الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          [ ص: 3 ] بسم الله الرحمن الرحيم

          الحمد لله خالق الأفلاك ومدبرها ، ومزينها ، بالشهب الثاقبة ومنيرها ، وجاعل حركات السيارات دالة على اختلاف أحوال الكائنات وتدبيرها [1] ، ومظهر حكمه في إبداعه لأنواع موجودات العالم وتصويرها ، المتفضل بسوابغ الإنعام قليلها وكثيرها . العادل فيما قضاه وأمضاه من الأحكام وتقديرها . الذي شرف نوع الإنسان بالعقل الهادي إلى أدلة التوحيد وتحريرها . وأهل خاصة العلماء لاستثمار أحكام الشريعة من مداركها وتقريرها [2] ، حتى استقرت قاعدة الدين ، وظهرت حكمته في جمعها وتحبيرها .

          وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، شهادة منجية من صغير الموبقات وكبيرها . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الذي أزال - بواضح برهانه - وأزاح - بصادق بيانه - ما ظهر من شبه الملحدة وتزويرها . صلى الله عليه وعلى آله وصحابته المؤازرين له في إظهار دعوته بحدها وتشميرها ، والسلام .

          وبعد ، فإنه لما كانت الأحكام الشرعية ، والقضايا الفقهية وسائل مقاصد المكلفين ، ومناط مصالح الدنيا والدين ، وأجل العلوم قدرا وأعلاها شرفا وذكرا ; لما يتعلق بها من مصالح العباد في المعاش والمعاد ، كانت أولى بالالتفات إليها وأجدر بالاعتماد عليها .

          وحيث كان لا سبيل إلى استثمارها دون النظر في مسالكها ولا مطمع في اقتناصها من غير التفات إلى مداركها ، كان من اللازمات والقضايا الواجبات البحث في أغوارها ، والكشف عن أسرارها ، والإحاطة بمعانيها ، والمعرفة بمبانيها حتى تذلل [3] طرق الاستثمار ، وينقاد جموح غامض الأفكار ؛ ولذلك كثر تدآبي [4] ، وطال اغترابي في جمع فوائدها ، وتحقيق فرائدها من [ ص: 4 ] مباحثات الفضلاء ، ومطارحات النبلاء حتى لان من معركها ما استصعب على المتدربين ، وظهر منها ما خفي على حذاق المتبحرين ، وأحطت منها بلباب الألباب ، واحتويت من معانيها على العجب العجاب ، فأحببت أن أجمع فيها كتابا حاويا لجميع مقاصد قواعد الأصول . مشتملا على حل ما انعقد من غوامضها على أرباب العقول ، متجنبا للإسهاب وغث الإطناب ، مميطا للقشر عن اللباب خدمة [5] لمولانا السلطان الملك المعظم المكرم ; سلطان الأجواد والأمجاد ، أجل العالم ، وأفضل من تمتد إليه أعناق الهمم والعزائم ، ملك أرباب الفضائل ، ناقد خلاص الأفاضل ، باعث أموات الخواطر ، ناشر رفات العلوم الدواثر بما خصه الله به من الفضائل التي حاز بها قصب سبق الأولين ، والمناقب التي يقف دون إحصائها عد الحاصرين . فبيده زمامها ، وإليه حلها وإبرامها ، وبه كشف أغوارها ، والميز بين ظلمها وأنوارها [6] أدام الله سعادته إدامة لا تغرب طوالعها ، ولا تنضب مشارعها ، وإن كنت في ضرب المثال كحامل تمر إلى هجر أو طل إلى مطر ، لكنه أقصى درجات القدر ، وغاية منال أفكار البشر [7] وأرجو أن يصادف منه القبول ، وأن يقع منه الإغضاء عما فيه من الغفلة والذهول .

          ( وسميته كتاب الإحكام في أصول الأحكام )

          وقد جعلته مشتملا على أربع قواعد :

          الأولى : في تحقيق مفهوم أصول الفقه ومباديه .

          [ ص: 5 ] الثانية : في تحقيق الدليل السمعي وأقسامه ، وما يتعلق به من لوازمه وأحكامه .

          الثالثة : في أحكام المجتهدين ، وأحوال المفتين والمستفتين .

          الرابعة : في ترجيحات طرق المطلوبات .

          اللهم فيسر ختامه ، وسهل إتمامه ، وبصرنا بسلوك مسالك الحق اليقين ، وجنبنا برحمتك عن طرق الزائغين ، وسلمنا من غوائل البدع . واقطع عنا علائق الطمع . وآمنا يوم الخوف والجزع . إنك ملاذ القاصدين ، وكهف [8] الراغبين .

          التالي السابق


          الخدمات العلمية