الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

استحباب تلقين المقر بحد من الحدود الرجوع عنه، ومذاهب العلماء في رجوعه

السؤال

أرجو يا شيخ أن توضح لي مسألة في السيرة النبوية قد بدا لي أن فيها تعارضا، وأقوال أهل العلم فيها، وهي:
الحادثة الأولى: قصة المرأة المخزومية التي سرقت، والرسول أراد أن يقيم عليها الحد، فحرك أهلها أسامة بن زيد ليشفع لها عند رسول الله، فغضب الرسول من أسامة، وقال: لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها ... وهذا من حرصه -صلى الله عليه وسلم- على إقامة الحدود، وعدم التهاون فيها.
الحادثة الثانية: قصة الصحابي ماعز الذي طلب من الرسول -صلى الله عليه وسلم- أن يطهره وأصر عليه حتى أقام النبي عليه حد الرجم.
ملاحظة مهمة، وهي: أن علماءنا ومشايخنا يصورون لنا في الحادثة الثانية أن الرسول كان يريد من "ماعز" أن يرجع وأن يتوب بينه وبين ربه، ولا يقام عليه الحد الشرعي (ونفس الأمر أيضا مع المرأة الغامدية التي زنت، وجاءت للنبي وهي حُبلى).
والسؤال المهم هنا: كيف نوفق بين الحادثتين في عدم التهاون في تنفيذ الحكم الشرعي في مخالفة السرقة وبين ما أوضحه لنا العلماء والمشايخ من أن النبي لم يرد أن يُقام حد الزنا على ماعز أو المرأة الغامدية؟

الإجابــة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فإن قصة ماعز -رضي الله عنه- والغامدية -رضي الله عنها- كان ثبوت الحد فيه بإقرارهما، والرجوع عن الإقرار يسقط به الحد عند عامة العلماء -لا سيما من أقر تائبًا- واستحبوا كذلك تلقين المقر الرجوع عن إقراره؛ ففي صحيح البخاري عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: لما أتى ماعز بن مالك النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال له: «لعلك قبلت، أو غمزت، أو نظرت؟»

وعند مسلم عن سليمان بن بريدة، عن أبيه، قال: جاء ماعز بن مالك إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-، فقال: يا رسول الله، طهرني. فقال: «ويحك، ارجع فاستغفر الله وتب إليه». قال: فرجع غير بعيد، ثم جاء، فقال: يا رسول الله، طهرني. فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «ويحك، ارجع فاستغفر الله وتب إليه». قال: فرجع غير بعيد، ثم جاء، فقال: يا رسول الله، طهرني. فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: مثل ذلك، حتى إذا كانت الرابعة قال له رسول الله: «فيم أطهرك؟» فقال: من الزنى ...

وعند أبي داود: فلما رجم، فوجد مس الحجارة، فجزع، فخرج يشتد، فلقيه عبد الله بن أنيس، وقد عجز أصحابه، فنزع له بوظيف بعير فرماه به، فقتله، ثم أتى النبي -صلى الله عليه وسلم-، فذكر ذلك له، فقال: هلا تركتموه، لعله أن يتوب فيتوب الله -عز وجل- عليه.

قال النووي: فيه استحباب تلقين المقر بحد الزنى والسرقة وغيرهما من حدود الله تعالى، وأنه يقبل رجوعه عن ذلك؛ لأن الحدود مبنية على المساهلة والدرء، بخلاف حقوق الآدميين، وحقوق الله تعالى المالية -كالزكاة، والكفارة، وغيرهما- لا يجوز التلقين فيها، ولو رجع لم يقبل رجوعه، وقد جاء تلقين الرجوع عن الإقرار بالحدود عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، وعن الخلفاء الراشدين، ومن بعدهم، واتفق العلماء عليه. اهـ.

وقال القرطبي: المعترِف بما يجب عليه من الحد إن رجع عن إقراره مطلقًا لم يُحدَّ، وممن ذهب إلى هذا: عطاء، ويحيى بن يعمر، والزهري، وحمَّاد، والثوري، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، والنعمان، ومالك في رواية القعنبي. وقيل: لا ينفعه رجوعه مطلقًا. وبه قال سعيد بن جبير، والحسن، وابن أبي ليلى، وأبو ثور. وهي رواية ابن عبد الحكم عن مالك. وقال أشهب: قال مالك: إن جاء بعذر قُبل منه، وإلا لم يقبل ذلك منه. اهـ. من المفهم.

وقال ابن الملقن: واختلفوا إذا أقر بالزنا ثم رجع عن إقراره، فقالت طائفة: يترك ولا يحد، هذا قول عطاء، والزهري، والثوري، والكوفيين، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، واختلف عن مالك في ذلك فحكى عنه القعنبي: أنه إذا اعترف، ثم رجع. وقال: إنما كان ذلك مني على وجه كذا وكذا، لشيء يذكره أن ذلك يقبل منه، فلا يقام عليه الحد.
وقال أشهب: يقبل رجوعه إن جاء بعذر، وإلا لم يقبل، وروى ابن عبد الحكم عن مالك: أنه إذا اعترف بغير مجنة ثم نزع لم يقبل منه رجوعه، وقاله أشهب، وأهل الظاهر. وممن روى عنه عدم القبول ابن أبي ليلى، والحسن البصري. اهـ. من التوضيح.

واختار ابن تيمية التفريق بين من أقر تائبًا فيقبل رجوعه، وأما من أقر غير تائب فلا يقبل رجوعه، فقال: والعقوبات التي تقام من حد أو تعزير إما أن يثبت سببها بالبينة، مثل: قيام البينة بأنه زنى أو سرق أو شرب، فهذا إذا أظهر التوبة لم يوثق بها، ولو درئ الحد بإظهار هذا لم يقم حد، فإنه كل من تقام عليه البينة يقول: قد تبت. وإن كان تائبا في الباطن كان الحد مكفرا، وكان مأجورا على صبره. وأما إذا جاء هو بنفسه فاعترف، وجاء تائبا، فهذا لا يجب أن يقام عليه الحد في ظاهر مذهب أحمد، نص عليه في غير موضع، وهي من مسائل التعليق، واحتج عليها القاضي بعدة أحاديث، وحديث الذي قال: {أصبت حدا فأقمه علي فأقيمت الصلاة} يدخل في هذا؛ لأنه جاء تائبا وإن شهد على نفسه، كما شهد به ماعز والغامدية، واختار إقامة الحد أقيم عليه، وإلا فلا. كما في حديث ماعز: {فهلا تركتموه؟} والغامدية ردها مرة بعد مرة. فالإمام والناس ليس عليهم إقامة الحد على مثل هذا؛ ولكن هو إذا طلب ذلك أقيم عليه، كالذي يذنب سرا وليس على أحد أن يقيم عليه حدا، لكن إذا اختار هو أن يعترف ويقام عليه الحد أقيم وإن لم يكن تائبا، وهذا كقتل الذي ينغمس في العدو هو مما يرفع الله به درجته، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: {لقد تابت توبة لو تابها صاحب مكس لغفر له، وهل وجدت أفضل من أن جادت بنفسها لله؟}. وقد قيل في ماعز: إنه رجع عن الإقرار، وهذا هو أحد القولين فيه في مذهب أحمد وغيره؛ وهو ضعيف، والأول أجود. وهؤلاء يقولون: سقط الحد لكونه رجع عن الإقرار، ويقولون: رجوعه عن الإقرار مقبول، وهو ضعيف؛ بل فرق بين من أقر تائبا ومن أقر غير تائب فإسقاط العقوبة بالتوبة - كما دلت عليه النصوص - أولى من إسقاطها بالرجوع عن الإقرار، والإقرار شهادة منه على نفسه، ولو قبل الرجوع لما قام حد بإقرار، فإذا لم تقبل التوبة بعد الإقرار مع أنه قد يكون صادقا فالرجوع الذي هو فيه كاذب أولى. اهـ.

