الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

توجيه مقولة: "ما عبدتك شوقًا إلى جنتك، ولا خوفًا من نارك"

السؤال

هناك مقولة مشهورة عند الصوفية عن الزهد في الآخرة، وهي: "إن العابد لا يعبد الله من أجل الجنة والنار، وإلا فهو كالأجير، حيث يتنافى ذلك مع كمال الإخلاص"، فما صحة تلك المقولة؟ وما توجيهها؟ وما رأيكم في كتاب أحكام الدلالة على تحرير الرسالة للشيخ زكريا الأنصاري؟ مع العلم أنه يحتوي على تلك الفكرة التي تتكلم عن الزهد في الآخرة؟

الإجابــة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:

فتوجيه هذا المعنى وتأويله على وجه يمكن قبوله هو: أن الله تعالى مستحق للعبادة، ولو لم يخلق جنة أو نارًا، فلا ينبغي للعابد أن تقتصر علة عبادته لربه سبحانه على رغبته في الجنة، أو خوفه من النار، بحيث لو لم يوجدا ما عمل شيئًا، ولا أدّى حق العبودية لله تعالى، وإنما ينبغي أن يقصد بذلك: أداء ما ينبغي لله تعالى لكمال ذاته، وصفاته، وأفعاله، ويجمع إلى ذلك: رجاء ثوابه، وخوف عقابه، اللذَين هما من جملة أفعاله، فيعبد ربه محبةً، وتعظيمًا، وحياءً، كما يعبده خوفًا، ورجاءً وراجع الفتوى رقم: 46678.

وأما المحظور في هذا المعنى: فقد أتى بسبب قصر الآخرة على النعيم الحسي بالطعام، والشراب، واللباس، والنكاح، ونحو ذلك، وتجريدها عما يلازمها من لقاء الله تعالى، والقرب منه، والنظر إلى وجهه الكريم! وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد جمع بين سؤال الله تعالى: النعيم الذي لا ينفد، وبين سؤاله قرة العين التي لا تنقطع، كما جمع بين سؤاله: برد العيش بعد الموت، وسؤاله لذة النظر إلى وجهه، والشوق إلى لقائه سبحانه، ومجموع ذلك هو فوز الآخرة، ففي الدعاء النبوي المحفوظ: وأسألك نعيمًا لا ينفد، وأسألك قرة عين لا تنقطع، وأسألك الرضاء بعد القضاء، وأسألك برد العيش بعد الموت، وأسألك لذة النظر إلى وجهك والشوق إلى لقائك... رواه أحمد، والنسائي، وصححه الألباني.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية في كتاب النبوات: لما ظنوا أن الجنة لا يدخل فيها النظر إليه، صاروا يستخفون بمسمى الجنة، ويقول أحدهم: ما عبدتك شوقًا إلى جنتك، ولا خوفًا من نارك، وهم قد غلطوا من وجهين:
أحدهما: أن ما يطلبونه من النظر إليه والتمتع بذكره ومشاهدته، كل ذلك في الجنة.
الثاني: أن الواحد من هؤلاء لو جاع في الدنيا أيامًا، أو ألقي في بعض عذابها، طار عقله، وخرج من قلبه كل محبة؛ ولهذا قال سمنون:

وليس لي في سواك حظ ... فكيفما شئت فامتحني.

ابتلي بعسر البول، فصار يطوف على المكاتب، ويقول: ادعوا لعمكم الكذاب ـ وأبو سليمان لما قال: قد أعطيت من الرضا نصيبًا، لو ألقاني في النار لكنت راضيًا، ذكر أنه ابتلي بمرض، فقال: إن لم يعافني وإلا كفرت، أو نحو هذا، والفضيل بن عياض ابتلي بعسر البول، فقال: بحبي لك إلا فرجت عني ـ فبذل حبه في عسر البول، فلا طاقة لمخلوق بعذاب الله، ولا غنى به عن رحمته. اهـ.

وسئلت اللجنة الدائمة للإفتاء عن حكم قول بعض الناس: عبادتي لك يا الله حبًّا في ذاتك، وإن كنت أعبدك خوفًا من نارك فأدخلني نارك، وإن كنت أعبدك حبًّا في جنتك فأدخلني نارك؟

فأجابت: عبادة الله بالحب فقط هي منهج الصوفية الضالة، وهو منهج مبتدع، ومحبة الله هي أعظم منازل العبادة، وليست هي كل العبادة، ومنهج أهل السنة هو عبادة الله بالحب، والخوف، والرجاء، والخشية، وغير ذلك من أنواع العبادة، قال تعالى: ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً ـ وقال تعالى عن أنبيائه: إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ ـ وقال تعالى عن الملائكة: وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ ـ وقال تعالى: يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ـ إلى غير ذلك من الآيات. اهـ.

وراجع الفتوى رقم: 162635.

والمقصود أن المعنى المسؤول عنه ينبغي أن يفصَّل فيه؛ لأن فيه ملمحًا مقبولًا وآخر مردودًا، ومن أحسن من فصَّل في هذا الموضوع ابن القيم ـ رحمه الله ـ في شرحه لمنزلة: تعظيم حرمات الله ـ من منازل السائرين عند قول الهروي: وهي على ثلاث درجات: الدرجة الأولى: تعظيم الأمر والنهي، لا خوفًا من العقوبة، فتكون خصومة للنفس، ولا طلبًا للمثوبة فيكون مستشرفًا للأجرة، ولا مشاهدًا لأحد، فيكون متزينًا بالمراءاة، فإن هذه الأوصاف كلها من شعب عبادة النفس. اهـ.
حيث قال -رحمه الله-: هذا الموضع يكثر في كلام القوم، والناس بين معظم له ولأصحابه، معتقد أن هذا أرفع درجات العبودية... وطائفة ثانية تجعل هذا الكلام من شطحات القوم ورعوناتهم، وتحتج بأحوال الأنبياء والرسل والصديقين، ودعائهم، وسؤالهم، والثناء عليهم بخوفهم من النار، ورجائهم للجنة... اهـ.

وذكر ما استدل به كل فريق وما حام حوله من المعاني، ثم قال: والتحقيق أن يقال: الجنة ليست اسمًا لمجرد الأشجار، والفواكه، والطعام، والشراب، والحور العين، والأنهار، والقصور، وأكثر الناس يغلطون في مسمى الجنة، فإن الجنة اسم لدار النعيم المطلق الكامل، ومن أعظم نعيم الجنة التمتع بالنظر إلى وجه الله الكريم، وسماع كلامه، وقرة العين بالقرب منه، وبرضوانه، فلا نسبة للذة ما فيها من المأكول، والمشروب، والملبوس، والصور، إلى هذه اللذة أبدًا، فأيسر يسير من رضوانه أكبر من الجنان وما فيها من ذلك... اهـ.

وراجع بقية كلامه في الفتوى رقم: 204511.

وقال بعد ذلك: ومقصد القوم أن العبد يعبد ربه بحق العبودية، والعبد إذا طلب من سيده أجرة على خدمته له كان أحمق ساقطًا من عين سيده، إن لم يستوجب عقوبته؛ إذ عبوديته تقتضي خدمته لهن، وإنما يخدم بالأجرة من لا عبودية للمخدوم عليه... وهذا لا ينكر على الإطلاق، ولا يقبل على الإطلاق، وهو موضع تفصيل وتمييز، وقد تقدم في أول الحديث ذكر طرق الخلق في هذا الموضع، وبينا طريق أهل الاستقامة، فالناس في هذا المقام أربعة أقسام:

أحدهم: من لا يريد ربه، ولا يريد ثوابه، فهؤلاء أعداؤه حقًّا، وهم أهل العذاب الدائم...

والقسم الثاني: من يريده ويريد ثوابه، وهؤلاء خواص خلقه، قال الله تعالى: وإن كنتن تردن الله ورسوله والدار الآخرة فإن الله أعد للمحسنات منكن أجرًا عظيمًا {الأحزاب: 29}، فهذا خطابه لخير نساء العالمين، أزواج نبيه صلى الله عليه وسلم، وقال الله تعالى: ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورًا {الإسراء: 19} فأخبر أن السعي المشكور: سعي من أراد الآخرة، وأصرح منها قوله لخواص أوليائه، وهم أصحاب نبيه - صلى الله عليه وسلم، ورضي عنهم - في يوم أحد: منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة {آل عمران: 152} فقسمهم إلى هذين القسمين اللذين لا ثالث لهما، وقد غلط من قال: فأين من يريد الله؟ فإن إرادة الآخرة عبارة عن إرادة الله تعالى، وثوابه، فإرادة الثواب لا تنافي إرادة الله.

والقسم الثالث: من يريد من الله، ولا يريد الله، فهذا ناقص غاية النقص، وهو حال الجاهل بربه، الذي سمع أن ثَمَّ جنة ونارًا، فليس في قلبه غير إرادة نعيم الجنة المخلوق، لا يخطر بباله سواه البتة...

والقسم الرابع ـ وهو محال ـ أن يريد الله، ولا يريد منه، فهذا هو الذي يزعم هؤلاء أنه مطلوبهم، وأن من لم يصل إليه ففي سيره علة، وأن العارف ينتهي إلى هذا المقام، وهو أن يكون الله مراده، ولا يريد منه شيئًا، كما يحكى عن أبي يزيد أنه قال: قيل لي: ما تريد؟ فقلت: أريد أن لا أريد ـ وهذا في التحقيق عين المحال الممتنع: عقلًا، وفطرة، وحسًّا، وشرعًا، فإن الإرادة من لوازم الحي، وإنما يعرض له التجرد عنها بالغيبة عن عقله، وحسّه، كالسكر، والإغماء، والنوم، فنحن لا ننكر التجريد عن إرادة ما سواه من المخلوقات التي تزاحم إرادتها إرادته، أفليس صاحب هذا المقام مريدًا لقربه، ورضاه، ودوام مراقبته، والحضور معه؟ وأي إرادة فوق هذه؟ نعم، قد زهد في مراد لمراد هو أجلّ منه وأعلى، فلم يخرج عن الإرادة، وإنما انتقل من إرادة إلى إرادة، ومن مراد إلى مراد، وأما خلوه عن صفة الإرادة بالكلية، مع حضور عقله، وحسه فمحال... اهـ.

وأما السؤال عن كتاب: أحكام الدلالة على تحرير الرسالة ـ فقد سبق أن أجبناك عنه في الفتوى رقم: 313651 .

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

الصوتيات

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني