الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                          صفحة جزء
                                                          وبعد ذلك أخذ القرآن الكريم يبين بعض أحكام الصيام يشرح وقته ، وإزالة بعض الأوهام ، فقال تعالى : أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم هن لباس لكم وأنتم لباس لهن فهم بعض الناس أن اتصال الرجل بأهله في ليل رمضان كان ممنوعا ثم أحل ، وفهم ذلك من قوله تعالى : أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم فالإحلال لا يكون إلا في موضع كان محرما ، وقد نسخ التحريم ، وإن ذلك ظن الذين يفرطون في ذكر الناسخ والمنسوخ في القرآن ، وعندي أن " أحل " تدل على أن الرفث إلى النساء حلال قد أحله الله تعالى ، وذكر بالبناء للمجهول للدلالة على أنه حلال من قبل ومن بعد .

                                                          وإنه قد جاءت الروايات عن الصحابة بأن بعضهم حسب أنه بمجرد نوم أحدهم ينتهي وقت الفطر ، ويبتدئ وقت الصوم ، ويظن من يأتي امرأته بعد أن [ ص: 565 ] ينام أنه قد انتهك حرمة الصوم ، فرد الله تعالى ذلك الزعم بقوله تعالت حكمته : أحل لكم ليلة الصيام الرفث والرفث ذكر ما يكون بين الرجل والمرأة من جماع ومقدماته ونحو ذلك من القول ، وهو هنا كناية عن الجماع كما يكنى بلفظ لامستم النساء عن الجماع ، وكذلك بلفظ لمستم .

                                                          وقول الله تعالى إلى نسائكم لتضمن الرفث معنى الإفضاء إلى النساء بجماعهن كما قال تعالى : وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا أتأخذونه بهتانا وإثما مبينا وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض وأخذن منكم ميثاقا غليظا

                                                          وقد بين الله تعالى صلة الرجل بامرأته بأدق عبارة وأرق قول ، فقال تعالى : هن لباس لكم وأنتم لباس لهن اللباس ما يستر البدن للرجل والمرأة ، فالعلاقة بين الزوجين تجعل الزوجة كأنها لباس لزوجها تستره ، وتمس جسمه وتكون منه بمنزلة الشعار والدثار ، وهو لها كأنه لباس يسترها ، ويكون منها بمنزلة الشعار والدثار يلامس جسمها جسمه ، فتكون المشاعر التي تثير وتهيج .

                                                          وإن هذا اللفظ يدل على الحاجة الحسية من الرجل لامرأته ، ومن المرأة لزوجها ، والحاجة النفسية والرباط الروحي الذي يربط بينهم بالمودة والرحمة ، كما قال تعالى : ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة

                                                          وقد بين الله تعالى أنهم كانوا يكلفون أنفسهم ما لم يكلفوا ، فكانوا يمتنعون عن مباشرة النساء ظانين أن ذلك غير حلال لهم فقال تعالى : علم الله أنكم كنتم [ ص: 566 ] تختانون أنفسكم " أي تخونون باستباحة ما أحل الله لكم إذ تضطرون بحكم العلاقة الشرعية والإنسانية أن يكون منكم لأزواجكم ما يظنونه ممنوعا ، وهو غير ممنوع فتاب عليكم من هذا الظن وبين لكم أنه حلال قال تعالى آمرا بإباحة المباشرة ، وحدا لميقات الصوم فالآن باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم

                                                          المباشرة كناية عن الجماع ، ككناية الملامسة ، والرفث إليهن ، ولكنها أقرب إلى الصراحة من الملامسة والمس . وابتغاء ما كتب الله تعالى هو ابتغاء الولد حفظا للنسل ، وعمارة للكون بالإنسان الذي هو الخليفة في هذه الأرض ، فالنكاح ما شرعه الله تعالى إلا لابتغاء ذلك لا لمجرد الشهوة ، وإن الله تعالى قد أودع غرائز الإنسان ما ينوط به تكليفه فأودع فيه الشهوة ليسهل وجود النسل وتكاثره ، وإن الأسرة تكليف شديد ، ويتعلق به تبعات كثيرة من تربية الأولاد ، والإنفاق وحضانتهم ، وحمله كرها ووضعه كرها ، وحمله وهنا على وهن ، وغير ذلك من المشاق الظاهرة ولولا الشهوة الدافعة ما تزوج ولا تزوجت ، ولكن الله تعالى لحكمته ، ولما كتبه من البقاء للإنسان ركب فيه هذه الغريزة الجنسية لتدفعه إلى الزواج راغبا ولطلب الولد محبا . والذين يدعون إلى الحد من النسل وأن تكون الشهوة للشهوة لا لطلب الولد ، محاربون للفطرة ، وينحدرون إلى درك دون الإنسان ، بل دون الحيوان .

                                                          وذكر نعمة الولد وقال : وابتغوا ما كتب الله لكم أي ما قدر الله تعالى لكم من ولد وهذا إشارة إلى أن الولد ، رزق كتبه الله تعالى لكم ، فأكرموه ; لأنه عطاء الله واحفظوه لأنه أمانته التي كتبها لكم وائتمنكم عليها .

                                                          وحد الله تعالى ميقات الإفطار والصوم ، فقال تعالت كلماته : وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر

                                                          [ ص: 567 ] والخيط الأبيض هو خيط الفجر يشق السماء بنور كالخط ثم ينتشر ذلك الخط شيئا فشيئا حتى يختفي الظلام ويكون النهار . . والخيط الأسود ما يكون حول ذلك الخط الأبيض من ظلام وقوله من الفجر من هنا بيانية أي أن الخطين يبدوان في الفجر وهو ابتداء النهار وهو ابتداء الصوم ; ولذا قال تعالى : ثم أتموا الصيام إلى الليل أي إلى غروب الشمس فالخط الأبيض في سواد الليل هو نهاية الأكل والشرب وكل المباحات في الإفطار وابتداء المنع بالصيام حتى يكون الغروب ، وبذلك حد الوقت للإفطار وللصوم معا .

                                                          وإنه في العشرة الأخيرة من رمضان يستحب الاعتكاف في المسجد بأن يبقى فيه متعبدا متنسكا لا يخرج منه إلا لحاجة ضرورية ويعود فور زوالها ويمنع من النساء ; ولذا قال تعالى : ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد

                                                          وبهذا أشار سبحانه وتعالى إلى استحسان الاعتكاف وهو سنة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنه بهذا البيان الحكيم قد حد الله تعالى ما يحل وما لا يحل ووقت الحل ووقت الصوم ، وحد ميعاد الصوم وميعاد الفطر ; ولذلك قال تعالى : تلك حدود الله فلا تقربوها فالتزموها ولا تقاربوا الابتداء ولا الانتهاء ، أو لا تقربوها بمعنى لا تعتدوا عليها فتمتنعوا حيث لا يجوز المنع كالامتناع عن الأكل والشرب ، ثم قال تعالى : كذلك يبين الله آياته للناس لعلهم يتقون أي كذلك البيان الذي بين فيه الصوم ورخصه وعزائمه وحدوده وما يجوز فيه وما لا يجوز ولا بيان كهذا البيان ، يبين الله تعالى الأحكام والتكليفات رجاء أن يتقوا الله تعالى ويجعلوا وقاية بينهم وبين غضبه سبحانه وتعالى وينالون رضوانه .

                                                          فقوله تعالى : لعلهم يتقون لعل فيه للرجاء ، والرجاء من العباد لا من الله تعالى ; لأن الرجاء معنى لا يليق بذات الله العلية الذي جل علمه وتنزهت ذاته .

                                                          وهذا يفيد أن كل التكليفات الشرعية وخصوصا العبادات لتربية النفس المؤمنة على التقوى ، وإيداع المهابة من الله تعالى في قلوب العباد فلا يجترئون فينتهكوا حرمات الشهر الذي عظمه الله تعالى ، وجعله مباركا ، وأنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان .

                                                          * * *

                                                          التالي السابق


                                                          الخدمات العلمية