الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          ( قل لمن ما في السماوات والأرض قل لله كتب على نفسه الرحمة ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون وله ما سكن في الليل والنهار وهو السميع العليم قل أغير الله أتخذ وليا فاطر السماوات والأرض وهو يطعم ولا يطعم قل إني أمرت أن أكون أول من أسلم ولا تكونن من المشركين قل إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم من يصرف عنه يومئذ فقد رحمه وذلك الفوز المبين وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يمسسك بخير فهو على كل شيء قدير وهو القاهر فوق عباده وهو الحكيم الخبير قل أي شيء أكبر شهادة قل الله شهيد بيني وبينكم وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ أئنكم لتشهدون أن مع الله آلهة أخرى قل لا أشهد قل إنما هو إله واحد وإنني بريء مما تشركون ) .

                          [ ص: 271 ] بين تعالى في الآيات السابقة أصول الدين وما يدل عليها وشبهات الكفار على الرسالة مع ما يدحضها ، وهدى رسوله إلى سنته في الرسل وأقوامهم لتسليته وتثبيت قلبه ، المعين له على المضي في تبليغ دعوة ربه ، ثم قفى سبحانه على ذلك بتلقينه في هذه الآيات أسلوبا آخر من إقامة الحجج على قومه ، وهو أسلوب السؤال والجواب ، في موضع فصل الخطاب وإن كان تكرار لمعنى سبق أو اشتمل على التكرار ، وحكمة ذلك أن التنويع في الاحتجاج والتفنن في أساليبه من ضروريات الدعوة إلى الدين وإلى غير الدين من المقاصد البشرية أيضا لأن التزام دليل واحد على المطلوب الذي لا بد من تكرار ذكره ، أو إيراد عدة أدلة بأسلوب واحد قد يفضي إلى سآمة الداعي من التكرار على رغبته في الدعوة وتفانيه في نشرها وإثباتها ، فكيف يكون تأثيره في المدعوين الكارهين له ولها ، إذا لم يعقلوا الدليل الأول أو لم تتوجه قلوبهم إلى تدبر الأسلوب الواحد المشتمل على عدة أدلة ؟ لا جرم أنهم يكونون في منتهى السآمة والضجر من سماع ذلك وفي غاية النفور منه ، كيف وقد كان المعاندون منهم ينهون عن هذا القرآن وينأون عنه على ما امتاز به في مقام التفنن والتنويع والبلاغة المعجزة في كثرة الأساليب ؟ قال عز وجل :

                          ( قل لمن ما في السماوات والأرض ) أي قل أيها الرسول لقومك الجاحدين لرسالتك المعرضين عما جئتهم به من أمر التوحيد والبعث والجزاء : لمن هذه المخلوقات في العالم كله علويه وسفليه ؟ السؤال تمهيد لحجة جديدة ، وقد بينا في تفسير الآيات السابقة أن العرب كانت تؤمن بأن الله تعالى هو خالق السماوات والأرض وأن كل ما فيهما ومن فيهما ملك وعبيد له ولفظ " ما " يشمل العقلاء مع غيرهم ، وجزم في الكشاف بأن السؤال للتبكيت وأن قوله تعالى : ( قل لله ) تقرير لهم أي هو الله لا خلاف بيني وبينكم في ذلك ، ولا تقدرون أن تضيفوا شيئا منه إلى غيره . وقال غيره : تقرير للجواب نيابة عنهم ، أو إلجاء لهم إلى الإقرار وقال الرازي : أمره بالسؤال أولا ، ثم بالجواب ثانيا ، وهذا إنما يحسن في الموضع الذي يكون الجواب فيه قد بلغ في الظهور إلى حيث لا يقدر على إنكاره منكر في الموضع الذي يكون الجواب فيه قد بلغ في الظهور إلى حيث لا يقدر على إنكاره منكر ولا يقدر على دفعه دافع ، ثم بين أن هذا من هذا ، واحتج على أن كل ذلك لله بما في العالم المادي من آثار الحدوث والإمكان على طريقة المتكلمين في الاستدلال .

