الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
القول في تأويل قوله تعالى : ( ونجيناه ولوطا إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين ( 71 ) )

يقول تعالى ذكره : ونجينا إبراهيم ولوطا من أعدائهما نمرود وقومه من أرض العراق ( إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين ) وهي أرض الشأم ، فارق صلوات الله عليه قومه ودينهم وهاجر إلى الشأم .

وهذه القصة التي قص الله من نبأ إبراهيم وقومه تذكير منه بها قوم محمد صلى الله عليه وسلم من قريش أنهم قد سلكوا في عبادتهم الأوثان ، وأذاهم محمدا على نهيه عن عبادتها ، ودعائهم إلى عبادة الله مخلصين له الدين ، مسلك أعداء أبيهم إبراهيم ، ومخالفتهم دينه ، وأن محمدا في براءته من عبادتها وإخلاصه العبادة لله ، وفي دعائهم إلى البراءة من الأصنام ، وفي الصبر على ما يلقى منهم في ذلك سالك منهاج أبيه إبراهيم وأنه مخرجه من بين أظهرهم كما أخرج إبراهيم من بين أظهر قومه حين تمادوا في غيهم إلى مهاجره من أرض الشأم ، مسل بذلك نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم عما يلقى من قومه من المكروه والأذى ، ومعلمه أنه منجيه منهم كما نجى أباه إبراهيم من كفرة قومه .

وقد اختلف أهل التأويل في الأرض التي ذكر الله أنه نجى إبراهيم ولوطا إليها ، ووصفه أنه بارك فيها للعالمين ، فقال بعضهم بنحو الذي قلنا في ذلك .

ذكر من قال ذلك :

حدثنا الحسين بن حريث المروزي أبو عمار قال : ثنا الفضل بن موسى عن الحسين بن واقد عن الربيع بن أنس عن أبي العالية عن أبي بن كعب ( ونجيناه ولوطا إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين ) قال : الشأم ، وما من ماء عذب إلا خرج من تلك الصخرة التي ببيت المقدس .

حدثنا ابن بشار قال : ثنا أبو أحمد قال : ثنا سفيان عن فرات القزاز عن الحسن في قوله ( إلى الأرض التي باركنا فيها ) قال : الشام . [ ص: 469 ] حدثنا بشر قال : ثنا يزيد قال : ثنا سعيد عن قتادة قوله ( ونجيناه ولوطا إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين ) كانا بأرض العراق ، فأنجيا إلى أرض الشأم ، وكان يقال للشأم عماد دار الهجرة ، وما نقص من الأرض زيد في الشأم ، وما نقص من الشأم زيد في فلسطين ، وكان يقال : هي أرض المحشر والمنشر ، وبها مجمع الناس ، وبها ينزل عيسى ابن مريم ، وبها يهلك الله شيخ الضلالة الكذاب الدجال .

وحدثنا أبو قلابة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " رأيت فيما يرى النائم كأن الملائكة حملت عمود الكتاب فوضعته بالشأم ، فأولته أن الفتن إذا وقعت فإن الإيمان بالشأم " .

وذكر لنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذات يوم في خطبة : " إنه كائن بالشأم جند ، وبالعراق جند ، وباليمن جند ، فقال رجل : يا رسول الله صلى الله عليه وسلم خر لي ، فقال : عليك بالشأم فإن الله قد تكفل لي بالشأم وأهله ، فمن أبى فليلحق بأمنه وليسق بقدره " .

وذكر لنا أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : يا كعب ألا تحول إلى المدينة فإنها مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم وموضع قبره ، فقال له كعب : يا أمير المؤمنين ، إني أجد في كتاب الله المنزل أن الشام كنز الله من أرضه ، وبها كنزه من عباده .

حدثنا الحسن قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر عن قتادة ( ونجيناه ولوطا إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين ) قال : هاجرا جميعا من كوثى إلى الشام .

حدثنا موسى قال : ثنا عمرو قال : ثنا أسباط عن السدي قال : انطلق إبراهيم ولوط قبل الشأم ، فلقى إبراهيم سارة ، وهي بنت ملك حران ، وقد طعنت على قومها في دينهم ، فتزوجها على أن لا يغيرها .

حدثنا ابن حميد قال : ثنا سلمة عن ابن إسحاق قال : خرج إبراهيم مهاجرا إلى ربه ، وخرج معه لوط مهاجرا ، وتزوج سارة ابنة عمه ، فخرج [ ص: 470 ] بها معه يلتمس الفرار بدينه والأمان على عبادة ربه ، حتى نزل حران ، فمكث فيها ما شاء الله أن يمكث ، ثم خرج منها مهاجرا حتى قدم مصر ، ثم خرج من مصر إلى الشام ، فنزل السبع من أرض فلسطين ، وهي برية الشام ، ونزل لوط بالمؤتفكة ، وهي من السبع على مسيرة يوم وليلة ، أو أقرب من ذلك ، فبعثه الله نبيا صلى الله عليه وسلم .

حدثنا القاسم قال : ثنا الحسين قال : ثني حجاج عن ابن جريج قوله ( ونجيناه ولوطا إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين ) قال : نجاه من أرض العراق إلى أرض الشام .

حدثنا القاسم قال : ثنا الحسين قال : ثني حجاج عن أبي جعفر الرازي عن الربيع عن أبي العالية أنه قال في هذه الآية ( باركنا فيها للعالمين ) قال : ليس ماء عذب إلا يهبط إلى الصخرة التي ببيت المقدس ، قال : ثم يتفرق في الأرض .

حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله ( ونجيناه ولوطا إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين ) قال : إلى الشأم .

وقال آخرون : بل يعني مكة وهي الأرض التي قال الله تعالى ( التي باركنا فيها للعالمين ) .

ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن سعد قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله ( ونجيناه ولوطا إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين ) يعني مكة ونزول إسماعيل البيت . ألا ترى أنه يقول : ( إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا وهدى للعالمين ) .

قال أبو جعفر : وإنما اخترنا ما اخترنا من القول في ذلك لأنه لا خلاف بين جميع أهل العلم أن هجرة إبراهيم من العراق كانت إلى الشام ، وبها كان مقامه أيام حياته ، وإن كان قد كان قدم مكة وبنى بها البيت وأسكنها إسماعيل ابنه مع أمه هاجر ، غير أنه لم يقم بها ، ولم يتخذها وطنا لنفسه ، ولا لوط ، والله إنما أخبر عن إبراهيم ولوط أنهما أنجاهما إلى الأرض التي بارك فيها للعالمين .

التالي السابق


الخدمات العلمية