الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
صفحة جزء
[ ص: 130 ] النوع الثاني

معرفة المناسبات بين الآيات

وقد أفرده بالتصنيف الأستاذ أبو جعفر بن الزبير شيخ الشيخ أبي حيان . وتفسير الإمام فخر الدين فيه شيء كثير من ذلك .

[ ص: 131 ] واعلم أن المناسبة علم شريف تحزر به العقول ويعرف به قدر القائل فيما يقول . والمناسبة في اللغة : المقاربة ، وفلان يناسب فلانا أي يقرب منه ويشاكله ، ومنه النسيب الذي هو القريب المتصل كالأخوين وابن العم ونحوه ، وإن كانا متناسبين بمعنى رابط بينهما وهو القرابة .

ومنه المناسبة في العلة في باب القياس : الوصف المقارب للحكم ; لأنه إذا حصلت مقاربته له ظن عند وجود ذلك الوصف وجود الحكم ; ولهذا قيل : المناسبة أمر معقول ، إذا عرض على العقول تلقته بالقبول .

وكذلك المناسبة في فواتح الآي وخواتيمها ومرجعها - والله أعلم - إلى معنى ذلك ما رابط بينهما عام أو خاص ، عقلي أو حسي أو خيالي ، وغير ذلك من أنواع العلاقات ، أو التلازم الذهني ، كالسبب والمسبب ، والعلة والمعلول ، والنظيرين والضدين ونحوه . أو التلازم الخارجي كالمرتب على ترتيب الوجود الواقع في باب الخبر .

وفائدته : جعل أجزاء الكلام ، بعضها آخذ بأعناق بعض ، فيقوى بذلك الارتباط ويصير التأليف حاله حال الأكيد البناء المحكم المتلائم الأجزاء .

[ ص: 132 ] وقد قل اعتناء المفسرين بهذا النوع لدقته ، وممن أكثر منه الإمام فخر الدين الرازي وقال في تفسيره : " أكثر لطائف القرآن مودعة في الترتيبات والروابط " .

وقال بعض الأئمة : من محاسن الكلام أن يرتبط بعضه ببعض ؛ لئلا يكون منقطعا .

وهذا النوع يهمله بعض المفسرين أو كثير منهم ، وفوائده غزيرة . قال القاضي أبو بكر بن العربي في " سراج المريدين " : " ارتباط آي القرآن بعضها ببعض حتى تكون كالكلمة الواحدة متسقة المعاني منتظمة المباني علم عظيم لم يتعرض له إلا عالم واحد عمل فيه سورة البقرة ، ثم فتح الله - عز وجل - لنا فيه ، فإنا لم نجد له حملة ورأينا الخلق بأوصاف البطلة ختمنا عليه وجعلناه بيننا وبين الله ، ورددناه إليه " .

وقال الشيخ أبو الحسن الشهرباني : " أول من أظهر ببغداد علم المناسبة ولم نكن سمعناه من غيره هو الشيخ الإمام أبو بكر النيسابوري ، وكان غزير العلم في الشريعة والأدب ، وكان يقول على الكرسي إذا قرئ عليه : لم جعلت هذه الآية إلى جنب هذه ؟ وما الحكمة في جعل هذه السورة إلى جنب هذه السورة ؟ وكان يزري على علماء بغداد لعدم علمهم بالمناسبة " انتهى .

وقال الشيخ عز الدين بن عبد السلام : " المناسبة علم حسن ، ولكن يشترط في حسن [ ص: 133 ] ارتباط الكلام أن يقع في أمر متحد ، مرتبط أوله بآخره ، فإن وقع على أسباب مختلفة لم يشترط فيه ارتباط أحدهما بالآخر - قال - ومن ربط ذلك فهو متكلف بما لا يقدر عليه إلا بربط ركيك يصان عن مثله حسن الحديث فضلا عن أحسنه ، فإن القرآن نزل في نيف وعشرين سنة في أحكام مختلفة ولأسباب مختلفة ، وما كان كذلك لا يتأتى ربط بعضه ببعض ، إذ لا يحسن أن يرتبط تصرف الإله في خلقه وأحكامه بعضها ببعض ، مع اختلاف العلل والأسباب ، كتصرف الملوك والحكام والمفتين ، وتصرف الإنسان نفسه بأمور متوافقة ومتخالفة ومتضادة . وليس لأحد أن يطلب ربط بعض تلك التصرفات مع بعض مع اختلافها في نفسها واختلاف أوقاتها " انتهى .

قال بعض مشايخنا المحققين : " قد وهم من قال : لا يطلب للآي الكريمة مناسبة ; لأنها حسب الوقائع المتفرقة ، وفصل الخطاب أنها على حسب الوقائع تنزيلا ، وعلى حسب الحكمة ترتيبا وتأصيلا ، فالمصحف كالصحف الكريمة على وفق ما في الكتاب المكنون ، مرتبة سوره كلها وآياته بالتوقيف . وحافظ القرآن العظيم لو استفتي في أحكام متعددة أو ناظر فيها أو أملاها لذكر آية كل حكم على ما سئل ، وإذا رجع إلى التلاوة لم يتل كما أفتى ، ولا كما نزل مفرقا ، بل كما أنزل جملة إلى بيت العزة . ومن المعجز البين أسلوبه ، ونظمه الباهر ، فإنه ( كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير ) ( هود : 1 ) .

قال : والذي ينبغي في كل آية أن يبحث أول كل شيء عن كونها مكملة لما قبلها أو مستقلة ، ثم المستقلة ما وجه مناسبتها لما قبلها ؟ ففي ذلك علم جم ، وهكذا في السور يطلب وجه اتصالها بما قبلها وما سيقت له " .

قلت : وهو مبني على أن ترتيب السور توقيفي ، وهو الراجح كما سيأتي ، وإذا [ ص: 134 ] اعتبرت افتتاح كل سوره وجدته في غاية المناسبة لما ختم به السورة قبلها ، ثم هو يخفى تارة ويظهر أخرى كافتتاح سورة الأنعام بالحمد ، فإنه مناسب لختام سورة المائدة من فصل القضاء ، كما قال سبحانه : ( وقضي بينهم بالحق وقيل الحمد لله رب العالمين ) ( الزمر : 75 ) وكافتتاح سورة فاطر بـ ( الحمد ) أيضا ، فإنه مناسب لختام ما قبلها من قوله : ( وحيل بينهم وبين ما يشتهون كما فعل بأشياعهم من قبل ) ( سبأ : 54 ) ، وكما قال تعالى : ( فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين ) ( الأنعام : 45 ) .

وكافتتاح سورة الحديد بالتسبيح ، فإنه مناسب لختام سورة الواقعة للأمر به .

وكافتتاح سورة البقرة بقوله : ( الم ذلك الكتاب لا ريب فيه ) ( الآية : 1 و 2 ) ، فإنه إشارة إلى ( الصراط ) في قوله : ( اهدنا الصراط المستقيم ) ( الفاتحة : 6 ) كأنهم لما سألوا الهداية إلى ( الصراط المستقيم ) قيل لهم : ذلك الصراط الذي سألتم الهداية إليه هو ( الكتاب ) وهذا معنى حسن يظهر فيه ارتباط سورة البقرة بالفاتحة ، وهو يرد سؤال الزمخشري في ذلك .

وتأمل ارتباط سورة ( لإيلاف قريش ) بسورة الفيل ؛ حتى قال الأخفش : اتصالها بها من باب قوله : ( فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا ) ( القصص : 8 ) .

ومن لطائف سورة الكوثر أنها كالمقابلة للتي قبلها ; لأن السابقة قد وصف الله فيها المنافق بأمور أربعة : البخل ، وترك الصلاة ، والرياء فيها ، ومنع الزكاة ، فذكر هنا في مقابلة البخل : ( إنا أعطيناك الكوثر ) ( الكوثر : 1 ) أي الكثير . وفي مقابلة ترك الصلاة [ ص: 135 ] ( فصل ) أي دم عليها ، وفي مقابلة الرياء ( لربك ) أي لرضاه لا للناس ، وفي مقابلة منع الماعون : ( وانحر ) ، وأراد به التصدق بلحم الأضاحي ، فاعتبر هذه المناسبة العجيبة .

وكذلك مناسبة فاتحة سورة الإسراء بالتسبيح ، وسورة الكهف بالتحميد ; لأن التسبيح حيث جاء مقدم على التحميد ، يقال : سبحان الله والحمد لله .

وذكر الشيخ كمال الدين الزملكاني في بعض دروسه مناسبة استفتاحهما بذلك ما ملخصه : أن سورة بني إسرائيل افتتحت بحديث الإسراء ، وهو من الخوارق الدالة على صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأنه رسول من عند الله ، والمشركون كذبوا ذلك وقالوا : كيف يسير في ليلة من مكة إلى بيت المقدس ! وعاندوا وتعنتوا وقالوا : صف لنا بيت المقدس ، فرفع له حتى وصفه لهم . والسبب في الإسراء أولا لبيت المقدس ليكون ذلك دليلا على صحة قوله بصعود السماوات ، فافتتحت بالتسبيح تصديقا لنبيه فيما ادعاه ; لأن تكذيبهم له تكذيب عناد ، فنزه نفسه قبل الإخبار بهذا الذي كذبوه ، وأما الكهف فإنه لما احتبس الوحي ، وأرجف الكفار بسبب ذلك أنزلها الله ردا عليهم ، وأنه لم يقطع نعمته عن نبيه صلى الله عليه وسلم ، بل أتم عليه بإنزال الكتاب فناسب افتتاحها بالحمد على هذه النعمة .

[ ص: 136 ] وإذا ثبت هذا بالنسبة إلى السور ، فما ظنك بالآيات وتعلق بعضها ببعض ! بل عند التأمل يظهر أن القرآن كله كالكلمة الواحدة .

التالي السابق


الخدمات العلمية