                          ونقول : إن إتيان السائل بالجواب يحسن في غير الموضع الذي حصر الرازي الحسن فيه ، وهو أن يكون ما يأتي به عين ما يعتقده المسئول وما يجيب به إن أجاب وإنما يسبقه إليه ليبني عليه شيئا آخر من لوازمه هو مما يجهله المسئول أو يغفل عنه أو ينكره لجهله أو غفلته عن كونه لازما لما يعرفه ويعتقده . وليس المسئول عنه هنا مما لا يقدر على إنكاره [ ص: 272 ] منكر ، ولا على دفعه دافع ، فقد أنكره أهل الإلحاد والتعطيل ، فالظاهر أن يقال : إن الله تعالى أمره بالجواب وأن يبدأه بما كانوا يجيبون به كما علم من آيات أخرى ليبني على قوله : ( كتب على نفسه الرحمة ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه ) والمعنى أن الله تعالى الذي تقرون معي بأن له ما في السماوات وما في الأرض قد أوجب على ذاته العلية الرحمة بخلقه ، كما يعلم ذلك من إفاضة نعمه عليهم ظاهرة وباطنة . ومن مقتضى هذه الرحمة أن يجمعكم إلى يوم القيامة حال كونه لا ريب فيه أو جمعا لا ريب فيه أي ليس من شأنه أن يرتاب فيه من تدبر دلائل رحمة الله وحكمته ، فإن هذا الجمع لأجل الحساب والجزاء ، فهو رحمة بالمكلفين ينافي الفوضى والإهمال واستباحة الظلم . والعلم به رحمة أيضا; لأنه وازع نفسي لا يتم تهذيب النفس بدونه ، بل الرحمة أعم من ذلك ، فمن رحمته تعالى بالناس ما منحهم من هدايات الحواس والوجدان والعقل وهداية الدين المقاومة لما يجنونه على تلك الهدايات باستعمالها فيما يضرهم ولا ينفعهم ، والمساعدة لهم على تكميل فطرتهم وتزكية أنفسهم .

                          بيان ذلك : أن من أصول دينه القويم الذي هو مظهر رحمته العليا الموافق لفطرته التي فطر الناس عليها أن لأعمال البشر جزاء فطريا هو أثر لازم للعمل بحسب سنته تعالى في تأثير الأعمال النفسية والبدنية في إصلاح الأنفس أو إفسادها ، وجزاء آخر وضعيا أو شرعيا تابعا له هو إنشاء فضل أو عدل منه عز وجل ، فالأول وهو الأصل ما يترتب على تزكية النفس بالعقائد الصحيحة والعلوم الثابتة والأخلاق الكريمة ، التي تطبعها فيها عبادة الله تعالى وحسن المعاملة مع خلقه من هناء المعيشة في الدنيا بالجمع بين لذة الحياة العقلية والروحية ، ولذة الحياة الجسدية المعتدلة ، وهو أدنى الجزاءين وأقلهما وغير المطرد وما يترتب على تدسية النفس وإفساد فطرتها بالعقائد الباطلة كخرافات الوثنية وأوهامها وبسفساف الأخلاق والملكات الرديئة التي تطبعها فيها تلك الأوهام السخيفة والأعمال القبيحة والعبادات الوثنية من شقاء المعيشة في الدنيا وعذاب الآخرة ، وكل منهما من لوازم تلك العقائد والأخلاق والأعمال ، فهي كالأعمال الضارة والوساوس العصبية ( الهستيرية ) التي تترتب عليها الأمراض المعضلة والأدواء القاتلة ، كما أن ما تقدم من مقابلها يشبه الأعمال البدنية والنفسية التي يرتاض بها البدن والعقل حتى يبلغ بهما المرء من الصحة والاعتدال ما هو مقدر له من الكمال ، فعلى هذا تكون هداية الدين للعقائد الصحيحة والفضائل والآداب والعبادات ، وزجره عن الوثنية والخرافات والرذائل والشرور كل ذلك كبث الوصايا [ ص: 273 ] الصحيحة والعلوم الطبية في الناس; ليكون لهم وازع من أنفسهم يتقون به ما يضرهم ويقبلون على ما ينفعهم وتلك رحمة عظيمة بهم ، ولا ينافي كون ذلك من الرحمة ما يترتب على الباطل والشر من شقاء الدنيا وعذاب الآخرة; لأنه جناية منهم على أنفسهم فمثلهم فيه كمثل المريض يخالف أوامر الطبيب ونواهيه الخاصة ، ويخالف الوصايا الصحية العامة ، فيزداد أمراضا وأسقاما ، ولا ينافي ذلك كون تلك الوصايا رحمة بالناس ونعمة عليهم .

