الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
. [ الإمام أحمد بن حنبل ]

وكان بها إمام أهل السنة على الإطلاق أحمد بن حنبل الذي ملأ الأرض علما وحديثا وسنة ، حتى إن أئمة الحديث والسنة بعده هم أتباعه إلى يوم القيامة ، وكان رضي الله عنه شديد الكراهة لتصنيف الكتب ، وكان يحب تجريد الحديث ، ويكره أن يكتب كلامه ، ويشتد عليه جدا ، فعلم الله حسن نيته وقصده فكتب من كلامه وفتواه أكثر من ثلاثين سفرا ، ومن الله سبحانه علينا بأكثرها فلم يفتنا منها إلا القليل ، وجمع الخلال نصوصه في الجامع الكبير فبلغ نحو عشرين سفرا أو أكثر ، ورويت فتاويه ومسائله وحدث بها قرنا بعد قرن فصارت إماما وقدوة لأهل السنة على اختلاف طبقاتهم ، حتى إن المخالفين لمذهبه بالاجتهاد والمقلدين لغيره ليعظمون نصوصه وفتاواه ، ويعرفون لها حقها وقربها من النصوص وفتاوى الصحابة ، ومن تأمل فتاواه وفتاوى الصحابة رأى مطابقة كل منهما على الأخرى ، ورأى الجميع كأنها تخرج من مشكاة واحدة ، حتى إن الصحابة إذا اختلفوا على قولين جاء عنه في المسألة روايتان ، وكان تحريه لفتاوى الصحابة كتحري أصحابه لفتاويه ونصوصه ، بل أعظم ، حتى إنه ليقدم فتاواهم على الحديث المرسل ، قال إسحاق بن إبراهيم بن هانئ في مسائله : قلت لأبي عبد الله : حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرسل برجال ثبت أحب إليك أو حديث عن الصحابة والتابعين متصل برجال ثبت ؟ قال أبو عبد الله رحمه الله : عن الصحابة أعجب إلي [ ص: 24 ]

وكان فتاويه مبنية على خمسة أصول : [ أصول فتاوى أحمد بن حنبل ] أحدها : النصوص ، فإذا وجد النص أفتى بموجبه ، ولم يلتفت إلى ما خالفه ولا من خالفه كائنا من كان ، ولهذا لم يلتفت إلى خلاف عمر في المبتوتة لحديث فاطمة بنت قيس ، ولا إلى خلافه في التيمم للجنب لحديث عمار بن ياسر ، ولا خلاف في استدامة المحرم الطيب الذي تطيب به قبل إحرامه لصحة حديث عائشة في ذلك ، ولا خلافه في منع المفرد والقارن من الفسخ إلى التمتع لصحة أحاديث الفسخ ، وكذلك لم يلتفت إلى قول علي وعثمان وطلحة وأبي أيوب وأبي بن كعب في الغسل من الإكسال لصحة حديث عائشة أنها فعلته هي ورسول الله صلى الله عليه وسلم فاغتسلا ، ولم يلتفت إلى قول ابن عباس وإحدى الروايتين عن علي أن عدة المتوفى عنها الحامل أقصى الأجلين ; لصحة حديث سبيعة الأسلمية ، ولم يلتفت إلى قول معاذ ومعاوية في توريث المسلم من الكافر لصحة الحديث المانع من التوارث بينهما ، ولم يلتفت إلى قول ابن عباس في الصرف لصحة الحديث بخلافه ، ولا إلى قوله بإباحة لحوم الحمر كذلك ، وهذا كثير جدا ، ولم يكن يقدم على الحديث الصحيح عملا ولا رأيا ولا قياسا ولا قول صاحب ولا عدم علمه بالمخالف الذي يسميه كثير من الناس إجماعا ويقدمونه على الحديث الصحيح ، وقد كذب أحمد من ادعى هذا الإجماع ، ولم يسغ تقديمه على الحديث الثابت ، وكذلك الشافعي أيضا نص في رسالته الجديدة على أن ما لا يعلم فيه بخلاف لا يقال له إجماع ، ولفظه : ما لا يعلم فيه خلاف فليس إجماعا .

وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل : سمعت أبي يقول : ما يدعي فيه الرجل الإجماع فهو كذب ، من ادعى الإجماع فهو كاذب ، لعل الناس اختلفوا ، ما يدريه ، ولم ينته إليه ؟ فليقل : لا نعلم الناس اختلفوا ، هذه دعوى بشر المريسي والأصم ، ولكنه يقول : لا نعلم الناس اختلفوا ، أو لم يبلغني ذلك ، هذا لفظه

ونصوص رسول الله صلى الله عليه وسلم أجل عند الإمام أحمد وسائر أئمة الحديث من أن يقدموا عليها توهم إجماع مضمونه عدم العلم بالمخالف ، ولو ساغ لتعطلت النصوص ، وساغ لكل من لم يعلم مخالفا في حكم مسألة أن يقدم جهله بالمخالف على النصوص ; فهذا هو الذي أنكره الإمام أحمد والشافعي من دعوى الإجماع ، لا ما يظنه بعض الناس أنه استبعاد لوجوده [ ص: 25 ]

فصل .

[ الأصل الثاني فتاوى الصحابة ]

الأصل الثاني من أصل فتاوى الإمام أحمد : ما أفتى به الصحابة ، فإنه إذا وجد لبعضهم فتوى لا يعرف له مخالف منهم فيها لم يعدها إلى غيرها ، ولم يقل إن ذلك إجماع ، بل من ورعه في العبارة يقول : لا أعلم شيئا يدفعه ، أو نحو هذا ، كما قال في رواية أبي طالب لا أعلم شيئا يدفع قول ابن عباس وابن عمر وأحد عشر من التابعين عطاء ومجاهد وأهل المدينة على تسري العبد ، وهكذا قال أنس بن مالك : لا أعلم أحدا رد شهادة العبد ، حكاه عنه الإمام أحمد ، وإذا وجد الإمام أحمد هذا النوع عن الصحابة لم يقدم عليه عملا ولا رأيا ولا قياسا .

فصل [ الثالث الاختيار من فتاوى الصحابة إذا اختلفوا ]

الأصل الثالث من أصوله : إذا اختلف الصحابة تخير من أقوالهم ما كان أقربها إلى الكتاب والسنة ، ولم يخرج عن أقوالهم ، فإن لم يتبين له موافقة أحد الأقوال حكى الخلاف فيها ولم يجزم بقول .

قال إسحاق بن إبراهيم بن هانئ في مسائله : قيل لأبي عبد الله : يكون الرجل في قومه فيسأل عن الشيء فيه اختلاف ، قال : يفتي بما وافق الكتاب والسنة ، وما لم يوافق الكتاب والسنة أمسك عنه ، قيل له : أفيجاب عليه ؟ قيل : لا .

فصل [ الرابع المرسل من الحديث ]

الأصل الرابع : الأخذ بالمرسل والحديث الضعيف ، إذا لم يكن في الباب شيء يدفعه ، وهو الذي رجحه على القياس ، وليس المراد بالضعيف عنده الباطل ولا المنكر ولا ما في روايته متهم بحيث لا يسوغ الذهاب إليه فالعمل به ; بل الحديث الضعيف عنده قسيم الصحيح وقسم من أقسام الحسن ، ولم يكن يقسم الحديث إلى صحيح وحسن وضعيف ، بل إلى صحيح وضعيف ، وللضعيف عنده مراتب ، فإذا لم يجد في الباب أثرا يدفعه ولا قول صاحب ، ولا إجماع على خلافه كان العمل به عنده أولى من القياس [ ص: 26 ]

وليس أحد من الأئمة إلا وهو موافقه على هذا الأصل من حيث الجملة ، فإنه ما منهم أحد إلا وقد قدم الحديث الضعيف على القياس .

فقدم أبو حنيفة حديث القهقهة في الصلاة على محض القياس ، وأجمع أهل الحديث على ضعفه ، وقدم حديث الوضوء بنبيذ التمر على القياس ، وأكثر أهل الحديث يضعفه ، وقدم حديث " أكثر الحيض عشرة أيام " وهو ضعيف باتفاقهم على محض القياس ; فإن الذي تراه في اليوم الثالث عشر مساو في الحد والحقيقة والصفة لدم اليوم العاشر ، وقدم حديث { لا مهر أقل من عشرة دراهم } - وأجمعوا على ضعفه ، بل بطلانه - على محض القياس ، فإن بذل الصداق معاوضة في مقابلة بذل البضع ، فما تراضيا عليه جاز قليلا كان أو كثيرا .

وقدم الشافعي خبر تحريم صيد وج مع ضعفه على القياس ، وقدم خبر جواز الصلاة بمكة في وقت النهي مع ضعفه ومخالفته لقياس غيرها من البلاد ، وقدم في أحد قوليه حديث { من قاء أو رعف فليتوضأ وليبن على صلاته } على القياس مع ضعف الخبر وإرساله .

وأما مالك فإنه يقدم الحديث المرسل والمنقطع والبلاغات وقول الصحابي على القياس .

[ الخامس القياس للضرورة ]

فإذا لم يكن عند الإمام أحمد في المسألة نص ولا قول الصحابة أو واحد منهم ولا أثر مرسل أو ضعيف عدل إلى الأصل الخامس - وهو القياس - فاستعمله للضرورة ، وقد قال في كتاب الخلال ، سألت الشافعي عن القياس ، فقال : إنما يصار إليه عند الضرورة ، أو ما هذا معناه فهذه الأصول الخمسة من أصول فتاويه ، وعليها مدارها ، وقد يتوقف في الفتوى ; لتعارض الأدلة عنده ، أو لاختلاف الصحابة فيها ، أو لعدم اطلاعه فيها على أثر أو قول أحد من الصحابة والتابعين [ ص: 27 ]

وكان شديد الكراهة والمنع للإفتاء بمسألة ليس فيها أثر عن السلف ، كما قال لبعض أصحابه : إياك أن تتكلم في مسألة ليس لك فيها إمام .

وكان يسوغ استفتاء فقهاء الحديث وأصحاب مالك ، ويدل عليهم ، ويمنع من استفتاء من يعرض عن الحديث ، ولا يبني مذهبه عليه ، ولا يسوغ العمل بفتواه .

قال ابن هانئ : سألت أبا عبد الله عن الذي جاء في الحديث { أجرؤكم على الفتيا أجرؤكم على النار } قال أبو عبد الله رحمه الله : يفتي بما لم يسمع ، قال : وسألته عمن أفتى بفتيا يعي فيها قال : فإثمها على من أفتاها ، قلت : على أي وجه يفتي حتى يعلم ما فيها ؟ قال : يفتي بالبحث ، لا يدري أيش أصلها .

وقال أبو داود في مسائله : ما أحصي ما سمعت أحمد سئل عن كثير مما فيه الاختلاف في العلم فيقول : لا أدري ، قال : وسمعته يقول : ما رأيت مثل ابن عيينة في الفتوى أحسن فتيا منه ، كان أهون عليه أن يقول : لا أدري .

وقال عبد الله بن أحمد في مسائله : سمعت أبي يقول : وقال عبد الرحمن بن مهدي سأل رجل من أهل الغرب مالك بن أنس عن مسألة فقال : لا أدري فقال : يا أبا عبد الله تقول لا أدري ؟ قال : نعم ، فأبلغ من وراءك أني لا أدري .

وقال عبد الله : كنت أسمع أبي كثيرا يسأل عن المسائل فيقول : لا أدري ويقف إذا كانت مسألة فيها اختلاف ، وكثيرا ما كان يقول : سل غيري ، فإن قيل له : من نسأل ؟ قال : سلوا العلماء ، ولا يكاد يسمي رجلا بعينه قال : وسمعت أبي يقول : كان ابن عيينة لا يفتي في الطلاق ، ويقول : من يحسن هذا ؟ ،

التالي السابق


الخدمات العلمية