعم, أنا معك من أن ما في القلب لا يمكن أن يخرج أصلاً, وقد يحتاج إلى وقت طويل حتى يخرج، ولكن المعاملة بالمعروف مطلوبة شرعًا؛ لأن الله تبارك وتعالى أمرنا بالإحسان حتى مع المجاهدة على الكفر، كما قال سبحانه: {وإن جاهداك على أن تُشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفًا}.
الحب القلبي لن يأتي في يوم وليلة، خاصة مع الجراحات المُدْمية الشديدة الغائرة في قلبك وقلب إخوانك وأخواتك وقلب والدتك، ولكن المعاملة الظاهرة الحسنة؛ لأن الذي يحتاجه الآن -كما ذكرت - فطور وعشاء وغداء وتنظيف إلى غير ذلك، وهذه أمور من السهل توفيرها؛ لأننا لو اعتبرناه إنسانًا معاقًا وحملتموه من الطريق العام ليعيش معكم في البيت فسوف تكرمونه بهذه الأشياء.
أما مسألة القلب فهي تحتاج إلى وقت – كما ذكرت – وتحتاج منك إلى دعاء؛ لأن الله تبارك وتعالى ما فرض علينا أن نحب آباءنا وأمهاتنا, أو نحب الناس بالقوة, أو بالجبر؛ لأن القلوب هذه ليست ملكًا للناس, وإنما هي ملك الملك جل جلاله، كما أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم – بقوله: (قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن, يقلبها كيف شاء), ولكننا أمرنا بالمعاملة الحسنة، وهي - بإذن الله تعالى – مقدور عليها إذا حاولنا أن نتغلب على مشاعرنا وعواطفنا، وأن نكبت هذه الأحاسيس السلبية في داخلنا, ولا نحاول إظهارها.
عليكم بالإكرام والإحسان إليه – الإحسان الظاهر – أما مسألة القلب فأتمنى أن تتوجهوا إلى الله بالدعاء أن يُخرج الله تلك الذكريات المؤلمة من قلوبكم حتى تعاملونه بقلب نظيف نقي، وإن كان هذا الأمر يحتاج بعض الوقت، ولكن الذي ركز عليه الشرع – وأركز أنا عليه – إنما هي المعاملة الظاهرة من المعاملة بالمعروف, والإحسان كما ورد في سورة الإسراء، حيث بيّن الله تبارك وتعالى الآداب الخمسة التي يجب علينا أن نلتزمها مع الآباء والأمهات, حتى وإن كانوا أبعد الناس عن دين الله تعالى، قال تعالى: {وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانًا إما يبلغنَّ عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولاً كريمًا * واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرًا*}.
عليكم بالإحسان الظاهر، ودعوا القلوب لعلام الغيوب، فهو قادر على أن يصلحها مع الزمن، ولكن عليكم بالدعاء؛ لعل الله أن يخرجها لتنعموا معًا بنعمة الأمن والأمان والاستقرار.
أسأل الله أن يعوضكم خيرًا، وأن يجزيكم خيرًا, هذا وبالله التوفيق.