                          وأما الجزاء الثاني الذي هو إنشاء من مقتضى الفضل أو العدل فهو مترتب على الجزاء الأول وتابع له وهو قسمان : ( أحدهما ) ما يزيد الله المحسنين من الكرامة والنعيم بفضله على ما استحقوه بإيمانهم وأعمالهم الصالحة بحسب وعده ، ولما كانت الرحمة أعم وأوسع وأعظم كان هذا النوع من الجزاء خاصا بالمحسنين من عباده ، فهو رحمة خاصة . نسأله تعالى أن يجعلنا من خيار أهلها . ( وثانيهما ) القصاص في الحقوق وإن قلت ، وما يقتص به تعالى في الآخرة للمظلومين من الظالمين بحسب عدله . ولما كان مقتضى الرحمة والفضل ، أعم وأسبق من مقتضى العدل ، كان جزاء الظالمين المسيئين على قدر استحقاقهم ، ومنهم من يعفو الله عنهم ، فالجزاء على الإساءة قد ينقص منه بالعفو والمغفرة ، ولكن لا يزاد فيه شيء قط . وإنما الزيادة في الجزاء على الإحسان : ( من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها 6 : 160 ) ( للذين أحسنوا الحسنى وزيادة 10 : 26 ) ( فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله وأما الذين استنكفوا واستكبروا فيعذبهم عذابا أليما 4 : 173 ) وبيان الدين لهذا النوع من الجزاء رحمة أيضا فهو كبيان الحكومة العادلة للأمة ما تؤاخذ عليه من الأعمال الضارة ، وما يدل المحسنين من الأمن والعز والترقي في خدمة الدولة ، روى الشيخان وغيرهما عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن الله لما خلق الخلق كتب كتابا عنده فوق العرش إن رحمتي تغلب غضبي " وفي رواية " إن رحمتي سبقت غضبي " وإنما السبق والغلب في أثري الرحمة والغضب وتعلقهما لا في الصفات أنفسها ، وسنزيد هذا البحث بيانا في تفسير : ( ورحمتي وسعت كل شيء ) ( 7 : 156 ) من سورة الأعراف إن أحيانا الله تعالى .

                          أما تعلق جمع الناس إلى يوم القيامة بكتابة الرحمة من جهة نظم الكلام وإعرابه فقيل : إن كتابة الرحمة تأكيد لها في معنى القسم ، وجملة " ليجمعنكم " جواب لقسم محذوف حل محله ما في معناه . وقيل : إن الجملة استئناف بياني ، كأنه قيل : وما مقتضى هذه الرحمة ، وما موقعها من موضوع دعوة الرسالة ؟ فقيل : إنه تعالى أقسم ليجمعنكم ، إذ لو لم يجمعكم للحساب والجزاء لظل كثير من المحسنين منكم مغبونين محرومين ، وكثير من المظلومين [ ص: 274 ] مهضومين ، وكثير من الظالمين المسيئين غير مؤاخذين ، ذلك بأن ما يترتب على الأعمال الحسنة في الدنيا من حسن الأثر وعلى الأعمال السيئة من قبح الأثر ، ليس عاما مطردا في جميع الأفراد كما تقدم آنفا ، وهو يعلم من الاختبار ومن سنن الله الاجتماعية والكونية ، وذلك ينافي الرحمة ، كما ينافي العدل والحكمة ، فمن مقتضى كتابته سبحانه الرحمة على نفسه أن يجمع الناس للفصل بينهم ، وجزاء كل منهم بما يقتضيه العدل في الكل والفضل في البعض . والجمع بمعنى الحشر ويتعديان بإلى ، يقال : جمعهم إليه وحشرهم إليه . وجمع الناس إلى يوم القيامة ، معناه حشرهم إلى موقفه أو حسابه ، أو معناه ليجمعنكم منتهين إلى ذلك اليوم ، وقيل : إن " إلى " صلة ، وقيل : إنها بمعنى " في " وكلاهما ضعيف .

                          وأما قوله تعالى : ( الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون ) فمعناه أخص هؤلاء ممن يجمعون إلى يوم القيامة بالذكر أو التذكير أو بالذم والتوبيخ فإنهم لخسرانهم أنفسهم في الدنيا لا يؤمنون بالآخرة . ولا شك في أن هؤلاء أولى بأن يتعتعوا بالتذكير ، أو بالذم المفضي إلى التفكير ، وقيل : إن المعنى ليجمعنكم إلى يوم القيامة أنتم أيها الذين خسروا أنفسهم . . . إلخ . خاطبهم كافة ثم أبدل من الكل بعضه الأجدر بالخطاب الأحوج إليه أو وصف أولئك المخاطبين بهذا الوصف الدال على أنه هو مناط الإنذار والوعيد . وقيل : إن الجملة مستقلة معناها أن الذين خسروا أنفسهم لا يؤمنون بهذا الجمع ولا ينتفعون بخبره . والأول أقوى وأظهر . وخسارة الأنفس عبارة عن إفساد فطرتها وعدم اهتدائها بما منحها الله تعالى من الهدايات التي أشرنا إليها آنفا ، فالمقلدون قد خسروا أنفسهم لأنهم حرموا أنفسهم من استعمال أشرف النعم الغريزية وهو العقل ، وحرموا على أنفسهم أفضل الفضائل الكسبية وهو العلم والفهم ، وإذا كان بعض الأئمة قد صرح بأن المجتهد المخطئ . أفضل من المقلد لمجتهد مصيب ، فكيف يكون حال المقلد في الشرك والكفر والعياذ بالله تعالى ؟ والحرمان من مضاء العزيمة وقوة الإرادة خسران للنفس يضاهي خسرانها بفقد العلم الاستدلالي ، فإن ضعيف الإرادة إن أوتي حظا من العلم لا يقوم بحقه ولا يعمل به كما يجب . لأن ما يهدي إليه العلم الصحيح من وجوب نصر الحق وخذل الباطل ومجاهدة الأهواء الرديئة وعمل الخير والتعاون على البر كل ذلك لا يخلو من مشقة لا يحملها إلا ذو العزيمة الصادقة ، والإرادة الثابتة .

                          فمن خسر نفسه بالتقليد لا ينظر ولا يستدل حتى يهتدي إلى الإيمان ، ومن خسر نفسه بوهن الإرادة قلما ينظر ويستدل أيضا ، فإن هو نظر وظهر له الحق بما قام من البرهان عليه قعد بعد ضعف الإرادة عن احتمال لوم اللائمين ، واحتقار الأهل والمعاشرين ، لمن ترك دين آبائه وأجداده ، وصبا إلى حزب أعدائهم وأعدائه . هذا ما يقال في مثل حال المشركين [ ص: 275 ] في عهد نزول هذه السورة . وإن ضعف الإرادة ليصد صاحبه في كل زمان ومكان عن الواجبات وسائر الأعمال التي لا بد فيها من احتمال مشقة بدنية أو نفسية ، وإن كانت من أعمال الإيمان ومصالح الأمة والأوطان ، ولو بحثت عن خسران الأفراد المتعلمين الذين يعرفون الحقوق والواجبات لكرامة أنفسهم ، وخسران الجماعات والأمم التي تولي زعامتها أمثال هؤلاء الأفراد لاستقلالها وصلاح أمرها لرأيت سبب هذا وذاك وهن العزيمة وذبذبة الإرادة ، فالفوز والفلاح في الدين والدنيا لا يتم إلا بالعلم الصحيح والعزيمة الحافزة إلى العمل بالعلم ، فمن خسر إحدى الفضيلتين يصدق عليه أنه خسر نفسه سواء كان فردا ، أو أمة ، فما بال من خسرهما كلتيهما والعياذ بالله تعالى وقد لمح الزمخشري إلى خسران النفس في الآخرة فأورد على الآية إشكالا في غير محله . وأجاب عنه على طريقة المتكلمين جوابا في غير محله . قال ( فإن قلت ) : كيف جعل عدم إيمانهم مسببا عن خسرانهم والأمر على العكس ؟ ( قلت ) : معناه الذين خسروا أنفسهم في علم الله لاختيارهم الكفر فهم لا يؤمنون .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية