الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 243 ] القول في تأويل قوله عز ذكره ( إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا )

قال أبو جعفر : وهذا بيان من الله عز ذكره عن حكم " الفساد في الأرض " ، الذي ذكره في قوله : " من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض " أعلم عباده : ما الذي يستحق المفسد في الأرض من العقوبة والنكال ، فقال تبارك وتعالى : لا جزاء له في الدنيا إلا القتل ، والصلب ، وقطع اليد والرجل من خلاف ، أو النفي من الأرض ، خزيا لهم . وأما في الآخرة إن لم يتب في الدنيا ، فعذاب عظيم .

ثم اختلف أهل التأويل فيمن نزلت هذه الآية .

فقال بعضهم : نزلت في قوم من أهل الكتاب كانوا أهل موادعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فنقضوا العهد ، وأفسدوا في الأرض ، فعرف الله نبيه صلى الله عليه وسلم الحكم فيهم .

ذكر من قال ذلك :

11803 - حدثني المثنى قال : حدثنا عبد الله بن صالح قال : حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس قوله : " إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا " ، قال : كان قوم من أهل الكتاب بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم عهد وميثاق ، فنقضوا العهد وأفسدوا في الأرض ، فخير الله رسوله : إن شاء أن يقتل ، وإن شاء أن يقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف .

11804 - حدثني المثنى قال : حدثنا عمرو بن عون قال : أخبرنا هشيم ، عن جويبر ، عن الضحاك قال : كان قوم بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم ميثاق ، فنقضوا العهد وقطعوا السبيل ، وأفسدوا في الأرض ، فخير الله جل [ ص: 244 ] وعز نبيه صلى الله عليه وسلم فيهم ، فإن شاء قتل ، وإن شاء صلب ، وإن شاء قطع أيديهم وأرجلهم من خلاف .

11805 - حدثت عن الحسين قال : سمعت أبا معاذ قال : حدثني عبيد بن سليمان قال : سمعت الضحاك يقول ، فذكر نحوه .

وقال آخرون : نزلت في قوم من المشركين .

ذكر من قال ذلك :

11806 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا يحيى بن واضح قال : حدثنا الحسين بن واقد ، عن يزيد ، عن عكرمة ، والحسن البصري قالا قال : " إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله " إلى " أن الله غفور رحيم " ، نزلت هذه الآية في المشركين ، فمن تاب منهم من قبل أن تقدروا عليه لم يكن عليه سبيل . وليست تحرز هذه الآية الرجل المسلم من الحد . إن قتل أو أفسد في الأرض أو حارب الله ورسوله ، ثم لحق بالكفار قبل أن يقدر عليه ، لم يمنعه ذلك أن يقام فيه الحد الذي أصاب .

11807 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا يحيى بن سعيد ، عن أشعث ، عن الحسن : " إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله " ، قال : نزلت في أهل الشرك .

وقال آخرون : بل نزلت في قوم من عرينة وعكل ، ارتدوا عن الإسلام ، وحاربوا الله ورسوله .

[ ذكر من قال ذلك ] :

11808 - حدثنا ابن بشار قال : حدثنا روح بن عبادة قال : حدثنا سعيد [ ص: 245 ] بن أبي عروبة ، عن قتادة ، عن أنس : أن رهطا من عكل ، وعرينة ، أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا رسول الله ، إنا أهل ضرع ، ولم نكن أهل ريف ، وإنا استوخمنا المدينة ، فأمر لهم النبي صلى الله عليه وسلم بذود وراع ، وأمرهم أن يخرجوا فيها فيشربوا من ألبانها وأبوالها ، فقتلوا راعي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، واستاقوا الذود ، وكفروا بعد إسلامهم . فأتي بهم النبي صلى الله عليه وسلم ، فقطع أيديهم وأرجلهم ، وسمل أعينهم ، وتركهم في الحرة حتى ماتوا فذكر لنا أن هذه الآية نزلت فيهم : " إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله " .

11809 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا روح قال : حدثنا هشام بن أبي عبد الله ، عن قتادة ، عن أنس بن مالك ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، بمثل هذه القصة .

11810 - حدثنا محمد بن علي بن الحسن بن شقيق قال : سمعت أبي يقول : [ ص: 246 ] أخبرنا أبو حمزة ، عن عبد الكريم ، وسئل عن أبوال الإبل فقال : حدثني سعيد بن جبير ، عن المحاربين فقال : كان ناس أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا : نبايعك على الإسلام ! فبايعوه وهم كذبة ، وليس الإسلام يريدون . ثم قالوا : إنا نجتوي المدينة ! فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "هذه اللقاح تغدو عليكم وتروح ، فاشربوا من أبوالها ، وألبانها . قال : فبينا هم كذلك ، إذ جاء الصريخ ، فصرخ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : قتلوا الراعي ، وساقوا النعم! فأمر نبي الله فنودي في الناس : أن " يا خيل الله اركبي " ! قال : فركبوا ، لا ينتظر فارس فارسا . قال : فركب رسول الله صلى الله عليه وسلم على أثرهم ، فلم يزالوا يطلبونهم حتى أدخلوهم مأمنهم ، فرجع صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أسروا منهم ، فأتوا بهم النبي صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله : " إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله " الآية . قال : فكان نفيهم : أن نفوهم حتى أدخلوهم مأمنهم وأرضهم ، ونفوهم من أرض المسلمين . وقتل نبي الله منهم ، وصلب وقطع ، وسمل الأعين . قال : فما مثل رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل ولا بعد . قال : ونهى عن المثلة ، وقال : لا تمثلوا بشيء . قال : فكان أنس بن مالك يقول ذلك ، غير أنه قال : أحرقهم بالنار بعد ما قتلهم . [ ص: 247 ]

قال : وبعضهم يقول : هم ناس من بني سليم ، ومنهم من عرينة ، وناس من بجيلة

[ ذكر من قال ذلك ] :

11811 - حدثني محمد بن خلف قال : حدثنا الحسن بن حماد ، عن عمرو بن هاشم ، عن موسى بن عبيدة ، عن محمد بن إبراهيم ، عن جرير قال : قدم على النبي صلى الله عليه وسلم قوم من عرينة ، حفاة مضرورين ، فأمر بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم . فلما صحوا واشتدوا ، قتلوا رعاء اللقاح ، ثم خرجوا باللقاح عامدين بها إلى أرض قومهم . قال جرير : فبعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفر من المسلمين حتى أدركناهم بعد ما أشرفوا على بلاد قومهم ، فقدمنا بهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف ، وسمل أعينهم ، وجعلوا يقولون : "الماء"! ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "النار"! حتى هلكوا . قال : وكره الله عز وجل سمل الأعين ، فأنزل هذه الآية : " إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله " إلى آخر الآية . [ ص: 248 ]

11812 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : أخبرني ابن لهيعة ، عن أبي الأسود محمد بن عبد الرحمن ، عن عروة بن الزبير ح ، وحدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : أخبرني يحيى بن عبد الله بن سالم ، وسعيد بن عبد الرحمن ، وابن سمعان ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه قال : أغار ناس من عرينة على لقاح رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فاستاقوها وقتلوا غلاما له فيها ، فبعث في آثارهم ، فأخذوا ، فقطع أيديهم وأرجلهم وسمل أعينهم . [ ص: 249 ]

11813 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : أخبرني عمرو بن الحارث ، عن سعيد بن أبي هلال ، عن أبي الزناد ، عن عبد الله بن عبيد الله ، عن عبد الله بن عمر أو : عمرو ، شك يونس ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك ، ونزلت فيهم آية المحاربة .

11814 - حدثنا علي بن سهل قال : حدثنا الوليد بن مسلم قال : حدثنا الأوزاعي ، عن يحيى بن أبي كثير ، عن أبي قلابة ، عن أنس قال : قدم ثمانية نفر من عكل على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأسلموا ، ثم اجتووا المدينة ، فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتوا إبل الصدقة فيشربوا من أبوالها وألبانها . [ ص: 250 ] ففعلوا ، فقتلوا رعاتها ، واستاقوا الإبل . فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم في أثرهم قافة ، فأتي بهم ، فقطع أيديهم وأرجلهم ، وتركهم فلم يحسمهم حتى ماتوا .

11815 - حدثنا علي قال : حدثنا الوليد قال : حدثني سعيد ، عن قتادة ، عن أنس قال : كانوا أربعة نفر من عرينة ، وثلاثة من عكل . فلما أتي بهم ، قطع أيديهم وأرجلهم ، وسمل أعينهم ، ولم يحسمهم ، وتركهم يتلقمون الحجارة بالحرة ، فأنزل الله جل وعز في ذلك : " إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله " ، الآية .

11816 - حدثني علي قال : حدثنا الوليد ، عن ابن لهيعة ، عن يزيد بن أبي حبيب : أن عبد الملك بن مروان كتب إلى أنس يسأله عن هذه الآية ، فكتب إليه أنس يخبره أن هذه الآية نزلت في أولئك النفر العرنيين ، وهم من بجيلة . قال أنس : فارتدوا عن الإسلام ، وقتلوا الراعي ، واستاقوا الإبل ، وأخافوا السبيل ، وأصابوا الفرج الحرام . [ ص: 251 ]

11817 - حدثني موسى بن هارون قال : حدثنا عمرو بن حماد قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : "إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا" ، قال : أنزلت في سودان عرينة . قال : أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وبهم الماء الأصفر ، فشكوا ذلك إليه ، فأمرهم فخرجوا إلى إبل رسول الله صلى الله عليه وسلم من الصدقة ، فقال : اشربوا من ألبانها وأبوالها! فشربوا من ألبانها وأبوالها ، حتى إذا صحوا وبرءوا ، قتلوا الرعاة واستاقوا الإبل .

قال أبو جعفر : وأولى الأقوال في ذلك عندي أن يقال : أنزل الله هذه الآية على نبيه صلى الله عليه وسلم ، معرفه حكمه على من حارب الله ورسوله ، وسعى في الأرض فسادا ، بعد الذي كان من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعرنيين ما فعل .

وإنما قلنا ذلك أولى الأقوال بالصواب في ذلك ، لأن القصص التي قصها الله جل وعز قبل هذه الآية وبعدها ، من قصص بني إسرائيل وأنبائهم ، فأن يكون ذلك متوسطا ، من تعريف الحكم فيهم وفي نظرائهم ، أولى وأحق .

وقلنا : كان نزول ذلك بعد الذي كان من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعرنيين ما فعل ، لتظاهر الأخبار عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك .

وإذ كان ذلك أولى بالآية لما وصفنا ، فتأويلها : من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس ، أو سعى بفساد في الأرض ، فكأنما قتل الناس جميعا ، ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا ولقد جاءتهم رسلنا بالبينات ثم إن كثيرا منهم بعد ذلك في الأرض لمسرفون [ ص: 252 ] - يقول : لساعون في الأرض بالفساد ، وقاتلوا النفوس بغير نفس ، وغير سعي في الأرض بالفساد حربا لله ولرسوله فمن فعل ذلك منهم ، يا محمد ، فإنما جزاؤه : أن يقتلوا ، أو يصلبوا ، أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف ، أو ينفوا من الأرض .

فإن قال لنا قائل : وكيف يجوز أن تكون الآية نزلت في الحال التي ذكرت : من حال نقض كافر من بني إسرائيل عهده ومن قولك إن حكم هذه الآية حكم من الله في أهل الإسلام ، دون أهل الحرب من المشركين؟

قيل : جاز أن يكون ذلك كذلك ، لأن حكم من حارب الله ورسوله وسعى في الأرض فسادا من أهل ذمتنا وملتنا واحد . والذين عنوا بالآية كانوا أهل عهد وذمة ، وإن كان داخلا في حكمها كل ذمي وملي ، وليس يبطل بدخول من دخل في حكم الآية من الناس ، أن يكون صحيحا نزولها فيمن نزلت فيه .

وقد اختلف أهل العلم في نسخ حكم النبي صلى الله عليه وسلم في العرنيين .

فقال بعضهم : ذلك حكم منسوخ ، نسخه نهيه عن المثلة بهذه الآية أعني بقوله : " إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا " الآية . وقالوا : أنزلت هذه الآية عتابا لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيما فعل بالعرنيين .

وقال بعضهم : بل فعل النبي صلى الله عليه وسلم بالعرنيين ، حكم ثابت في نظرائهم أبدا ، لم ينسخ ولم يبدل . وقوله : " إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله " الآية ، حكم من الله فيمن حارب وسعى في الأرض فسادا بالحرابة .

قالوا : [ ص: 253 ] والعرنيون ارتدوا ، وقتلوا ، وسرقوا ، وحاربوا الله ورسوله ، فحكمهم غير حكم المحارب الساعي في الأرض بالفساد من أهل الإسلام أو الذمة .

وقال آخرون : لم يسمل النبي صلى الله عليه وسلم أعين العرنيين ، ولكنه كان أراد أن يسمل ، فأنزل الله جل وعز هذه الآية على نبيه ، يعرفه الحكم فيهم ، ونهاه عن سمل أعينهم .

ذكر القائلين ما وصفنا :

11818 - حدثني علي بن سهل قال : حدثنا الوليد بن مسلم قال : ذاكرت الليث بن سعد ما كان من سمل رسول الله صلى الله عليه وسلم أعينهم ، وتركه حسمهم حتى ماتوا ، فقال : سمعت محمد بن عجلان يقول : أنزلت هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وسلم معاتبة في ذلك ، وعلمه عقوبة مثلهم : من القطع والقتل والنفي ، ولم يسمل بعدهم غيرهم . قال : وكان هذا القول ذكر لأبي عمرو ، فأنكر أن تكون نزلت معاتبة ، وقال : بلى ، كانت عقوبة أولئك النفر بأعيانهم ، ثم نزلت هذه الآية في عقوبة غيرهم ممن حارب بعدهم ، فرفع عنهم السمل .

11819 - حدثني محمد بن الحسين قال : حدثني أحمد بن مفضل قال : حدثنا أسباط ، عن السدي قال : فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأتي بهم يعني العرنيين فأراد أن يسمل أعينهم ، فنهاه الله عن ذلك ، وأمره أن يقيم فيهم الحدود ، كما أنزلها الله عليه . [ ص: 254 ]

واختلف أهل العلم في المستحق اسم "المحارب لله ورسوله" ، الذي يلزمه حكم هذه . فقال بعضهم : هو اللص الذي يقطع الطريق .

ذكر من قال ذلك :

11820 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة وعطاء الخراساني في قوله : " إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا " الآية ، قالا : هذا اللص الذي يقطع الطريق ، فهو محارب .

وقال آخرون : هو اللص المجاهر بلصوصيته ، المكابر في المصر وغيره .

وممن قال ذلك الأوزاعي .

11821 - حدثنا بذلك العباس ، عن أبيه ، عنه .

وعنه ، وعن مالك ، والليث بن سعد ، وابن لهيعة . [ ص: 255 ]

11822 - حدثني علي بن سهل قال : حدثنا الوليد بن مسلم قال : قلت لمالك بن أنس : تكون محاربة في المصر؟ قال : نعم ، والمحارب عندنا من حمل السلاح على المسلمين في مصر أو خلاء ، فكان ذلك منه على غير نائرة كانت بينهم ، ولا ذحل ، ولا عداوة ، قاطعا للسبيل ، والطريق ، والديار ، مخيفا لهم بسلاحه ، فقتل أحدا منهم ، قتله الإمام كقتلة المحارب ، ليس لولي المقتول فيه عفو ولا قود .

11823 - حدثني علي قال : حدثنا الوليد قال : وسألت عن ذلك الليث بن سعد ، وابن لهيعة ، قلت تكون المحاربة في دور المصر ، والمدائن ، والقرى ؟ فقالا : نعم ، إذا هم دخلوا عليهم بالسيوف علانية ، أو ليلا بالنيران . قلت : فقتلوا ، أو أخذوا المال ، ولم يقتلوا ؟ فقال : نعم هم المحاربون ، فإن قتلوا قتلوا ، وإن لم يقتلوا وأخذوا المال ، قطعوا من خلاف إذا هم خرجوا به من الدار ، ليس من حارب المسلمين في الخلاء والسبيل بأعظم محاربة ممن حاربهم في حريمهم ، ودورهم !

11824 - حدثني علي قال : حدثنا الوليد قال : قال أبو عمرو : وتكون المحاربة في المصر شهر على أهله بسلاحه ليلا أو نهارا قال علي ، قال الوليد : وأخبرني مالك : أن قتل الغيلة عنده بمنزلة المحاربة . قلت : وما قتل الغيلة؟ قال : هو الرجل يخدع الرجل والصبي ، فيدخله بيتا أو يخلو به ، فيقتله ، ويأخذ ماله . فالإمام ولي قتل هذا ، وليس لولي الدم والجرح قود ولا قصاص .

وهو قول الشافعي .

11825 - حدثنا بذلك عنه الربيع . [ ص: 256 ]

وقال آخرون : " المحارب " ، هو قاطع الطريق . فأما " المكابر في الأمصار" ، فليس بالمحارب الذي له حكم المحاربين . وممن قال ذلك أبو حنيفة وأصحابه .

11826 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثنا بشر بن المفضل ، عن داود بن أبي هند ، قال : تذاكرنا المحارب ونحن عند ابن هبيرة ، في أناس من أهل البصرة ، فاجتمع رأيهم : أن المحارب ما كان خارجا من المصر .

وقال مجاهد بما : -

11827 - حدثني القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثنا حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد في قوله : " إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا " قال : الزنا ، والسرقة ، وقتل الناس ، وإهلاك الحرث والنسل .

11828 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا حكام ، عن عنبسة ، عن محمد بن عبد الرحمن ، عن القاسم بن أبي بزة ، عن مجاهد : " ويسعون في الأرض فسادا " قال : " الفساد " القتل ، والزنا ، والسرقة .

وأولى هذه الأقوال عندي بالصواب قول من قال : " المحارب لله ورسوله " من حارب في سابلة المسلمين وذمتهم ، والمغير عليهم في أمصارهم وقراهم حرابة .

وإنما قلنا : ذلك أولى الأقوال بالصواب لأنه لا خلاف بين الحجة أن من نصب حربا للمسلمين على الظلم منه لهم أنه لهم محارب ، ولا خلاف فيه . فالذي وصفنا صفته ، لا شك فيه أنه لهم ناصب حربا ظلما . وإذ كان ذلك كذلك ، فسواء كان نصبه الحرب لهم في مصرهم وقراهم ، أو في سبلهم وطرقهم : في أنه لله ولرسوله محارب ، بحربه من نهاه الله ورسوله عن حربه . [ ص: 257 ]

وأما قوله : " ويسعون في الأرض فسادا " ، فإنه يعني : ويعملون في أرض الله بالمعاصي : من إخافة سبل عباده المؤمنين به ، أو سبل ذمتهم ، وقطع طرقهم ، وأخذ أموالهم ظلما وعدوانا ، والتوثب على حرمهم فجورا وفسوقا .

التالي السابق


الخدمات العلمية