الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

الدعاء (سبيل الحياة الطيبة)

الدكتورة / سعاد الناصر

تقديم

عمر عبيد حسنة

الحمد لله الذي جعل عبادة الصيام فرصة متألقة للفرار إلى الله والاغتسال من الذنوب والتطهر من الآثام وطريقا لبناء النفس، ووسيلة لتربية قوة الإرادة وتحكمها بضغط الشهوة وتهيئة مناخ التسامي الغريزي أو التصعيد الغريزي، وتحقيق الوقاية الشخصية، والممانعة الحضارية،

فقال تعالى: ( يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون ) (البقرة:183) ،

وأعقب آيات الصيام بقوله: ( وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون ) (البقرة:186) ،

وبذلك تكون الحكمة والمقصد من شرعة الصيام الانعتاق من الآثام وتحصيل التقوى أو حصول التقوى، على مستوى الفرد والمجتمع والدولة والأمة، ذلك أن التقوى المتحصلة من الصوم وأن شريعة الصوم تقع ضمن وسائل الإعداد والاستعداد لمواجهة ظروف الحياة وإصاباتها وضغط الشهوات ودركاتها.

والصيام بحد ذاته هـو جهاد، وأي جهاد؛ إنه جهاد النفس وبنائها، وتأهيلها لرحلة الحياة بكل أبعادها، وهو الجهاد الأكبر، لأنها مرتكز التغيير والارتقاء لتكون المقدمة الأساس والقاعدة الصلبة لمشروعية مواجهة [ ص: 5 ] المعتدين، ومقارعة المتسلطين، والنصرة للمظلومين، لذلك جاءت فرضية الصيام سابقة لفرضية الجهاد في الإسلام، لذلك فلا غرابة في تأتي معاركنا وانتصاراتنا الكبرى في شهر رمضان.

والصيام، من بعض الوجوه، هـو عكوف على النفس، وتخليصها من طغيان بعض الغرائز والشهوات، وتوفرها للمراجعة للأخطاء والتوبة منها، والترميم للإصابات، والعزم على استئناف حياة نشيطة نظيفة، والتحضير لما يتطلبه مناخ الصوم من التوبة والمراجعة وعملية التنقية والتطهير، من دعاء يعيد ما فتر من التواصل والرقابة واستشعار القرب من القوة المطلقة القادرة على الاستجابة لكل شيء خير ومشروع.

والصلاة والسلام على إمام المتقين وسيد المجاهدين، الذي رفع يديه إلى الله في غزوة بدر ، بعد أن استكمل جميع الأسباب، طالبا من الله النصر لهذه العصابة التي تشكل أجنة الدعوة وخميرة النهوض، ذلك أن هـلاكها قد يعني انتفاء العبادة في الأرض، وقد ألح في الدعاء حتى أجهد نفسه وقال له أبو بكر ، رضي الله عنه ، إشفاقا: إنما تدعو سميعا؛ الذي لفت النظر إلى أهمية مناخ الصوم في تنشئة الشخصية وحمايتها من تحكم الغريزة وضغط الشهوة والترفع عن الدناءات السلوكية، ( فقال عليه الصلاة والسلام : «يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم، فإنه له وجاء ) (أخرجه البخاري ،كتاب النكاح) ، [ ص: 6 ] والوجاء هـو تصعيد الغريزة والتسامي بها، وليس إلغاءها، وتحويل الاهتمام، واستشعار الرقابة، والشعور بالمسئولية عن استقامة السلوك.

أما في مجال الترفع عن الدنايا والدناءات والمحرمات والإصابات الشخصية ( فيقول: عليه الصلاة والسلام «من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه ) (أخرجه البخاري ،كتاب الصوم) ، ( ويقـول: «...إذا كان يوم صـوم أحـدكم فـلا يرفث ولا يصخب، فإن سابه أحد أو قاتله فليقل إني امرؤ صائم... ) (أخرجه البخاري ،كتاب الصوم) ، إنها دورة في المجاهدة والترقي والتسامي، تتطلب الكثير من التواصل مع الله والدعاء له، والاستمساك بحبل الله المتين، والحرص على حسن الأداء للوصول إلى التقوى.

