الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

الاجتماع على الذكر والدعاء بـ"أهيا شراهيا"

السؤال

أنا طالب في إحدى الجامعات التركية، وأجلس مع جماعات صوفية ـ جماعة سعيد النورسي ـ مع العلم أنني أشعر أنهم يقدسونه، ويقبلون كتبه، ويعظمونها، وبعد كل صلاة يقومون بقراءة تسبيحات وأوراد ويدعون أنها من السنة، وما لفت انتباهي في التسبيحات كلمة: "أهيا شراهيا"، وعندما سألت عن معناها قال: الحي القيوم، فأرجو أن تفيدوني بمعناها، وحكم قائلها، وهل قولها جائز؟ وما حكم جلوسي معهم أثناء قراءة التسبيحات، مع العلم أنني أعلم يقينًا أنها بدعة؟ وجزاكم الله خيرًا.

الإجابــة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:

فينبغي الحذر والتحذير من الغلو في المشايخ والصالحين، وتقديسهم، والتبرك بآثارهم وقبورهم، وراجع في ذلك الفتاوى التالية أرقامها: 33976، 172953، 14693، 8500.

وكذلك اتخاذ أوراد غير مأثورة، واعتقاد فضيلتها، والمواظبة عليها بهيئة معينة، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: ليس لأحد أن يسن للناس نوعًا من الأذكار والأدعية غير المسنون، ويجعلها عبادة راتبة، يواظب الناس عليها كما يواظبون على الصلوات الخمس، بل هذا ابتداع دين لم يأذن الله به. اهـ.

ويتأكد هذا إذا كان الذكر جماعيًّا، وبصوت واحد، وراجع في ذلك الفتاوى التالية أرقامها: 140564، 95594، 58906.

ومثل هذه البدع لا تجوز المشاركة فيها، ولا مجالسة أهلها عند قيامهم بها، إلا لمن يبذل لهم النصيحة، ويأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر، قال تعالى: وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ {النساء:140}، قال ابن عطية في المحرر الوجيز: في هذه الآية دليل قوي على وجوب تجنب أهل البدع وأهل المعاصي، وأن لا يجالسوا. اهـ.

وراجع في ذلك الفتويين رقم: 17737، ورقم: 59029.

وأما كلمة: أهيا شراهيا ـ التي سأل عنها السائل: فهي كما ذكر له: معناها الحي القيوم، كما ذكر المفسرون، روى عبد الرزاق في تفسيره: عن الثوري، عن الأعمش، عن عمرو بن مرة، عن أبي عبيدة في قوله تعالى: دعوا الله مخلصين له الدين {يونس: 22} قال: هيا شراهيا ـ قال سفيان: تفسيره: يا حي يا قيوم. اهـ.

ومن طريق عبد الرزاق رواه الطبري في تفسيره، وذكره كثير من المفسرين.

وأورد ابن كثير في تفسيره: بإسناد ابن أبي حاتم من وجه آخر عن الأعمش، به، عن أبي عبيدة، عن عبد الله ـ يعني ابن مسعود ـ قال: لما بعث الله عز وجل موسى إلى فرعون قال: رب، أي شيء أقول؟ قال قل: هيا شراهيا ـ قال الأعمش: فسر ذلك: الحي قبل كل شيء، والحي بعد كل شيء، قال ابن كثير: إسناد جيد، وشيء غريب. اهـ.

وقال أبو حيان في البحر المحيط عند قوله تعالى: قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ {النمل: 40} قال: العلم الذي أوتيه، قيل: اسم الله الأعظم وهو: يا حي يا قيوم، وقيل: يا ذا الجلال والإكرام، وقيل بالعبرانية: أهيا شراهيا. اهـ.

وقال الفيروزآبادي في القاموس المحيط: وإهيا ـ بكسر الهمزة ـ وأشر إهيا ـ بفتح الهمزة والشين ـ يونانية. أي: الأزلي الذي لم يزل، وليس هذا موضعه، لكن لأن الناس يغلطون ويقولون: أهيا شراهيا، وهو خطأ على ما يزعمه أحبار اليهود. اهـ.

وقال الزبيدي في تاج العروس: وأشر إهيا بفتح الهمزة والشين، وسكون الراء، كلمة يونانية، أو سريانية، أو عبرانية... قال الصاغاني: هكذا أقرأنيه حبر من أحبار اليهود بعدن أبين، وقيل: هيا شراهيا، وكأنه اختصار منه، أي يا حي يا قيوم، نقله الليث، وقال الصاغاني: وليس هذا موضعه؛ لأنه ليس على شرط الكتاب، لكن لأن الناس يغلطون ويقولون: أهيا بفتح الهمزة، وبخط الصاغاني: بمد الهمزة، وشراهيا بإسقاط الهمزة، وهو خطأ على ما يزعمه أحبار اليهود، وهذا الذي خطأه هو المشهور في كتب القوم، ولا يكادون ينطقون بغير ذلك. اهـ.

هذا من حيث معناها، وأصلها، وأما حكم إدخالها في ورد من أوراد الذكر، فينبني حكمه على مسألتين:

الأولى: تسمية الله تعالى باسم أعجمي، وهذا جائز في باب الترجمة، وبيان المعنى لمن لا يحسن العربية، جاء في مواهب الجليل: قال القمولي: اختلف العلماء في إطلاق اسم عليه تعالى بغير العربية، فمنعه قوم؛ لأن الأسماء توقيفية، ولم يرد الشرع بذلك، وإذا أراد العجمي الدعاء سمى الله باسمه باللسان العربي، ثم يذكر حاجته بلغته، وذهب قوم إلى الجواز، وهو مذهب الفقهاء. اهـ.

وسئلت اللجنة الدائمة للإفتاء عن حكم تسمية الله تعالى بغير أسمائه العربية، مثل خدا بالفارسية، أو خداي بالبشتو، أو كاد بالإنجليزي، وغيرها من الأسماء، وغير ذلك من التفاصيل المتعلقة بهذا الموضوع.

فأجابت: تجوز ترجمة أسماء الله لمن لا يعرف اللغة العربية بلغتهم إذا كان المترجم بصيرًا للغتين، كما يجوز أن تترجم لهم معاني الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية لتفهيمهم الدين. اهـ.

وسئل الشيخ ابن عثيمين: هل يجوز ترجمة أسماء الله الحسنى إلى لغة غير عربية؟

فأجاب: ترجمة أسماء الله سبحانه وتعالى لمن يريد أن يتفهمها: هذا لا بأس به، بل قد يكون واجبًا؛ إذ إن الذي لا يعرف اللغة العربية يحتاج إلى فهم المعنى؛ ولهذا قال الله عز وجل: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ ـ يعني: بِلُغتهم: لِيُبَيِّنَ لَهُمْ {إبراهيم: 4} فترجمتها لأجل التفهيم: لا بأس به، أما لأجل التأسيس، بمعنى أن نُحلَّ غير اللغة العربية محل اللغة العربية: فهذا لا يجوز؛ لأنه طمسٌ للغة العربية. اهـ.

والمسألة الثانية: ذكر الله تعالى ودعاؤه بغير اللغة العربية في غير الصلاة، وهذا جائز مع الكراهة لمن يحسن العربية، جاء في حاشية الروض المربع: قال شيخ الإسلام: كل اسم مجهول، فليس لأحد أن يرقي به، فضلًا عن أن يدعو به، ولو عرف معناه؛ لأنه يكره الدعاء بغير العربية، وإنما يرخص لمن لا يحسن العربية، فأما جعل الألفاظ الأعجمية شعارًا، فليس من دين الإسلام. اهـ.

وقال الشرنبلالي في مراقي الفلاح: التلبية في الحج، والسلام من الصلاة، والتسمية على الذبيحة، والأيمان، جائز بغير العربية مع القدرة عليها إجماعًا ـ يعني بين علماء الحنفية. اهـ.

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: الدعاء يجوز بالعربية، وبغير العربية، والله سبحانه يعلم قصد الداعي ومراده، وإن لم يقوِّم لسانه. اهـ.

وجاء في فتاوى اللجنة الدائمة: يجوز للشخص أن يدعو الله جل وعلا باللغة التي يعرفها من لغة عربية، أو إنجليزية، أو أوردية، أو غيرها من اللغات. اهـ. وراجع للفائدة الفتوى رقم: 184177.

وقد سبق لنا ذكر ضابط استبدال اللغة العربية بالأعجمية في العبادات، وذلك في الفتوى رقم: 51602.

والخلاصة أن مجرد الدعاء أو الذكر بهذه العبارة محل السؤال ليس فيه ما يحرم، بناء على التفسير المذكور له، والأفضل استعمال العربية في سائر أنواع العبادات، ويبقى النظر بعد ذلك في هيئة الذكر وكيفيته، كما ألمحنا إليه في صدر الجواب، وراجع للفائدة الفتوى رقم: 304963.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني