الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
1033 - وأخبرنا أبو الحسين ، أنا إسماعيل ، نا أحمد ، نا عبد الرزاق ، أنا معمر ، أنا همام ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله . قال : وأخبرني من سمع الحسن يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله . أخرجه البخاري ، ومسلم في الصحيح ، ورواه البخاري عن محمود بن غيلان ، ويحيى بن موسى ، ورواه مسلم عن محمد بن رافع ، كلهم عن عبد الرزاق دون حديث الحسن . قال أبو سليمان الخطابي : " هذا حديث يطعن فيه الملحدون وأهل البدع ، ويغمزون به في رواته ونقلته ، ويقولون : كيف يجوز أن يفعل نبي الله موسى هذا الصنيع بملك من ملائكة الله ، جاءه بأمر من أمره فيستعصي عليه ولا يأتمر له ؟ وكيف تصل يده إلى الملك ، ويخلص إليه صكه ولطمه ؟ وكيف ينهنه الملك المأمور بقبض روحه فلا يمضي أمر الله فيه ؟ هذه أمور خارجة عن المعقول ، سالكة طريق الاستحالة من كل وجه .

والجواب أن من اعتبر هذه الأمور بما جرى به عرف البشر ، واستمرت عليه عادات طباعهم ، فإنه يسرع إلى استنكارها والارتياب بها ، لخروجها عن سوم طباع البشر ، وعن سنن عاداتهم ، إلا أنه أمر مصدره عن قدرة الله عز وجل ، الذي لا يعجزه شيء ، ولا يتعذر عليه أمر ، وإنما هو محاولة بين ملك كريم وبين كليم ، وكل واحد منهما مخصوص بصفة خرج بها عن حكم عوام البشر ، ومجاري عاداتهم في المعنى الذي خص به من آثره الله باختصاصه إياه ، فالمطالبة بالتسوية بينهما وبينهم فيما تنازعاه من هذا الشأن حتى يكون ذلك على أحكام طباع الآدميين وقياس أحوالهم [ ص: 451 ] غير واجبة في حق النظر ، ولله عز وجل لطائف وخصائص يخص بها من يشاء من أنبيائه وأوليائه ،  ويفردهم بحكمها دون سائر خلقه ، وقد أعطى موسى صلوات الله عليه النبوة ، واصطفاه بمناجاته وكلامه ، وأمده حين أرسله إلى فرعون بالمعجزات الباهرة ، كالعصا واليد البيضاء وسخر له البحر فصار طريقا يبسا ، جاز عليه هو وقومه وأولياؤه ، وغرق فيه خصمه وأعداؤه ، وهذه أمور أكرمه الله بها ، وأفرده بالاختصاص فيها ، أيام حياته ومدة بقائه في دار الدنيا ، ثم إنه لما دنا حين وفاته ، وهو بشر يكره الموت طبعا ، ويجد ألمه حسا ، لطف له بأن لم يفاجئه به بغتة ، ولم يأمر الملك الموكل به أن يأخذه قهرا وقسرا ، لكن أرسله إليه منذرا بالموت ، وأمره بالتعرض له على سبيل الامتحان في صورة بشر ، فلما رآه موسى استنكر شأنه ، واستوعر مكانه ، فاحتجر منه دفعا عن نفسه بما كان من صكه إياه ، فأتى ذلك على عينه التي ركبت في الصورة البشرية التي جاءه فيها دون الصورة الملكية التي هو مجبول الخلقة عليها ، ومثل هذه الأمور مما يعلل به طباع البشر ، وتطيب به نفوسهم في المكروه الذي هو واقع بهم ، فإنه لا شيء أشفى للنفس من الانتقام ممن يكيدها ويريدها بسوء ، وقد كان من طبع موسى صلوات الله وسلامه عليه فيما دل عليه آي من القرآن حمى وحدة ، وقد قص علينا الكتاب ما كان من وكزه القبطي الذي قضى عليه ، وما كان عند غضبه من إلقائه الألواح ، وأخذه برأس أخيه يجره إليه ، وقد روي أنه كان إذا غضب اشتعلت قلنسوته نارا ، وقد جرت سنة الدين بحفظ النفس ودفع الضرر والضيم عنها ، ومن شريعة نبينا صلى الله عليه وسلم ما سنه فيمن اطلع على محرم قوم من عقوبته في عينه ، فقال : " من اطلع في بيت قوم بغير إذنهم فقد حل لهم أن يفقأوا عينه "   .

ولما نظر نبي الله [ ص: 452 ] موسى عليه السلام إلى صورة بشرية هجمت عليه من غير إذن تريد نفسه ، وتقصد هلاكه ، وهو لا يثبته معرفة ، ولا يستيقن أنه ملك الموت ، ورسول رب العالمين ، فيما يراوده منه ، عمد إلى دفعه عن نفسه بيده وبطشه ، فكان في ذلك ذهاب عينه . وقد امتحن غير واحد من الأنبياء صلوات الله عليهم بدخول الملائكة عليهم في صورة البشر ، كدخول الملكين على داود عليه السلام في صورة الخصمين ، لما أراد الله عز وجل من تقريعه إياه بذنبه وتنبيهه على ما لم يرضه من فعله ، وكدخولهم على إبراهيم عليه السلام حين أرادوا إهلاك قوم لوط عليه السلام ، فقال : قوم منكرون ، وقال : فلما رأى أيديهم لا تصل إليه نكرهم وأوجس منهم خيفة وكان نبينا صلوات الله عليه أول ما بدئ بالوحي يأتيه الملك فيلتبس عليه أمره ،  ولما جاءه جبريل عليه السلام في صورة رجل فسأله عن الإيمان لم يتبينه ، فلما انصرف عنه تبين أمره فقال : " هذا جبريل جاءكم يعلمكم أمر دينكم " . وكذلك كان أمر موسى عليه السلام فيما جرى من مناوشته ملك الموت وهو يراه بشرا ، فلما عاد الملك إلى ربه عز وجل مستثبتا أمره فيما جرى عليه ، رد الله عز وجل عليه عينه وأعاده رسولا إليه بالقول المذكور في الخبر الذي رويناه ، ليعلم نبي الله صلوات الله عليه إذا رأى صحة عينه المفقوءة ، وعود بصره الذاهب ، أنه رسول الله بعثه لقبض روحه ، فاستسلم حينئذ لأمره وطاب نفسا بقضائه ، وكل ذلك رفق من الله عز وجل به ، ولطف به في تسهيل ما لم يكن بد من لقائه ، والانقياد لمورد قضائه . قال : وما أشبه معنى قوله : " ما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن نفس المؤمن يكره الموت " بترديد رسوله ملك الموت إلى نبيه موسى عليهما الصلاة والسلام ، فيما كرهه من نزول الموت به لطفا منه بصفيه ، وعطفا عليه . والتردد على الله سبحانه غير جائز ، وإنما هو مثل يقرب به معنى ما أراده إلى فهم السامع ، والمراد به ترديد الأسباب والوسائط من رسول أو شيء غيره ، كما شاء سبحانه ، تنزه عن [ ص: 453 ] صفات المخلوقين وتعالى عن نعوت المربوبين ، الذين يعتريهم في أمورهم الندم والبداء ، وتختلف بهم العزائم والآراء ليس كمثله شيء وهو السميع البصير " .

التالي السابق


الخدمات العلمية