وبعد:

فهذا «كتاب الأمة» الخامس عشر بعد المائة: «الدعاء.. سبيل الحياة الطيبة» للباحثة الدكتورة سعاد الناصر ، في سلسلة «كتاب الأمة» التي يصدرها مركز البحوث والدراسات في وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة قطر، في سعيه الدائب لبناء البصيرة، وتشكيل الوعي، وتحقيق التقوى، والارتقاء بالمسلم إلى مرحلة الوقاية الحضارية، حيث يتقي فيرتقي، ليصير في مستوى إسلامه في مجال تربية «الذات» والعلاقة مع (الآخر) محل الدعوة، ويتحقق بالبصيرة التي تمكنه من التمييز بين الأمور [ ص: 7 ] الملتبسة وامتلاك أهلية الفرقان، وممارسة الرشد والفلاح،

يقول تعالى: ( يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا ... ) (الأنفال:29) ،

ويقول: ( ... فاتقوا الله يا أولي الألباب لعلكم تفلحون ) (المائدة:100) .

ذلك أننا نعتقد -فيما نعتقد- أن عمليات التجديد والإحياء، إضافة لما تتطلبه من توفير التخصصات في الشعب المعرفية المتعددة، التي تمكن من إدراك السنن والقوانين الإلهية في الأنفس والآفاق، وتحسن تسخيرها، ومغالبة قدر بقدر، الأمر الذي يتطلبه فقه النص، فقه (معرفة الوحي) ، وفقه الواقع وهو الحال التي عليها الناس بكل مكوناتهم وعلاقاتهم، ومن ثم تحديد مجال الاستطاعة وما يتطلب من تكاليف وأحكام شرعية لمعاودة إخراج الأمة واسترداد فاعليتها وعافيتها، وعودة الوعي الغائب، وإبصار طريق الرشاد، ووضع المناهج والبرامج لإعادة الصياغة وتحقيق صبغة الله لأعمالنا وسعينا، تتطلب إبصار البعد الغائب ودوره في تحقيق التقوى، التي تتمثل في الوقاية النفسية والحضارية بشكل عام.

هذا البعد الغائب يتجلى، وإلى حد بعيد، بإعادة الحياة والروح للعبادات حتى تؤدي دورها في بناء الإنسان، أساس الحضارة، والعنصر الفاعل في انطلاقتها أو انطفائها، في سيادتها أو إبادتها؛ لأن العبادات بكل أنواعها وأشكالها هـي الأدوات والوسائل التربوية ذات الأهداف العملية، التي تتوافق فيها الممارسة العضوية مع العملية النفسية لتأكيد العبودية لله [ ص: 8 ] سبحانه وتعالى ، وفي مقدمة تلك الأهداف تحقيق الانعتاق من مثبطات الدنيا، وتجاوز عثراتها، واحتمال إصاباتها، وعدم الانكسار أمام تحدياتها؛ إنـها السبيل لاقتحـام العقبة وتخليص الإرادة من الإحباط واليأس، وبناء الرغبة في الصمود والمواجهة والارتقاء،

يقول تعالى: ( فإذا فرغت فانصب وإلى ربك فارغب ) (الشرح:7-8) .

إلى ربك فارغب.. هـذه الرغبة، هـي التي تمنح الإنسان الحيوية والفاعلية، وتحول دون الانتكاس والسقوط، هـي المفاعيل النفسية والاجتماعية والإنسانية لقيام الحضارة، واستمرار التوقد والتوهج والتصميم والفاعلية والمحاولة، حتى في أشد حالات المعاناة.

ولا نقصـد بالعبادة، وفي مقدمـتها الدعاء، وهو مخ العبادة وأرقى درجات العبودية واستشعار البشرية، تلك الصور والحركات والعادات، حيث الكثير من العبادات فقدت عطاءها ورواءها؛ لأنها تحولت إلى عـادات وحركات مفرغة من مضمونها وحكمتها، وحسبنا أن نختبر ذلك في أنفسـنا وحـالنا قبل ممارسـة العبادة وبعدها، وإلى أي مـدى نحس بالتغيـير والتغـير والارتقـاء أو العودة إلى نفس مألوفنا ومعروفنا.

