الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          ( وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يمسسك بخير فهو على كل شيء قدير ) المس أعم من اللمس في الاستعمال . يقال : مسه السوء والكبر والعذاب والتعب والضراء والضر والخير ، أي أصابه ذلك ونزل به ، ويقال : مسه غيره بذلك أي أصابه به . وقد وردت هذه المعاني كلها في القرآن ، ولكن المس بالخير ذكر هنا في مقابل المس بالضر مسندا إلى الله تعالى ، وفي سورة المعارج في مقابل المس بالشر غير مسند إلى الله تعالى ، والضر بالضم والفتح لغتان : أو الضر بالفتح مصدر ، وبالضم اسم مصدر ، والاستعمال فيه ، أن يضم إذا ذكر وحده ويفتح إذا ذكر مع النفع . وهو ما يسوء الإنسان في نفسه أو بدنه أو عرضه أو ماله أو غير ذلك من شئونه ، ويقابل النفع . وقال الرازي : الضر اسم للألم والحزن والخوف وما يفضي إليها أو إلى أحدها ، والنفع اسم للذة والسرور وما يفضي إليهما أو إلى أحدهما ، والخير اسم للقدر المشترك من دفع الضر وحصول الخير . وقال الراغب : الخير ما يرغب فيه الكل ، كالعقل مثلا والعدل والفضل والشيء النافع وضده الشر . وأقول إن الخير ما كان فيه منفعة أو مصلحة حاضرة أو مستقبلة ، فمن الضار المكروه الذي يسوء ما يكون خيرا بحسن أثره أو عاقبته ، والشر ما لا مصلحة ولا منفعة فيه البتة ، أو ما كان ضره أكبر من نفعه . قال تعالى : ( وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم ) ( 2 : 216 ) وقال في النساء : ( فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا ) ( 4 : 19 ) وقال : ( إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم لا تحسبوه شرا لكم بل هو خير لكم ) ( 24 : 11 ) والشر لا يسند إلى الله تعالى ولكنه مما يبتلي به الناس ويختبرهم وقوله تعالى : ( ولو يعجل الله للناس الشر استعجالهم بالخير لقضي إليهم أجلهم ) ( 10 : 11 ) ليس من هذا الإسناد في شيء ، وفي الحديث " الخير كله بيديك والشر ليس إليك " .

                          ومن دقائق بلاغة القرآن المعجزة تحري الحقائق بأوجز العبارات وأجمعها لمحاسن الكلام مع مخالفة بعضها في بادي الرأي لما هو الأصل في التعبير كالمقابلة هنا بين الضر والخير ، وإنما مقابل الضر النفع ، ومقابل الخير الشر ، فنكتة المقابلة أن الضر من الله تعالى ليس شرا في الحقيقة ، بل هو تربية واختبار للعبد يستفيد به من هو أهل للاستفادة أخلاقا وآدابا وعلما وخبرة ، وقد بدأ بذكر الضر لأن كشفه مقدم على نيل مقابله ، كما أن صرف العذاب في الآخرة مقدم على النعيم فيها ، وهذه الآية مقابلة لما قبلها كما تقدم . ثم ذكر الخير في [ ص: 280 ] مقابل الضر دون النفع فأفاد أن ما ينفع الناس من النعم إنما يحسن إذا كان ذلك النفع خيرا لهم بعدم ترتيب شيء من الشر عليه ، فكأنه قال : إن أصابك أيها الإنسان ضر كمرض وتعب وحاجة وحزن وذل اقتضته سنة الله تعالى فلا كاشف له ، أي لا مزيل له ولا صارف يصرفه عنك إلا هو دون الأولياء يتخذون من دونه ويتوجه إليهم المشرك لكشفه ، فهو إما أن يكشفه عنك بتوفيقك للأسباب التي تزيله ، وإما أن يكشفه بغير عمل منك ولا كسب ، ولطفه الخفي لا حد له فله الحمد ، وإن يمسسك بخير ، كصحة وغنى وقوة وجاه فهو قادر على حفظه عليك كما أنه قادر على إعطائك إياه; لأنه على كل شيء قدير ، وأما أولئك الأولياء الذين اتخذوا من دونه فلا يقدرون على مسك بخير ولا ضر . فالآية كما قال الرازي دليل آخر على أنه لا يجوز للعاقل أن يتخذ غير الله وليا . وقد تبين بها وبما قبلها أن كل ما يحتاج إليه المرء في الدنيا والآخرة من كشف ضر وصرف عذاب أو إيجاد خير ومنح ثواب فإنما يطلب من الله تعالى وحده ، والطلب من الله تعالى نوعان : طلب بالعمل ومراعاة الأسباب التي تقتضيها سننه تعالى في خلقه ، وطلب بالتوجه والدعاء اللذين ندبت إليهما آياته تعالى في كتابه وأحكامه الشرعية .

                          هذا ما فتح الله به ، وبعد كتابته راجعنا كتاب روح المعاني فوجدنا فيه نقلا في نكتة البلاغة في المقابلة بين الضر والخير أحببنا نقلها إتماما للفائدة قال :

                          " وفسروا الضر بالضم بسوء الحال في الجسم وبالفتح بضد النفع وعدل عن الشر المقابل للخير إلى الضر على ما في البحر لأن الشر أعم ، فأتى بلفظ الأخص مع الخير الذي هو عام رعاية لجهة الرحمة . وقال ابن عطية : إن مقابلة الخير بالضر مع أن مقابلة الشر وهو أخص منه من خفي الفصاحة للعدول عن قانون الصنعة وطرح رداء التكلف ، وهو أن يقرن بأخص من ضده ونحوه لكونه أوفق بالمعنى وألصق بالمقام ، كقوله تعالى : ( إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى ) ( 20 : 118 ، 119 ) فجيء بالجوع مع العري ، وبالظمأ مع الصحو ، وكان الظاهر خلافه ، ومنه قول امرئ القيس :


                          كأني لم أركب جوادا للذة ولم أتبطن كاعبا ذات خلخال .

                              ولم أسبأ الزق الروي ولم
                          أقل لخيلي كري كرة بعد إجفال

                          .

                          وإيضاحه : أنه في الآية قرن الجوع الذي هو خلو الباطن بالعري الذي هو خلو الظاهر ، والظمأ الذي فيه حرارة الباطن بالضحى الذي فيه حرارة الظاهر ، وكذلك قرن امرؤ القيس علوه على الجواد بعلوه على الكاعب; لأنهما لذتان في الاستعلاء وبذل المال [ ص: 281 ] في شراء الراح ، ببذل الأنفس في الكفاح; لأن في الأول سرور الطرب وفي الثاني سرور الظفر ، وكذا هنا أوثر الضر لمناسبته ما قبله من الترهيب ، فإن انتقام العظيم عظيم ، ثم لما ذكر الإحسان أتى بما يعم أنواعه ، والآية من قبيل اللف والنشر ، فإن مس الضر ناظر إلى قوله تعالى : ( إني أخاف ) إلخ . ومس الخير ناظر إلى قوله سبحانه : ( من يصرف عنه ) إلخ .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية