1033 - وأخبرنا أبو الحسين ، أنا إسماعيل ، نا أحمد ، نا عبد الرزاق ، أنا معمر ، أنا همام ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله . قال : وأخبرني من سمع الحسن يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله . أخرجه البخاري ، ومسلم في الصحيح ، ورواه البخاري عن محمود بن غيلان ، ويحيى بن موسى ، ورواه مسلم عن محمد بن رافع ، كلهم عن عبد الرزاق دون حديث الحسن . قال أبو سليمان الخطابي : " هذا حديث يطعن فيه الملحدون وأهل البدع ، ويغمزون به في رواته ونقلته ، ويقولون : كيف يجوز أن يفعل نبي الله موسى هذا الصنيع بملك من ملائكة الله ، جاءه بأمر من أمره فيستعصي عليه ولا يأتمر له ؟ وكيف تصل يده إلى الملك ، ويخلص إليه صكه ولطمه ؟ وكيف ينهنه الملك المأمور بقبض روحه فلا يمضي أمر الله فيه ؟ هذه أمور خارجة عن المعقول ، سالكة طريق الاستحالة من كل وجه .
والجواب أن من اعتبر هذه الأمور بما جرى به عرف البشر ، واستمرت عليه عادات طباعهم ، فإنه يسرع إلى استنكارها والارتياب بها ، لخروجها عن سوم طباع البشر ، وعن سنن عاداتهم ، إلا أنه أمر مصدره عن قدرة الله عز وجل ، الذي لا يعجزه شيء ، ولا يتعذر عليه أمر ، وإنما هو محاولة بين ملك كريم وبين كليم ، وكل واحد منهما مخصوص بصفة خرج بها عن حكم عوام البشر ، ومجاري عاداتهم في المعنى الذي خص به من آثره الله باختصاصه إياه ، فالمطالبة بالتسوية بينهما وبينهم فيما تنازعاه من هذا الشأن حتى يكون ذلك على أحكام طباع الآدميين وقياس أحوالهم [ ص: 451 ] غير واجبة في حق النظر ، ولله عز وجل لطائف وخصائص يخص بها من يشاء من أنبيائه وأوليائه ، ويفردهم بحكمها دون سائر خلقه ، وقد أعطى موسى صلوات الله عليه النبوة ، واصطفاه بمناجاته وكلامه ، وأمده حين أرسله إلى فرعون بالمعجزات الباهرة ، كالعصا واليد البيضاء وسخر له البحر فصار طريقا يبسا ، جاز عليه هو وقومه وأولياؤه ، وغرق فيه خصمه وأعداؤه ، وهذه أمور أكرمه الله بها ، وأفرده بالاختصاص فيها ، أيام حياته ومدة بقائه في دار الدنيا ، ثم إنه لما دنا حين وفاته ، وهو بشر يكره الموت طبعا ، ويجد ألمه حسا ، لطف له بأن لم يفاجئه به بغتة ، ولم يأمر الملك الموكل به أن يأخذه قهرا وقسرا ، لكن أرسله إليه منذرا بالموت ، وأمره بالتعرض له على سبيل الامتحان في صورة بشر ، فلما رآه موسى استنكر شأنه ، واستوعر مكانه ، فاحتجر منه دفعا عن نفسه بما كان من صكه إياه ، فأتى ذلك على عينه التي ركبت في الصورة البشرية التي جاءه فيها دون الصورة الملكية التي هو مجبول الخلقة عليها ، ومثل هذه الأمور مما يعلل به طباع البشر ، وتطيب به نفوسهم في المكروه الذي هو واقع بهم ، فإنه لا شيء أشفى للنفس من الانتقام ممن يكيدها ويريدها بسوء ، وقد كان من طبع موسى صلوات الله وسلامه عليه فيما دل عليه آي من القرآن حمى وحدة ، وقد قص علينا الكتاب ما كان من وكزه القبطي الذي قضى عليه ، وما كان عند غضبه من إلقائه الألواح ، وأخذه برأس أخيه يجره إليه ، وقد روي أنه كان إذا غضب اشتعلت قلنسوته نارا ، وقد جرت سنة الدين بحفظ النفس ودفع الضرر والضيم عنها ، ومن شريعة نبينا صلى الله عليه وسلم ما سنه فيمن اطلع على محرم قوم من عقوبته في عينه ، فقال : " من اطلع في بيت قوم بغير إذنهم فقد حل لهم أن يفقأوا عينه " .
ولما نظر نبي الله [ ص: 452 ] موسى عليه السلام إلى صورة بشرية هجمت عليه من غير إذن تريد نفسه ، وتقصد هلاكه ، وهو لا يثبته معرفة ، ولا يستيقن أنه ملك الموت ، ورسول رب العالمين ، فيما يراوده منه ، عمد إلى دفعه عن نفسه بيده وبطشه ، فكان في ذلك ذهاب عينه . وقد امتحن غير واحد من الأنبياء صلوات الله عليهم بدخول الملائكة عليهم في صورة البشر ، كدخول الملكين على داود عليه السلام في صورة الخصمين ، لما أراد الله عز وجل من تقريعه إياه بذنبه وتنبيهه على ما لم يرضه من فعله ، وكدخولهم على إبراهيم عليه السلام حين أرادوا إهلاك قوم لوط عليه السلام ، فقال : قوم منكرون ، وقال : فلما رأى أيديهم لا تصل إليه نكرهم وأوجس منهم خيفة وكان نبينا صلوات الله عليه أول ما بدئ بالوحي يأتيه الملك فيلتبس عليه أمره ، ولما جاءه جبريل عليه السلام في صورة رجل فسأله عن الإيمان لم يتبينه ، فلما انصرف عنه تبين أمره فقال : " هذا جبريل جاءكم يعلمكم أمر دينكم " . وكذلك كان أمر موسى عليه السلام فيما جرى من مناوشته ملك الموت وهو يراه بشرا ، فلما عاد الملك إلى ربه عز وجل مستثبتا أمره فيما جرى عليه ، رد الله عز وجل عليه عينه وأعاده رسولا إليه بالقول المذكور في الخبر الذي رويناه ، ليعلم نبي الله صلوات الله عليه إذا رأى صحة عينه المفقوءة ، وعود بصره الذاهب ، أنه رسول الله بعثه لقبض روحه ، فاستسلم حينئذ لأمره وطاب نفسا بقضائه ، وكل ذلك رفق من الله عز وجل به ، ولطف به في تسهيل ما لم يكن بد من لقائه ، والانقياد لمورد قضائه . قال : وما أشبه معنى قوله : " ما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن نفس المؤمن يكره الموت " بترديد رسوله ملك الموت إلى نبيه موسى عليهما الصلاة والسلام ، فيما كرهه من نزول الموت به لطفا منه بصفيه ، وعطفا عليه . والتردد على الله سبحانه غير جائز ، وإنما هو مثل يقرب به معنى ما أراده إلى فهم السامع ، والمراد به ترديد الأسباب والوسائط من رسول أو شيء غيره ، كما شاء سبحانه ، تنزه عن [ ص: 453 ] صفات المخلوقين وتعالى عن نعوت المربوبين ، الذين يعتريهم في أمورهم الندم والبداء ، وتختلف بهم العزائم والآراء ليس كمثله شيء وهو السميع البصير " .