ولعل من الأمور الأساس التنبه إلى أننا لا نريد بالعبادة الصور والحركات والعبادات المعزولة عن النفس ومشكلاتها والحياة وقضاياها، [ ص: 9 ] مكانا وزمانا وعطاء، والتي يمكن أن يضطلع بقيادتها بعض الذين ينسحبون من الحياة ويخرجون من المجتمع، يعيشون في غرف الانتظار، وبعيدا عن واقع الأمة ومشكلاتها ومعاناتها؛ حيث وصل الحال بنا، أو بالكثير منا، إلى عدم الحس بمدلول العبادة في نفسه وأثرها التغيـيري في حياته ومجتمعه؛ لأنها لم توضع في الموقع الصحيح، ولم يتعامل معها كما شرعت لبناء الحياة وتغيير واقعها، ابتداء من الفرد وانتهاء بالأمة، لم تعد تغتنم لتعبئة الطاقات وإثارة الفاعلية، حتى لقد وصل الأمر لدرجة صعوبة التفريق بين مسالك من يمارسها ومن يبتعد عنها أو ينكرها، ( والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: «رب صائم ليس له من صيامه إلا الجوع، ورب قائم ليس له من قيامه إلا السهر ) (أخرجه ابن ماجه ،كتاب الصوم) ؛ إنها حركات تؤدى، وقد تكون مستكملة الناحية الفقهية، لكنها في الحقيقة فاقدة للروح والتأثير، ومن ثم التغيير المنشود وتحقيق الوقاية النفسية والاجتماعية.

لقد وصل الحال بنا اليوم، أو بالكثير منا، إلى أن تتحول العبادة إلى فقه فقط، نستكمل أحكام أدائها ونفتقد غايتها وحكمتها؛ لأننا لم نتعامل معها كما شرعت للتعبير عن حالة عقدية فكرية نفسية، ولم نحسن توظيفها لتعبئة الطاقات، وإنعاش الذهن، وإثارة الفاعلية، وتجديد العزيمة، وتحقيق الاطمئنان، وسكينة النفس، والإقلاع من جديد بخطوات واثقة صادقة.

ولعل أصدق مثال على ذلك ما نراه اليوم من صور ممارسة الدعاء، والدعاء مخ العبادة، كمـا أسلفنا، بل العبادة كلها دعاء، وأقصى [ ص: 10 ] حالات التذلل والعبودية، والحس بالبشرية والضعف والحاجة إلى الاستنجـاد والاستمـداد من القوة المطلقة القـادرة على انتشالنا من كل معاناتنا والتجاوز عن كل أخطـائنا وماضينا، وتحضيرنا للانطلاق بلا عوائق الحاضر وأثقال الماضي.

والدعاء في حقيقته وعلة تشريعه ليس هـروبا من الحياة، ولا انسحابا من قضاياها ومشكلاتها، ولا إلغاء لهمومها وهممها، كما قد يتوهم كثير، ليس حالة سلبية، أو تجاوزا للسنن والقوانين الإلهية وقـفزا من فوقها، وإنما هـو تجديد لإبصارها، والإيمان بفاعليتها واطرادها، ورجاء امتلاك القدرة على تسخيرها، والوصول إلى القدرة على مغالبة قدر بقدر.

الدعاء قوة دافعة، ودرع واقية، حالة إيجابية تربوية وقائية، يمكن لملكة التقوى في النفس، ويبصر بالفرقان المتولد منها وعنها

( يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا ... ) (الأنفال:29) ،

وحالة علاجية تعالج الإحباط والانكسار واليأس والعجز وانطفاء الفاعلية.. إنه تجديد للفاعلية، وشحذ للهمة، وإزالة للهموم، ومنح الثقة لتجاوز الحواجز والموانع والمعوقات، وتحقيق الاتصال المباشر مع القوة المطلقة، صاحبة العلم المطلق، والبوح لها بكل المعاناة.

إنه بوح واعـتراف بالذنوب والإصـابات، التي تعتري الحياة وتكدر صفوها، وندم وانكسار وتذلل أمام القادر على الإجابة، بعد استكمال الأسباب. [ ص: 11 ] وقد يكون من أعظم نعم الله الأكرم، التي جاء بها الإسلام والتي حفظت كرامة الإنسان وإنسانيته وحالت دون الشر الكامن في تسلط الإنسان على الإنسان، وخلصت البشرية من شقوتها أن جعل الدعاء بين العبد وبين الرب بدون واسطة من بشر أو غيره، جعل الاعتراف بالذنوب أمام من يستر الذنوب ويعد المعترف بالعفو عنها والاستجابة لحاجة صاحبها، دون أن يفشي له سرا، بل قد يكون من مؤهلات الاستجابة الستر وعدم المجاهرة بالذنوب.

إن الدعاء اتصال مباشر في كل زمان ومكان، ولحظة وحالة مع القوة المطلقة القادرة على الاستجابة، وفي هـذا ما فيه من المعاني التي وقف عندها طويلا علمـاء التحـليل النفسي المعاصـرون، الذين يعتبرون أن البوح عما يعتلج في النفس والتفريغ للأحزان والآلام هـو سبيل شفاء الكثير من الأمراض النفسية، وأن حالات الضعف والإصابة النفسية تستدعي البوح الذي يحقق الراحة النفسية للمريض، ويعيده إلى الحالة السوية ويسهم بشفائه، لدرجة قد نضل معها الطريق، لعدم الوضوح في الإيمان، فنذهب إلى الإيمان بالسحر والشعوذة والخوارق والأساطير والقديسين وما إلى ذلك.

فالإنسان خطاء بطبيعة خلقه، وأخطاؤه تطارده، وتثقل كاهله، وهو بحاجة إلى الخلاص من المعاناة، لذلك فإن هـذه الحالة من المعاناة استغلت كثيرا من بعض المخلوقين، من رجال الدين والكهنة، وانحرفوا بها ولعبوا بتوجهاتها الفطرية، وكم من الضحايات سقطوا نتيجة لابتزاز الكهنة [ ص: 12 ] ورجال الدين في أموالهم وأعراضهم، حيث جعلت مسألة العفو والتجاوز والغفران منوطة ببشر يجلس من يريد غفران ذنوبه ويعترف أمامه على كرسي يسمى بكرسي الاعتراف، فيكشف مستوره حتى يتحول إلى رهينة بماله وعرضه لإنسان مثله، فيكون ذلك سببا في التسلط عليه وابتزازه.

نعاود القول: بأن الإسلام جاء بأكبر نعمة على الإنسان، كانت السبب في حفظ كرامته وإنسانيته وحياته الطيبة، أن جعل الاتصال مع الله مباشرة وبدون وساطة في حالات الضعف والمعاناة، التي يكون الإنسان عندها مهيأ لقبول كل شيء، كما جعل الدعاء حصنا من السقوط، جعله علاجا من الغطرسة والتجبر.

وقد تكون الإشكالية الأخطر هـي الاقتصار في الدعاء على التوجه صوب الآخرة، على أهمية المصير كمحرك وموجه لمسارات الحياة وأنشطتها باتجاه الخير، لكن المشكلة أن يقتـصر الأمر على عدم الإبصار من الدعاء إلا الغفران والفعل الأخروي من رجاء الثواب، الأمر الذي عزل الدعاء شيئا فشيئا عن الحضور في شئون الدنيا وكأنما صار هـناك فصل بين شئون الدنيا ومهام الاستخلاف في الأرض وشئون الآخرة بشكل عملي، ولذلك تحرك الدعاء صوب الآخرة وانسحب من الدنيا وقضاياها، فتحول من حالة إيجابية تمنح اليقين والثبات والعزيمة والنشاط والفعل المستقيم المثاب الذي يهون مصائب الدنيا والتعاطي معها، إلى صورة سلبية معطلة بعيدة عن [ ص: 13 ] الشأن الدنيوي والانحباس عند الشأن الديني، بمفهومه الحسير، كشأن سائر الثنائيات الجدلية والخيارات، التي فرضت علينا من ثقافات الأمم السابقة وما نزال نعاني منها والتي دمرت العقل البشري تاريخيا وبقي أمامها حائرا؛ لأنه عاجز عن الاختيار والمقابلة والمعادلة بين قضايا صعبة من مثل الدنيا والآخرة، والجسم والروح، والدين والدولة، والعلوم التجريبية والعلوم الشرعية، وما إلى ذلك من الثنائيات.

فالدنيا هـي معاش الإنسان والآخرة معاده، والجسم وسيلة الأداء ووعاء الروح، والروح وسيلة التسامي والتميز عن الحيوان، والدين فطرة الإنسان ووسيلة توجيه سلوكه وحمايته من السقوط، والدولة وسيلة إدارته وتحقيق مصالحه، والعلوم الشرعية مرجعيته ودليله وبوصلته إلى المعاد في الحياة، والعلوم التجريبية أدواته في الكسب والسعي والإنتاج وتحقيق المعاش وإقامة العمران.. وهكذا.

فالرؤية النصفية لمهمة الدعاء ومشروعيته انتهت بأصحابها إلى الانسحاب من الحياة، والعزوف عن الدنيا وتعاطي الأسباب وتسخير الكون، والاكتفاء برصف ألفاظ وتمتمات، ومعاودتها في كل الظروف والأحوال، ولو أدى ذلك إلى الانقطاع والعيش من إنتاج الآخرين والتحول بالإنسان من منتج ينفع عيال الله إلى مستهلك صاحب يد سفلى، من متصدق إلى محل للصدقة. [ ص: 14 ] فالدين والعبادة بكل جوانبها وأبعادها، بما في ذلك الدعاء، إنما شرعت لحسن صناعة الدنيا وفق المنهج الصحيح السليم، الذي يمنح الحياة الطيبة ويبني سكينة النفس، ويعالج أزمات الإنسان، الموصل إلى الآخرة السعيدة.

فالرسول القدوة صلى الله عليه وسلم شرع لنا من الأدعية المأثورة لحالات الحياة المتنوعة وإصابات الإنسان المتعددة، في مجالات الطعام والشراب، والنوم والاستيقاظ، والسفر، والزواج، وحتى الوطأ والنكاح، والعجز والفقر، والهرم، والهم، ولحوق المصيبة، وأثناء هـجوم النعمة واندفاع النقمة، والتوبة، والحرب والسلم، وحفظ الصحة، واستمرار التمتع بالحواس، إضافة إلى ما شرع لمعالجة الكثير من الإصابات، وما يعين على التحمل والصبر والاحتساب وامتلاك القدرة على احتمال الظلم ومقاومته والصبر عند المكاره وإعداد العدة حتى ينجلي الأمر.. وهكذا.

وبذلك نجد في الدعاء المأثور لكـل حـالة يعـاني منها المسـلم أو يعيشها أو يقدم عليها دعاء خاصا يمثل حبل النجاة، الذي يمتد لينتشل الإنسان من هـمومه ومخاوفه، ويثبت قدمه على الطريق الصحيح، مهما كانت العقبات؛ وبذلك تميز المسلم بأنه إنسان إيجابي في كل الأحوال، في الضراء التي تستدعي الصبر، والسراء التي تقتضي الشكر.. وارتكازه إلى الله، القوة المطلقة القادرة على انتشاله من السقوط والارتقاء به، يمنحه التفاؤل والبشر وقوة الاحتمال، حتى في أحلك الظروف وأشد المكاره، فكل أمره له خير، ( يقول الرسول صلى الله عليه وسلم : عجبا لأمر المؤمن، إن أمـره كله خير، وليس ذاك [ ص: 15 ] لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له ) (أخرجه مسلم ، كتاب الزهد والرقائق) .

من هـنا نعاود التأكيد: بأن الدعاء في الإسـلام ليس رصف ألفاظ أو حفظ مفردات تجري على الألسنة أو تختزن في الذاكرة بدون تفاعل وانفعال بها، وإنما هـو علاج، وتعبير عن حالة نفسية من التذلل والاستنصار، هـو وسيلة شفاء، وتجديد، وإعادة ولادة للشخصية، ومحطة تعبئة للطاقات ليتابع الإنسان مسيرة الخير والاستقامة بلا هـوان ولا تخاذل.

وإذا تأملنا الأدعية المأثورة بتنوعاتها، رأينا لكل دعاء حاجته البشرية، وحالته النفسية، وظروفه الحياتية، وعلى الأخص عند معرفتنا بأسباب الورود، ومناسبات المعاناة، والمناجاة بها.

ولا بد أن نؤكد أن الدعاء في بعده الصحيح، ليس عدة الكسالى والمتواكلين، والقاعدين، وليس مقابلا للعمل والجهد واستنفاد الأسباب، كما هـو حال الكثير منا اليوم، من الذي يقعدون عن طلب الرزق، ويقولون: «اللهم ارزقنا» دون تعاطي الأسباب، وهم يعلمون أن السماء لا تمطر ذهبا ولا فضة، فيصبح الدين في مثل هـذا الفهم البئيس مخدرا، بدل أن يكون مستنفرا.

لقد شوه مفهوم الدعاء، وغاب البعد الحقيقي له عن حياة المسلمين، وتحول في واقعنا ليصبح بضاعة الكسالى، ووسيلة القاعدين والهاربين من الحياة، لذلك أصبح كل دعاء يصح لكل حالة، وأصبح الدعاء رصفا [ ص: 16 ] للألفاظ - كما أسلفنا- بعيدا عن حالة المعاناة والرجاء لخالق الأسباب، بعد الإعداد واستنفاد الأسباب.

لقد كان الرسول القدوة صلى الله عليه وسلم إذا أراد أمرا، استفرغ وسعه في اتخاذ الأسباب وإتقانها، لدرجة قد يظن الجاهل معها أن لا صلة له بالسماء، وبعد ذلك يتضرع إلى الله، ويجأر بالدعاء، الذي يعني طلب العون والمدد، وتفعيل الأسباب من خالقها وخارقها، ليتحول الدعاء إلى علاج لما يمكن أن يحتمل من العجز والتخاذل والقلق والإحباط، وتحريض للقدرات والطاقات، وترشيد للأسباب، وحسن تسخيرها، وضبط للأهداف، وارتباط دائم بالعبودية، حتى لا يغتر الإنسان بإنجازه، وحتى لا تشكل الأسباب حاجزا سميكا يحول دون رؤية خالق الأسباب ومسيرها.

أما دعـاؤنا اليوم، في معظمـه، فهو خروج من الحياة، ودخول في الفراغ.

لذلك يبقى المطلوب دائما، التفكير بأبعاد الدعاء الغائبة، ومحاولة التربية على استردادها؛ لأنه وقود الانتصار والإنجاز، وحصن مانع من العجز والسقوط، وعلاج ناجع للتأزم والتبرم، والتأله، والاغترار بالقوة.

والكتاب الذي نقدمه، والذي قدر الله له أن يأتي بمناسبة شهر رمضان، يعتبر محاولة لتأصيل معاني هـذه العبادة الإسلامية، والتذكير بأهميتها ودورها، علها تؤتي ثمارها في النفس والمجتمع، وتحقق التلازم والارتباط والتكامل بين البعد الروحي والبعد المادي.. إنه يمثل الحس [ ص: 17 ] الصادق لمعادلة النفرة لبناء الحياة الطيبة، في ميادينها المتعددة، حيث تتأكد للقيام بمهمة الاستخلاف الإنساني، وخـاصة عندما يشتد فيها الكرب، ولا يبقى ملجأ ولا منجى من الله إلا إليه.

ذلك أن الدعاء إنما شرع، والله أعلم، ضمن إطار عمليات تجديد العزيمة، وشحذ الفاعلية، وإعادة التوزان المفقود لعالم الإنسان.. هـو تجدد للمسئولية، واستشعار لها، وتجديد للعهد أمام الله سبحانه وتعالى ، واعتراف بالنعم، وشكر عليها، أو هـو بكلمة مختصرة: انعتاق من الحال التي نحن عليها، وانفساح في الآمال والرجاء، للارتقاء في مدارج الكمال، وإتقان الأعمال، للوصول إلى الأسمى.. هـو فرار إلى الله للتزود بالطاقة والعود لمعركة الحياة أزكى وأقوى.

ولعل مناخ شهر الصيام، شهر المراجعة والتوبة والفرار إلى الله يمثل الوعاء الأهم والمناخ المناسب لاستشعار قبول الدعاء، حيث تفتح أبواب الجنة وتغلق أبواب النار وتصفد الشياطين، ولا شك عندنا أن سياق مجيء قوله تعالى:

( وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون ) (البقرة:186) ،

بعد فرضية الصيام، والرياضات التي يمنحها الصيام، ويقويها وينفخ فيها الدعاء الحيوية والروح، يعتبر مؤشرا واضحا ويلفت النظر إلى أهمية الدعاء في هـذا الشهر الكريم.

ولله الأمر من قبل ومن بعد. [ ص: 18 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية