الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      معلومات الكتاب

                                                                                                                                                                                                                                      فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية

                                                                                                                                                                                                                                      الشوكاني - محمد بن علي بن محمد الشوكاني

                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها قل إن الله لا يأمر بالفحشاء أتقولون على الله ما لا تعلمون قل أمر ربي بالقسط وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد وادعوه مخلصين له الدين كما بدأكم تعودون فريقا هدى وفريقا حق عليهم الضلالة إنهم اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله ويحسبون أنهم مهتدون

                                                                                                                                                                                                                                      الفاحشة : ما تبالغ في فحشه وقبحه من الذنوب .

                                                                                                                                                                                                                                      قال أكثر المفسرين : هي طواف المشركين بالبيت عراة .

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل : هي الشرك ، والظاهر أنها تصدق على ما هو أعم من الأمرين جميعا ، والمعنى : أنهم إذا فعلوا ذنبا قبيحا متبالغا في القبح اعتذروا عن ذلك بعذرين : الأول : أنهم فعلوا ذلك اقتداء بآبائهم لما وجدوهم مستمرين على فعل تلك الفاحشة ، والثاني : أنهم مأمورون بذلك من جهة الله سبحانه .

                                                                                                                                                                                                                                      وكلا العذرين في غاية البطلان والفساد ، لأن وجود آبائهم على القبح لا يسوغ لهم فعله ، والأمر من الله سبحانه لهم لم يكن بالفحشاء ، بل أمرهم باتباع الأنبياء والعمل بالكتب المنزلة ونهاهم عن مخالفتهما ، ومما نهاهم عنه فعل الفواحش ، ولهذا رد الله سبحانه عليهم بأن أمر نبيه - صلى الله عليه وآله وسلم - أن يقول لهم : إن الله لا يأمر بالفحشاء فكيف تدعون ذلك عليه سبحانه ، ثم أنكر عليهم ما أضافوه إليه ، فقال : أتقولون على الله ما لا تعلمون وهو من تمام ما أمر النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - بأن يقوله لهم ، وفيه من التقريع والتوبيخ أمر عظيم ، فإن القول بالجهل إذا كان قبيحا في كل شيء فكيف إذا كان في التقول على الله ؟ وإن في هذه الآية الشريفة لأعظم زاجر وأبلغ واعظ للمقلدة الذين يتبعون آباءهم في المذاهب المخالفة للحق ، فإن ذلك من الاقتداء بأهل الكفر لا بأهل الحق ، فإنهم القائلون : إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون ( الزخرف : 23 ) والقائلون : وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها والمقلد لولا اغتراره بكونه وجد أباه على ذلك المذهب ، مع اعتقاده بأنه الذي أمر الله به ، وأنه الحق لم يبق عليه ، وهذه الخصلة هي التي بقي بها اليهودي على اليهودية والنصراني على النصرانية والمبتدع على بدعته ، فما أبقاهم على هذه الضلالات إلا كونهم وجدوا آباءهم في اليهودية والنصرانية أو البدعية وأحسنوا الظن بأن ما هم عليه هو الحق الذي أمر الله به ولم ينظروا لأنفسهم ، ولا طلبوا الحق كما يجب وبحثوا عن دين الله كما ينبغي ، وهذا هو التقليد البحت والقصور الخالص ، فيا من نشأ على مذهب من هذه المذاهب الإسلامية أنا لك النذير المبالغ في التحذير من أن تقول هذه المقالة وتستمر على الضلالة ، فقد اختلط الشر بالخير والصحيح بالسقيم وفاسد الرأي بصحيح الرواية .

                                                                                                                                                                                                                                      ولم يبعث الله إلى هذه الأمة إلا نبيا واحدا أمرهم باتباعه ونهى عن مخالفته فقال : وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا ( الحشر : 7 ) ولو كان محض رأي أئمة المذاهب وأتباعهم حجة على العباد ، لكان لهذه الأمة رسل كثيرون متعددون بعدد أهل الرأي المكلفين للناس بما لم يكلفهم الله به .

                                                                                                                                                                                                                                      وإن من أعجب الغفلة وأعظم الذهول عن الحق اختيار المقلدة لآراء الرجال مع وجود كتاب الله ، ووجود سنة رسوله ، ووجود من يأخذونهما عنه ، ووجود آلة الفهم لديهم وملكة العقل عندهم .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : قل أمر ربي بالقسط القسط : العدل ، وفيه أن الله سبحانه يأمر بالعدل ، [ ص: 471 ] لا كما زعموه من أن الله أمرهم بالفحشاء ، وقيل : القسط هنا هو لا إله إلا الله ، وفي الكلام حذف : أي قل أمر ربي بالقسط فأطيعوه .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد معطوف على المحذوف المقدر : أي توجهوا إليه في صلاتكم إلى القبلة في أي مسجد كنتم ، أو في كل وقت سجود ، أو في كل مكان سجود ، على أن المراد بالسجود الصلاة وادعوه مخلصين له الدين أي ادعوه أو اعبدوه حال كونكم مخلصين الدعاء ، أو العبادة له ، وقيل : وحدوه ولا تشركوا به .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : كما بدأكم تعودون الكاف نعت مصدر محذوف .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال الزجاج : هو متعلق بما قبله .

                                                                                                                                                                                                                                      والمعنى : كما أنشأكم في ابتداء الخلق يعيدكم ، فيكون المقصود الاحتجاج على منكري البعث ، فيجازي المحسن بإحسانه ، والمسيء بإساءته ، وقيل : كما أخرجكم من بطون أمهاتكم تعودون إليه كذلك ليس معكم شيء ، فيكون مثل قوله تعالى : ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة ( الأنعام : 94 ) وقيل : كما بدأكم من تراب تعودون إلى التراب .

                                                                                                                                                                                                                                      فريقا هدى منتصب بفعل يفسره ما بعده ، وقيل : منتصب على الحال من المضمر في تعودون : أي تعودون فريقين : سعداء وأشقياء ويقويه قراءة أبي " فريقين فريقا هدى " ، والفريق الذي هداه الله هم المؤمنون بالله المتبعون لأنبيائه ، والفريق الذي حقت عليه الضلالة هم الكفار .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : إنهم اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله تعليل لقوله : وفريقا حق عليهم الضلالة أي ذلك بسبب أنهم أطاعوا الشياطين في معصية الله ، ومع هذا فإنهم يحسبون أنهم مهتدون ولم يعترفوا على أنفسهم بالضلالة ، وهذا أشد في تمردهم وعنادهم .

                                                                                                                                                                                                                                      وقد أخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وأبو الشيخ ، عن ابن عباس ، في قوله : والذين إذا فعلوا فاحشة قال : كانوا يطوفون بالبيت عراة ، فنهوا عن ذلك .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن السدي ، مثله .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن أبي حاتم ، عن محمد بن كعب نحوه .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج عبد بن حميد ، عن قتادة ، في الآية قال : والله ما أكرم الله عبدا قط على معصيته ولا رضيها له ولا أمر بها ، ولكن رضي لكم بطاعته ونهاكم عن معصيته .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن مجاهد في قوله : أمر ربي بالقسط قال : بالعدل وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد قال : إلى الكعبة حيث صليتم في كنيسة أو غيرها كما بدأكم تعودون قال : شقي وسعيد .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس ، في قوله : كما بدأكم تعودون الآية قال : إن الله بدأ خلق بني آدم مؤمنا وكافرا كما قال هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن ( التغابن : 2 ) ثم يعيدهم يوم القيامة كما بدأ خلقهم مؤمنا وكافرا .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن جرير ، عن جابر في الآية قال : يبعثون على ما كانوا عليه : المؤمن على إيمانه والمنافق على نفاقه .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج سعيد بن منصور ، وابن المنذر ، عنه أنه ذكر القدرية فقال : قاتلهم الله أليس قد قال الله تعالى : كما بدأكم تعودون فريقا هدى وفريقا حق عليهم الضلالة .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن أبي حاتم ، عنه أيضا في الآية : يقول كما خلقناكم أول مرة كذلك تعودون .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية