الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

مختصر الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة

ابن القيم - أبو عبد الله محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية

صفحة جزء
[ ص: 282 ] [ ص: 283 ] الجزء الثاني

[ ص: 284 ] [ ص: 285 ] فصل

في كسر الطاغوت الثالث

الذي وضعته الجهمية ، لتعطيل حقائق الأسماء والصفات ،

وهو طاغوت المجاز

هذا الطاغوت لهج به المتأخرون ، والتجأ إليه المعطلون ، وجعلوه جنة يترسون بها من سهام الراشقين ويصدرون عن حقائق الوحي المبين ، فمنهم من يقول : الحقيقة هي اللفظ المستعمل فيما وضع له أولا .

ومنهم من يقول : الحقيقة هي المعنى الذي وضع له اللفظ أولا ، والمجاز استعمال اللفظ فيما وضع له ثانيا .

فهاهنا ثلاثة أمور : لفظ ومعنى واستعمال ، فمنهم من جعل مورد التقسيم هو الأول ، ومنهم من جعله الثاني ، ومنهم من جعله الثالث ، والقائلون حقيقة اللفظ كذا ومجازه كذا يجعلون الحقيقة والمجاز من عوارض المعاني .

فإنهم إذا قالوا مثلا : حقيقة الأسد هو الحيوان المفترس ، ومجازه الرجل الشجاع ، جعلوا الحقيقة والمجاز للمعنى لا للألفاظ ، وإذا قالوا : هذا الاستعمال حقيقة ، وهذا الاستعمال مجاز جعلوا ذلك من توابع الاستعمال ، وإذا قالوا هذا اللفظ حقيقة في كذا ، مجاز في كذا جعلوا ذلك من عوارض الألفاظ ، وكثير منهم في كلامه هذا وهذا وهذا .

والمقصود أنهم سواء قسموا اللفظ ومدلوله أو استعماله في مدلوله طولبوا بثلاثة أمور : أحدها : تعيين ورود التقسيم ، الثاني : صحته بذكر ما تشترك فيه الأقسام وما ينفصل وما يتميز به ، فلا بد من ذلك المشترك والمميز ضرورة صحة التقسيم الثالث : التزام الطرد والعكس ، فإن التقسيم من جنس التحديد ، إذ هو مشتمل على القدر المشترك والقدر المميز الفارق فإن لم يطرد التقسيم وينعكس كان تقسيما فاسدا .

فنقول : تقسيمكم الألفاظ ومعانيها واستعمالها فيها إلى حقيقة ومجاز ، إما أن يكون عقليا أو شرعيا ، أو لغويا أو اصطلاحيا ، والأقسام الثلاثة الأول باطلة ، فإن العقل لا مدخل له في دلالة اللفظ وتخصيصه بالمعنى المدلول عليه حقيقة كان أو مجازا ، فإن دلالة اللفظ على معناه وليست كدلالة الانكسار على الكسر والانفعال على الفعل لو كانت عقلية لما اختلفت باختلاف الأمم ولما جهل أحد معنى لفظ ، والشرع لم يرد [ ص: 286 ] بهذا التقسيم ولا دل عليه ، ولا أشار إليه ، وأهل اللغة لم يصرح أحد منهم بأن العرب قسمت لغاتها إلى حقيقة ومجاز ولا قال أحد من العرب قط : هذا اللفظ حقيقة وهذا مجاز ، ولا وجد فى كلام من نقل لغتهم عنهم مشافهة ولا بواسطة ذلك ، ولهذا لا يوجد في كلام الخليل وسيبويه والفراء وأبي عمرو بن العلاء والأصمعي وأمثالهم ، كما لم يوجد ذلك في كلام رجل واحد من الصحابة ولا من التابعين ولا تابع التابعين ، ولا فى كلام أحد من الأئمة الأربعة .

وهذا الشافعي وكثرة مصنفاته ومباحثه مع محمد بن الحسن وغيره لا يوجد فيها ذكر المجاز البتة ، وهذه رسالته التي هي كأصول الفقه لم ينطق فيها بالمجاز في موضع واحد ، وكلام الأئمة مدون بحروفه لم يحفظ عن أحد منهم تقسيم اللغة إلى حقيقة ومجاز ، بل أول من عرف عنه في الإسلام أنه نطق بلفظ المجاز أبو عبيدة معمر بن المثنى ، فإنه صنف في تفسير القرآن كتابا مختصرا سماه مجاز القرآن ، وليس مراده به تقسيم الحقيقة ، فإنه تفسير لألفاظه بما هي موضوعة له ، وإنما عنى بالمجاز ما يعبر به من اللفظ ويفسر به ، كما سمى غيره كتابه معاني القرآن ، أي : ما يعنى بألفاظه ويراد بها ، كما يسمي ابن جرير الطبري وغيره ذلك تأويلا ، وقد وقع في كلام أحمد شيء من ذلك ، فإنه قال في ( الرد على الجهمية فيما شكت فيه من متشابه القرآن وأما قوله : ( إني معكم ) فهذا من مجاز اللغة ، يقول الرجل للرجل : سيجري عليك رزقك ، أنا مشتغل به ، وفي نسخة ، وأما قوله : ( إنني معكما أسمع وأرى ) فهو جائز في اللغة ، يقول الرجل للرجل : سأجري عليك رزقك وسأفعل بك خيرا .

قلت : مراد أحمد أن هذا الاستعمال مما يجوز في اللغة ، أي هو من جائز اللغة لا من ممتنعاتها ، ولم يرد بالمجاز أنه ليس بحقيقة وأنه يصح نفيه ، وهذا كما قال أبو عبيدة في تفسيره إنه مجاز القرآن ، ومراد أحمد أنه يجوز في اللغة أن يقول الواحد [ ص: 287 ] المعظم نفسه ، نحن فعلنا كذا ، فهو مما يجوز في اللغة ، ولم يرد أن في القرآن ألفاظا استعملت في غير ما وضعت له ، وأنها يفهم منها خلاف حقائقها ، وقد تمسك بكلام أحمد هذا من ينسب إلى مذهبه أن في القرآن مجازا كالقاضي أبي يعلى وابن عقيل وابن الخطاب وغيرهم ، ومنع آخرون من أصحابه ذلك ، كأبي عبد الله بن حامد ، وأبي الحسن الجزري وأبي الفضل التميمي .

وكذلك أصحاب مالك مختلفون ، فكثير من متأخريهم يثبت في القرآن مجازا ، وأما المتقدمون كابن وهب وأشهب وابن القاسم فلا يعرف عنهم في ذلك لفظة واحدة .

وقد صرح بنفي المجاز في القرآن محمد بن خواز منداد البصري المالكي وغيره من المالكية ، وصرح بنفيه داود بن علي الأصبهاني وابنه أبو بكر ، ومنذر بن سعيد البلوطي ، وصنف في نفيه مصنفا ، وبعض الناس يحكي في ذلك عن أحمد روايتين .

وقد أنكرت طائفة أن يكون في اللغة مجاز بالكلية ، كأبي إسحاق الإسفرائيني وغيره ، وقوله : له غور لم يفهمه كثير من المتأخرين ، وظنوا أن النزاع لفظي ، وسنذكر أن مذهبه أسد وأصح عقلا ولغة من مذهب أصحاب المجاز ، وطائفة أخرى غلت في ذلك الجانب وادعت أن أكثر اللغة مجاز ، بل كلها ، وهؤلاء أقبح قولا وأبعد عن الصواب من قول من نفى المجاز بالكلية ، بل من نفاه أسعد بالصواب .

التالي السابق


الخدمات العلمية