لا أستطيع التأقلم في الحياة بعد وفاة أبي.. أرشدوني
2021-01-26 01:22:59 | إسلام ويب
السؤال:
السلام عليكم
أشكر حضراتكم على الرد على استشاراتي الأولى.
مرت على وفاة أبي ثلاثة شهور، انتقلت من مرحلة الإنكار، لكني أحس أني أعيش كل المراحل في يوم واحد، ساعة أبكي بحرقة، وساعة أصدق، وساعة أنكر، أنا مؤمنة والحمد لله، لكني خائفة أن أستوعب في عقلي وقلبي، أنا أنتظر رجوع أبي! أدعو له كثيرا لا يغيب عن بالي، أكتب له كل التفاصيل، أحاول أن أجعله حيا في عقلي وقلبي إلى الأبد، لا أعرف كيف تستمر الحياة من بعده بهذه البساطة! أعرف أنها سنة الحياة، ولكن تصديق هذا مؤلم علي.
أنا أحب أبي كثيرا، أبي روحي وكل حياتي، أريد أن أرفع اسمه دنيا وآخرة، ولكن ينتابني شعور بخيانة عندما يمر وقت طبيعي خال من الحزن، لست قادرة على التأقلم، ولا العيش من بعده وإكمال دراستي في كلية الطب، وفي نفس الوقت، أريد أن أجعل أنا وإخوتي ذرية صالحة له تدعو له، وترفع اسمه ولست قادرة على الخروج من مربع الحزن الأول أو ينتابني شعور أني لا أريد أن أخرج.
الإجابــة:
بسم الله الرحمن الرحيم
الأخت الفاضلة/ ريم حفظها الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
أهلاً وسهلاً بكِ عزيزتي مجدداً، وأدعو الله أن تكوني بحالٍ أفضل عندما تقرئين رسالتي.
أتفهم تماما صعوبة ما تمرين به، ففراقك لوالدك لا يعني فقط بالنسبة لك غياب شخص تحبينه، بل هو غياب شخص يعني لك كل الحياة.
شخص يحمل في قلبك مكانة كبيرة جداً، وله حيز كبير في أغلب مناحي حياتك، خارج البيت وداخله، بكبائر أمور حياتك وصغائرها، شخص لست فقط تحبينه، بل تعتمدين عليه وأيضا متعلقة به، كل هذا من الطبيعي سيجعلك تعيشين مرحلة من الفراغ والتخبّط الداخلي، ولكن إن تواصلك معنا مرة أخرى قد أفرحني فعلاً، فهذا يعني أنك تحاولين جاهدة الاستبصار بذاتك، وهذا تحديداً ما سيفيدك في تخطي معاناة الفقد بأسرع وقت.
إن مصطلح تخطي معاناة وألم الفقد لا يعني أبدا أن الشخص لن يستمر بالحزن على الشخص المُتوفّى، بل يعني أن الحزن سيبقى ولكنه سيأخذ وجوهاً مختلفة للتعبير عنه، وما نسعى إليه هو أن تكون هذه الوجوه أكثر وعياً ونضجاً وفائدة لك ولوالدك، نسأل الله أن يرحمه ويرحمنا جميعاً.
عندما قارنتُ بين رسالتك السابقة والحالية، وعدم قدرتك على البكاء في رسالتك السابقة، بينما الآن تخبريني عن بكائك بحرقة، وكتابتك له كل التفاصيل، هذا يعني تقدم رائع في محاولتك للتفريغ عما بداخلك وتوقفك عن كبت مشاعرك.
- أريدك أن تعرفي أنه طبيعي جداً ما يحدث بداخلك من تخبّط مشاعري وذهني، فأنت الآن تعيشين مرحلة فراغ داخلي، وهذه المرحلة تكون مليئة بالمشاعر الغريبة والمتناقضة إضافة إلى الحزن والأسى التي يعيشها الإنسان، والتي تختلف أساليب التعبير عنها من شخص إلى آخر.
- لقد أخبرتِني أنك تمرّين بعدة مراحل بنفس اليوم (اعتراف مع ذاتك، إنكار، حزن)، وهذا أيضاً طبيعي، فجرحك ما زال حديثاً، لم يلتئم بعد، وما أريدك أن تتأكدي منه أنه لا يوجد قوالب ثابتة تنطبق على كل الأشخاص، بل الصحيح في حالة الفقدان أن يحاول الإنسان الاستماع إلى داخله، وأن يبحث عن احتياجاته الحقيقية، ويحاول أن يلبيها، هذه هي الطريقة الصحيحة لالتئام الجرح، وأنت اليوم "مقارنة مع حالتك في الرسالة السابقة " أعتبركِ في الطريق الصحيح.
- أهم خطوة أريدها منك هي توفر شخص يدعمك يكون بجانبك دائماً، يفهمك، يتفهم حزنك، وتذكري أن أغلبنا يفتقد إلى مهارة طلب المساعدة والدعم، إن كنت من هذا النوع، فأتمنى أن تتركي الخجل، وتطلبي المساندة من الشخص الذي ترين انه سيتمكن من دعمك والإصغاء لك في الوقت الذي تحتاجينه فيه، ولا تترددي في التعبير له عن مشاعرك باختلافها، حزنك، غضبك، عجزك، شوقك لوالدك، كل هذا سيعينك على احتواءك لنفسك وتقوية ذاتك.
- إن كانت لديك معارف أو صديقات قد مرّوا بتجربة مشابهة لفقدان مُقرّب لهم، أتمنى منك أن تتواصلي معهم، فهذه الوسيلة قد أجدت نفعاً بشكل كبير مع من جرّبها، فهؤلاء الناس هم من خلال تجربتهم أكثر قدرة على دعمك وفهم مشاعرك.
- اتركي للوقت فرصته وقدرته على معالجة والتئام الجروح، أي لا تستعجلي على نفسك، فالأمر سيحتاج وقته، ومع الوقت فإن العقل سيبدأ بنفسه يدرك ما حدث، ويخرج من حالة الصدمة والإنكار التي تنتابك.
لذا لا تتوقعي أن تعودي لحياتك بشكل فجائي ولا تتوقعي أنه سيكون سهلاً عليك عودتك لإكمال دراستك، بل اطلبي من نفسك دائما عندما تكونين جاهزة نفسيا خطوات صغيرة في عودتك لأية نشاط كنت تقومين به وقمت بالتوقف عنه.
وغالبا ما سيكون الوقت الكافي لتجاوزك هذه المرحلة الصعبة من حياتك، هو مرورك الأول بكل مناسبة تجمعكم مع والدك رحمة الله عليه.
- اسألي نفسك دائماً عن احتياجاتك النفسية، فأنت فقط من يعلم بها، ولا تتوقعي أن الآخرين سيعلمون الطريقة التي تريحك، لذا اسألي نفسك مثلاً:
هل أنت بحاجة أن تجلسي مع نفسك؟ أم بحاجة لأن تجلسي مع شخص ما وتشاركيه حزنك؟
هل ستشعرين بالراحة لو تحدثت عن والدك لأحد، أو لو فكرت به مع نفسك؟ أم إن لم تتحدثي في هذه الفترة الحالية؟ هل تشعرين بالراحة عندما تبكين بحرقة؟
هل تشعرين نفسك أفضل أم أسوأ بعد ذهابك إلى الجامعة؟
أي: اسألي نفسك عن أية خطوة صغيرة تريدين القيام بها وراقبي نفسيتك بعد ذلك.
فالإجابات التي ستحصلين عليها ستساعدك على تفريغ مشاعرك الداخلية بالطريقة والتوقيت الصحيحين، مما يُعينك على الاستشفاء والتعافي الذاتي.
- مشاعرك بالذنب والخيانة التي تنتابك لمجرد أن يمر عليك وقت طبيعي خال من الحزن هو من رقيّك الداخلي الإنساني بلا شك، ولكننا عزيزتي مختلفون كبشر، وبالتالي طريقة أحدنا في حزنه على شخص يحبه تختلف عن طريقة الآخرين في ذلك، والأهم أنه لا توجد طريقة تعكس محبة الشخص أكثر من أخرى، على الإطلاق، بل كل شخص يعبر عن حزنه ومحبته للمُتوفّى بالطريقة التي تناسبه، وحزنك ومحبتك لوالدك هي نفسها سواء بكيت كل دقيقة أم لا، سواء بقيت في البيت أم ذهبت إلى الجامعة، هذا لن يغير من مكانته في قلبك، لذا ما أريده منك أن تختاري ما يريحك فعلا ويجعلك راضية عن نفسك.
فشعورك بأنك لا تريدين الخروج من مربع الحزن أرى أن سببه هو ربطك الداخلي بين الحزن والبكاء وبين الوفاء لذكراه، وهذا غير صحيح، فالحزن 'عزيزتي' لن يذهب، بل سيتغير شكله فقط وستتعلّمين كيف تتعايشين مع حزنك بطريقة تُمكّنك من استمرار العيش والحياة، مع استمرار رسالتك في هذه الحياة طالما قلبك ينبض ونفَسُكِ يخرج، وأن تكوني فتاة بارّة بوالدها في محياه وبعد مماته.
وهذا ينقلني إلى السؤال الذي أتوقع أنه لا ينقطع عن ذهنك، وهو (كيف لي أن أبرّ بوالدي بعد وفاته)، لذا سأترك لك رابطاً لموقعنا يحتوي على جواب هذا السؤال من الأساتذة الأفاضل بعنوان (بر الوالدين بعد موتهما) وأنا متأكدة أنك ستجدين فيه المعلومات التي تبحثين عنها لتريح قلبك.
https://www.islamweb.net/ar/fatwa/410095/%D8%A8%D8%B1-%D8%A7%D9%84%D9%88%D8%A7%D9%84%D8%AF%D9%8A%D9%86-%D8%A8%D8%B9%D8%AF-%D9%85%D9%88%D8%AA%D9%87%D9%85%D8%A7
بعد قراءتك لهذه الاستشارة أريدك أن تتيقّني أنك بعد قيامك بالوسائل التي تبرّ والدك وأعمال الخير التي تساعد الناس باسمه، ستجدين نفسك أنك تمكّنت من تحويل مشاعر الألم والفراق لديك إلى شيء إيجابي سامي يُشعرك برضا والدك عنك، وبنفس الوقت إكمالك لدورك في الحياة الذي خلقك الله تعالى لأجله.
أخيراً: لا تنسي أن تطلبي العون من الله سبحانه وتعالى، وكوني على ثقة أنك ستجدينه "جلّ وعلا" إلى جانبك في كل اللحظات الصعبة التي ستضعفين فيها وتعتقدين فيها أنك لوحدك.
ختاماً:
أتمنى أن أتمكّن من دعمك في تجاوز محنتك الحالية، لذا لا تترددي في معاودة مراسلتنا مُجدداً في أي وقت تريدين.
بأمان الله ورعايته.