وأما حديث المخزومية: فليس فيه أن الحد ثبت بإقرارها حتى تلقن الرجوع، ففي صحيح مسلم عن أبي الزبير، عن جابر، أن امرأة من بني مخزوم سرقت، فأتي بها النبي -صلى الله عليه وسلم-، فعاذت بأم سلمة زوج النبي -صلى الله عليه وسلم-، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «والله لو كانت فاطمة لقطعت يدها»، فقطعت. فقوله (أتي بها) يشير إلى أن ثبوت الحد لم يكن بإقرارها.

وإنما في قصة المخزومية النهي عن الشفاعة في الحدود بعد بلوغها للإمام وثبوتها عنده، جاء في طرح التثريب: فيه تحريم الشفاعة في الحد بعد رفعه إلى الإمام، وفي رواية الصحيحين: «أتشفع في حد من حدود الله؟» وقد ورد التشديد في ذلك؛ ففي سنن أبي داود عن ابن عمر سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: «من حالت شفاعته دون حد من حدود الله فقد ضاد الله» ورواه الحاكم في مستدركه بلفظ: «فقد ضاد الله في أمره».
ورواه الطبراني في معجمه الأوسط من حديث أبي هريرة بلفظ: «فقد ضاد الله في ملكه».

وروى الدارقطني من حديث الزبير بن العوام في قصة سارق رداء صفوان: «اشفعوا ما لم يصل إلى الوالي، فإذا وصل إلى الوالي فعفا، فلا عفا الله عنه». وروى الطبراني أيضا عن عروة بن الزبير قال: «لقي الزبير سارقا فشفع فيه، فقيل له: حتى نبلغه الإمام. فقال: إذا بلغ الإمام فلعن الله الشافع والمشفع، كما قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-». وفي سنن أبي داود، والنسائي من حديث عبد الله بن عمرو أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «تعافوا الحدود فيما بينكم فما بلغني من حد فقد وجب». وبالتحريم قال الجمهور، وحكي عن الأوزاعي جواز الشفاعة، والحديث حجة عليه، كذا قال والدي -رحمه الله- في شرح الترمذي، والذي حكاه غيره عن الأوزاعي جواز الشفاعة قبل بلوغ الإمام؛ كذا حكاه عنه الخطابي.
ونفى أبو العباس القرطبي الخلاف في ذلك، فقال: وهذا -أي: التحريم- لا يختلف فيه، وحكى النووي إجماع العلماء على التحريم بعد بلوغ الإمام، وأما الشفاعة قبل بلوغ الإمام فقد أجازها أكثر أهل العلم؛ لما جاء في الستر على المسلم مطلقا، لكن قال مالك: ذلك فيمن لم يعرف منه أذى الناس، فأما من عرف منه شر وفساد فلا أحب أن تقع فيه. وجزم بذلك النووي في شرح مسلم، وأما الشفاعة فيما ليس فيه حد وليس فيه حق لآدمي، وإنما فيه التعزير فجائز عند العلماء بلغ الإمام أم لا، والشفاعة فيه مستحبة إذا لم يكن المشفوع صاحب أذى ونحوه. اهـ. باختصار.

فالحاصل: أن الشرع لا يتشوف لإقامة الحدود على الناس، كما جاء عن عائشة قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «ادرؤوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم، فإن كان له مخرج فخلوا سبيله، فإن الإمام أن يخطئ في العفو خير من أن يخطئ في العقوبة». أخرجه الترمذي، وأعلَّه، ثم قال: وقد روي نحو هذا عن غير واحد من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- أنهم قالوا مثل ذلك. اهـ.

ومن ذلك: حث الشرع على ستر الإنسان لنفسه إن أصاب ما يوجب حدًّا، ومن أقر تائبًا استحب تلقينه الرجوع، وقُبل منه، وكذلك حث الشرع على تعافي الناس الحدود بينهم، والشفاعة فيها قبل أن تصل إلى الإمام.

وإنما المنهي عنه هو: الشفاعة في الحدود بعد بلوغها للإمام، وتعطيلها بعد ثبوتها، وهذا النهي لا يبطل الأصل العام من عدم تشوف الشرع لإقامة الحدود ابتداء.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

الصوتيات

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني