الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 320 ] مسألة :

" والردة عن الإسلام "

الذي عليه عامة الأصحاب أن الارتداد عن الإسلام ينقض الوضوء ولم يذكره القاضي في خصاله وجامعه وأبو الخطاب في الهداية من النواقض فمقتضى كلامهما عدم النقض بها كما فهمه بعض أصحابنا ويشبه -والله أعلم- أن يكونا تركا ذكرها لعدم ظهور فائدتها لأن المراد إذا لم يعد إلى الإسلام فلا معنى لنقض وضوئه وإن عاد إلى الإسلام وجب عليه الاغتسال في المنصوص وهو أكبر من الوضوء ، فيدخل فيه الوضوء ، ثم رأيت القاضي قد صرح في الجامع الكبير بذلك وقال : " لا معنى لجعلها من النواقض مع وجوب الطهارة الكبرى بالإسلام " ويجاب عنه بأنه " يظهر فائدته " إذا عاد إلى الإسلام فإنا نوجب عليه الوضوء والغسل وإن نواهما بغسله أجزأه في المشهور كما إذا نقض وضوءه بغير الردة ومن لم ينقض وضوءه بالردة لم يوجب عليه إلا الغسل ، ولو لبس الخف على هذه الطهارة ثم أسلم واغتسل في خفيه لم يكن المسح لأنه لبس الخف محدثا ولو قلنا هو طاهر لجاز له المسح لأنه لبسه على طهارة لم يحدث بعدها .

وقد احتج جماعة من أصحابنا على ذلك بقوله سبحانه وتعالى ( لئن أشركت ليحبطن عملك ) بناء على أن الردة تحبط العمل بمجردها فإن الموت عليها في قوله تعالى ( ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر ) .

[ ص: 321 ] شرط للخلود لا يحبط العمل ، والحجة على هذا الوجه فيها نظر ، فإن المشهور عن أكثر أصحابنا أن الردة لا تحبط العمل إلا بالموت عليها ، وبنوا على ذلك صحة الحج في الإسلام الأول ، وقضاء الفوائت فيه من الصلاة والزكاة والصوم ، وأيضا فإن الإحباط إنما ينصرف إلى الثواب دون حقيقة العمل بدليل صحة صلاة من صلى خلفه في الإسلام الأول .

والتحقيق أن الردة إنما تقع بعد انقضاء العبادة وأحكامها ، أو بعد انقضائها وبقاء أحكامها ، أو في أثناء وجودها .

أما الأول : فإنها إذا وقعت بعد انقضائها بالكلية فإنها لا تبطلها أصلا ، وإنما تحبط الثواب إما مطلقا أو بشرط الموت عليها على اختلاف أصحابنا .

وأما الثاني : فإنها إذا وقعت في أثناء الصلاة والصيام والإحرام أفسدت العبادة .

وأما الثالث : فهو الوضوء ؛ لأن عمل الوضوء قد انقضى ، وإنما حكم الطهارة باق ، فهنا يبطل حكم هذه الطهارة وينقضها ، وليس هذا من الإحباط ، وإنما هو من الإبطال ، اللهم إلا أن يقال : إذا كانت تحبط ثواب ما مضى فلأن يفسد الحاضر أولى وأحرى ، وذلك لأن الكفر ينافي العبادات بالكلية ، ودوام الوضوء عبادة ؛ لأنه مستحب مأمور به ، والكفر ينافي ذلك . واحتج أبو الحسن الجزري على ذلك بقول النبي صلى الله عليه وسلم : " الطهور شطر الإيمان " فإذا بطل الإيمان بالكلية فشطره أولى ، ولأن ما منع ابتداء الوضوء منع استدامته ، كانقضاء المدة وظهور القدم في حق الماسح ، ورؤية الماء في حق المتيمم ، ولأن ما منع الكفر ابتداءه منع دوامه كالنكاح وأولى ؛ لأن النكاح ليس بعبادة ، وعكسه ملك المال ، فإن الردة لما لم تمنع ابتداءه لم تمنع دوامه على المشهور ، وهذا لأن الكفر إنما منع نكاح المسلمة ؛ لأن الكافر ليس أهلا لملك أبضاع المسلمات ، وهذا لا يستوي فيه الابتداء والدوام ، وكذلك الطهارة منع منها الكافر ؛ لأنه ليس من أهل الطهارة والقرب والعبادات ، وهذا يستوي فيه [ ص: 322 ] الابتداء والدوام ، بل الدوام أولى ؛ لأنه هو المقصود من أفعال الوضوء ، ويقوي الشبه أن كلا من الوضوء والنكاح يستويان في مفارقة الابتداء والدوام ، بدليل ما لو حلف لا يتطهر وهو متطهر ، أو لا يتزوج وهو متزوج - لم يحنث ، وقد أبطل الكفر النكاح ، فكذلك يبطل الوضوء ، فأما الكلام المحرم كالقذف والكذب والاغتياب فيستحب منه الوضوء ، ولا يجب ؛ لما روى الإمام أحمد بإسناده عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : " لأن أتوضأ من الكلمة الخبيثة أحب إلي من أن أتوضأ من الطعام الطيب " . وروى عنه قال : " الحدث حدثان ؛ حدث اللسان وحدث الفرج ، وحدث اللسان أشد من حدث الفرج " . ورواه ابن شاهين مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم . وقد حمله بعض أصحابنا على الردة ؛ إذ ليس في اللسان ما يوجب الوضوء غيرها ، ولعله أراد أن الحدث باللسان - وهو الكلام المحرم - يوجب الإثم والعقاب ، فهو أعظم مما يوجب الوضوء فقط ، وروى حرب عنه أن رجلين صليا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - صلاة الظهر أو العصر ، وكانا صائمين ، فلما قضيا الصلاة قال : " أعيدا وضوءكما وصلاتكما ، وامضيا في صومكما واقضيا يوما آخر " قالا : " لم يا رسول الله ؟ قال : " اغتبتما فلانا " . وفي إسناده نوع جهالة ، ومعناه الاستحباب ؛ لأن إسباغ الوضوء يمحو الخطايا والذنوب ، فسن عند أسبابها كما تسن الصلاة . وقد روى علي بن أبي طالب - رضي الله عنه قال : " كنت إذا سمعت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نفعني الله بما شاء ، وإذا حدثني غيره استحلفته ، فإذا حلف لي صدقته ، وإن أبا بكر حدثني - وصدق أبو بكر - أنه [ ص: 323 ] سمع النبي - صلى الله عليه وسلم قال : " ما من رجل يذنب ذنبا ، فيتوضأ فيحسن الوضوء ، ثم يصلي ركعتين ، ويستغفر الله ، إلا غفر له " رواه أحمد .

ولأن الوضوء عبادة ، فوجب تنزيهها عن الكلام الخبيث كالصيام والإحرام . وأما انتقاض الوضوء منه فقال ابن المنذر : " أجمع من نحفظ قوله من علماء الأمصار على أن القذف ، وقول الزور ، والكذب ، والغيبة ، لا توجب طهارة ، ولا تنقض وضوءا " . وقد روينا عن غير واحد من الأوائل أنهم أمروا بالوضوء من الكلام الخبيث " ، وذلك استحباب عندنا ممن أمر به قال : " وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من حلف باللات والعزى فليقل : لا إله إلا الله " ولم يأمر فيه بوضوء .

التالي السابق


الخدمات العلمية