الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( 17 ) باب ما ينهى عنه من التهاجر والتقاطع واتباع العورات

الفصل الأول

5027 - عن أبي أيوب الأنصاري - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ولا يحل للرجل أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا ، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام " . متفق عليه .

التالي السابق


[ 17 ] - باب ما ينهى عنه في التهاجر والتقاطع واتباع العورات

الهجر : ضد الوصل ، والتهاجر أخص من التقاطع ، والاتباع بمعنى التتبع والتجسس ، والعورة ما في المرء من عيب وخلل .

الفصل الأول

5027 - ( عن أبي أيوب الأنصاري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا يحل لرجل أن يهجر ) بضم الجيم ( أخاه ) أي : المسلم ، وهو أعم من أخوة القرابة والصحابة . قال الطيبي : وتخصيصه بالذكر إشعار بالعلية ، والمراد به أخوة الإسلام ، ويفهم منه أنه إن خالف هذه الشريطة وقطع هذه الرابطة جاز هجرانه فوق ثلاثة اهـ . وفيه أنه حينئذ يحب هجرانه وقوله : ( فوق ثلاث ليال ) أي : بأيامها ، وإنما جاز الهجر في ثلاث وما دونه لما جبل عليه الآدمي من الغضب ، فسومح بذلك القدر ليرجع فيها ، ويزول ذلك الغرض ذكره السيوطي . وقال أكمل الدين من أئمتنا : في الحديث دلالة على حرمة هجران الأخ المسلم فوق ثلاثة أيام ، وأما جواز هجرانه في ثلاثة أيام ، فمفهوم منه لا منطوق ، فمن قال بحجية المفهوم كالشافعية جاز له أن يقول بإباحته ومن لا فلا اهـ . وفيه أن الأصل في الأشياء الإباحة ، والشارع إنما حرم المهاجرة المقيدة لا المطلقة مع أن في إطلاقها حرجا عظيما حيث يلزم منه أن مطلق الغضب المؤدي إلى مطلق الهجران يكون حراما .

قال الخطابي : رخص للمسلم أن يغضب على أخيه ثلاث ليال لقلته ، ولا يجوز فوقها إلا إذا كان الهجران في حق من حقوق الله تعالى ، فيجوز فوق ذلك . وفي حاشية السيوطي على الموطأ ، قال ابن عبد البر : هذا مخصوص بحديث كعب بن مالك ورفيقيه ، حيث أمر صلى الله عليه وسلم أصحابه بهجرهم ، يعني زيادة على ثلاث إلى أن بلغ [ ص: 3147 ] خمسين يوما . قال : وأجمع العلماء على أن من خاف من مكالمة أحد وصلته ما يفسد عليه دينه أو يدخل مضرة في دنياه يجوز له مجانبته وبعده ، ورب صرم جميل خير من مخالطة تؤذيه . وفي النهاية : يريد به الهجر ضد الوصل ، يعني فيما يكون بين المسلمين من عتب وموجدة ، أو تقصير يقع في حقوق العشرة والصحبة دون ما كان من ذلك في جانب الدين ، فإن هجرة أهل الأهواء والبدع واجبة على مر الأوقات ما لم يظهر منه التوبة والرجوع إلى الحق ، فإنه صلى الله عليه وسلم لما خاف على كعب بن مالك وأصحابه النفاق حين تخلفوا عن غزوة تبوك أمر بهجرانهم خمسين يوما ، وقد هجر نساءه شهرا وهجرت عائشة ابن الزبير مدة ، وهجر جماعة من الصحابة جماعة منهم ، وماتوا متهاجرين ، ولعل أحد الأمرين منسوخ بالآخر .

قلت : الأظهر أن يحمل نحو هذا الحديث على المتواخيين أو المتساويين ، بخلاف الوالد مع الولد ، والأستاذ مع تلميذه ، وعليه يحمل ما وقر من السلف والخلق لبعض الخلف ، ويمكن أن يقال الهجرة المحرمة إنما تكون مع العداوة والشحناء ، كما يدل عليه الحديث الذي يليه ، فغيرها إما مباح أو خلاف الأولى ( يلتقيان ) أي : يتلاقيان وهو مع ما عطف عليه من قوله . ( فيعرض هذا ) أي : وجهه عنه ( ويعرض هذا ) : استئناف لبيان كيفية الهجران ، أو حال من فاعل يهجر ومفعوله فيفيد أنه إذا لم يحصل التلاقي والإعراض فلا بأس بالهجران المطلق ، وهل يعتبر التثليث أم لا ؟ محل بحث أو توقف ( وخيرهما ) : عطف على لا يحل .

وقال الطيبي : عطف على يلتقيان من حيث المعنى لما يفهم منها أن ذلك الفعل ليس بخير اهـ . وتكلفه ، بل تعسفه لا يخفى ، والمعنى أفضلهما في طريق الأخلاق وحسن المعاشرة ( الذي يبدأ بالسلام ) أي : ثم الذي يرده ، وفيه إيماء إلى أن من لم يرده ليس فيه خير أصلا ، فيجوز هجرانه ، بل يجب لأنه بترك رد السلام صار فاسقا ، وإنما يكون البادئ خيرهما لدلالة فعله ، على أنه أقرب إلى التواضع وأنسب إلى الصفاء وحسن الخلق ، وللإشعار بأنه معترف بالتقصير ، وللإيماء إلى حسن العهد وحفظ المودة القديمة ، أو كأنه بادئ في المحبة والصحبة والله أعلم . قال الأكمل : وفيه حث على إزالة الهجران ، وأنه يزول بمجرد السلام اهـ . وفيه إيماء بأنه لا يخفى لمسلم أن يبدأ بالكلام قبل السلام ، كما ورد : فيما سبق ( متفق عليه ) .




الخدمات العلمية