الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                        [ ص: 209 ] ( فإن لم يجد إلا نبيذ التمر ، قال أبو حنيفة رحمه الله تعالى: يتوضأ به ولا يتيمم ) لحديث ليلة الجن ، فإن النبي عليه الصلاة والسلام توضأ به حين لم يجد الماء ، وقال أبو يوسف رحمه الله : يتيمم ولا يتوضأ به ، وهو رواية عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى ، وبه قال الشافعي رحمه الله عملا بآية التيمم لأنها أقوى ، أو هو منسوخ بها لأنها مدنية ، وليلة الجن كانت مكية . [ ص: 210 - 217 ] وقال محمد به ويتيمم ، لأن في الحديث اضطرابا ، وفي التاريخ جهالة ، فوجب الجمع احتياطا .

                                                                                                        قلنا : ليلة الجن كانت غير واحدة ; فلا يصح دعوى النسخ ، والحديث مشهور عملت به الصحابة رضي الله عنهم ، وبمثله يزاد على الكتاب ، وأما الاغتسال به فقد قيل : يجوز عنده اعتبارا بالوضوء ، وقيل : لا يجوز ; لأنه فوقه . والنبيذ المختلف فيه أن يكون حلوا رقيقا يسيل على الأعضاء كالماء ، وما اشتد منها صار حراما لا يجوز التوضؤ به وإن غيرته النار ، فما دام حلوا رقيقا فهو على الخلاف ، وإن اشتد ، فعند أبي حنيفة رحمه الله يجوز التوضؤ به ; لأنه يحل شربه عنده ، وعند محمد رحمه الله لا يتوضأ به لحرمة شربه عنده ، ولا يجوز التوضؤ بما سواه من الأنبذة جريا على قضية القياس .

                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                        الحديث التاسع والأربعون : حديث التوضؤ بنبيذ التمر ، قلت : روي من حديث ابن مسعود . ومن حديث ابن عباس ، أما حديث ابن مسعود فرواه أبو داود . والترمذي . وابن ماجه من حديث أبي فزارة عن أبي زيد مولى عمرو بن حريث عن عبد الله بن مسعود { أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له ليلة الجن : عندك طهور ؟ قال : لا ، إلا شيء من نبيذ في إداوة ، قال : تمرة طيبة وماء طهور }انتهى .

                                                                                                        زاد الترمذي ، قال : { فتوضأ منه } ، قال الترمذي : إنما روي هذا الحديث عن أبي زيد عن عبد الله ، وأبو زيد رجل مجهول عند أهل الحديث لا يعرف له غير هذا الحديث انتهى .

                                                                                                        ووهم شيخنا علاء الدين ، فعزاه للأربعة ، والنسائي لم يروه أصلا ، والله أعلم . ورواه أحمد في " مسنده " وزاد في لفظه : { فتوضأ منه وصلى }.

                                                                                                        وقد ضعف العلماء هذا الحديث بثلاث علل : أحدها : جهالة أبي زيد . والثاني : التردد في أبي فزارة ، هل هو راشد بن كيسان أو غيره ؟ . والثالث : أن ابن مسعود لم يشهد مع النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الجن ، أما الأول : فقد قال [ ص: 210 ] الترمذي : أبو زيد رجل مجهول لا يعرف له غير هذا الحديث .

                                                                                                        وقال ابن حبان في " كتاب الضعفاء " : أبو زيد شيخ يروي عن ابن مسعود ، ليس يدرى من هو ، ولا يعرف أبوه ولا بلده ، ومن كان بهذا النعت ثم لم يرو إلا خبرا واحدا خالف فيه الكتاب والسنة والإجماع والقياس استحق مجانبة ما رواه انتهى .

                                                                                                        قال ابن أبي حاتم في " كتابه العلل " : سمعت أبا زرعة يقول : حديث أبي فزارة في " الوضوء بالنبيذ " ليس بصحيح ، وأبو زيد مجهول ، وذكر ابن عدي عن البخاري ، قال : أبو زيد الذي روى حديث ابن مسعود في " الوضوء بالنبيذ " مجهول لا يعرف بصحبته عبد الله ، ولا يصح هذا الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو خلاف القرآن انتهى .

                                                                                                        العلة الثانية : وهي التردد في أبي فزارة ، فقيل : هو راشد بن كيسان ، وهو ثقة ، أخرج له مسلم ، وقيل : هما رجلان ، وأن هذا ليس براشد بن كيسان ، وإنما هو رجل مجهول ، وقد نقل عن الإمام أحمد أنه قال : أبو فزارة في حديث ابن مسعود رجل مجهول ، وذكر البخاري أبا فزارة العبسي غير مسمى ، فجعلهما اثنين ، وفي كل هذا نظر ، فإنه قد روى هذا الحديث عن أبي فزارة جماعة ، فرواه عنه شريك ، كما أخرجه أبو داود . والترمذي .

                                                                                                        ورواه عنه سفيان والجراح بن مليح ، كما أخرجه ابن ماجه ، ورواه عنه إسرائيل كما أخرجه البيهقي ، وعبد الرزاق في " مصنفه " ورواه عنه قيس بن الربيع كما أخرجهما عبد الرزاق . والجهالة عند المحدثين تزول برواية اثنين فصاعدا ، فأين الجهالة بعد ذلك ؟ إلا أن يراد : جهالة الحال . هذا ، وقد صرح ابن عدي بأنه راشد بن كيسان ، فقال : مدار هذا الحديث على أبي فزارة عن أبي زيد ، وأبو فزارة اسمه : " راشد بن كيسان " وهو مشهور ، وأبو زيد مولى عمرو بن حريث مجهول ، وحكي عن الدارقطني أنه قال : أبو فزارة في حديث النبيذ اسمه " راشد بن كيسان " وقال ابن عبد البر في " كتاب الاستيعاب " : أبو فزارة العبسي راشد بن كيسان ثقة عندهم ، وذكر من روى عنه ، ومن روى هو عنه ، قال : وأما أبو زيد مولى عمرو بن حريث مجهول عندهم لا يعرف بغير رواية أبي فزارة ، وحديثه عن ابن مسعود في الوضوء بالنبيذ " منكر لا أصل له ، ولا رواه من يوثق به ، ولا يثبت انتهى . [ ص: 211 ]

                                                                                                        العلة الثالثة : وهي إنكار كون ابن مسعود شهد ليلة الجن ، فقد اختلف في ذلك لاختلاف ما ورد في ذلك ، فما ورد أنه لم يشهد ما رواه مسلم من حديث الشعبي عن علقمة ، قال : { سألت ابن مسعود ، هل شهد منكم أحد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال : لا ، ولكنا كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة ففقدناه ، فالتمسناه في الأودية والشعاب ، فقلنا : استطير أو اغتيل ، قال : فبتنا ليلة بشر ليلة بات بها قوم ، فلما أصبحنا إذا هو جاء من قبل حراء ، فقلت : يا رسول الله فقدناك ، فطلبناك فلم نجدك ، فبتنا بشر ليلة ، فقال : أتاني داعي الجن فذهبت معهم ، فقرأت عليهم القرآن ، وانطلق بنا فأرانا آثارهم وآثار نيرانهم ، وسألوه الزاد ، فقال : لكم كل عظم ، ولكم كل بعرة علفا لدوابكم ثم قال : لا تستنجوا بهما فإنهما طعام إخوانكم }انتهى .

                                                                                                        وفي لفظ له قال : { لم أكن مع النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الجن ، ووددت أني كنت معه } ، وفي لفظ : { وكانوا من جن الجزيرة } ، ورواه أبو داود مختصرا ، لم يذكر القصة ، ولفظه : عن علقمة ، قال : { قلت لعبد الله بن مسعود : من كان منكم مع النبي صلى الله عليه وسلم ؟ قال : ما كان معه منا أحد }انتهى .

                                                                                                        ورواه الترمذي بتمامه في " الجامع " في تفسير " سورة الأحقاف " ، وهذا الحديث يدفع تأويل من جمع بين الأخبار الدالة على أنه شهد ، وأنه لم يشهد بأنه كان معه وأجلسه في الحلقة ، وعند مخاطبته للجن لم يكن معه ، قال البيهقي في " دلائل النبوة " : وقد دلت الأحاديث الصحيحة على أن ابن مسعود لم يكن مع النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الجن ، وإنما كان معه حين انطلق به وبغيره يريهم آثارهم وآثار نيرانهم .

                                                                                                        قال : وقد روي أنه كان معه ليلته ، ثم أسند إلى عبد الله بن مسعود ، قال : { أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : إني أمرت أن أقرأ على إخوانكم من الجن . ليقم معي رجل منكم ، ولا يقم معي رجل في قلبه مثقال حبة من كبر ، قال : فقمت معه ، ومعي إداوة من ماء حتى إذا برزنا خط حولي خطة ، ثم قال : لا تخرجن منها ، فإنك إن خرجت منها لم ترني ولم أرك إلى يوم القيامة ، هل معك من وضوء ؟ قلت : لا ، قال : فما في إداوتك ؟ قلت : نبيذ ، قال : تمرة حلوة وماء طيب ، ثم توضأ وأقام الصلاة ، فلما قضى الصلاة ، قام إليه رجلان من الجن فسألاه المتاع ، قال : ألم آمر لكما ولقومكما بما يصلحكما ؟ قالا : بلى ، ولكنا أحببنا أن يحضر بعضنا معك : قال . ممن أنتما ؟ قالا : من أهل نصيبين ، قال : قد أفلح هذان وقومهما وأمر لهما بالطعام والرجيع ، ونهانا أن نستنجي بعظم أو روث }انتهى .

                                                                                                        وهذا رواه أحمد في " مسنده " وابن أبي شيبة في " مصنفه " وألفاظهم متقاربة ، قال البيهقي : وهذا يخالف ما في الصحيح من فقدهم إياه ، حتى قيل : اغتيل . واستطير ، إلا أن يكون المراد [ ص: 212 ] من فقده غير الذي علم بخروجه ، ثم أسند البيهقي إلى موسى بن علي عن رباح عن أبيه عن ابن مسعود ، قال : { استتبعني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : إن نفرا من الجن ، خمسة عشر : بني إخوة . وبني عم يأتوني الليلة ، فأقرأ عليهم القرآن ، فانطلقت معه إلى المكان الذي أراد ، فخط لي خطا وأجلسني فيه ، وقال لي : لا تخرج من هذا ، فبت فيه حتى أتاني رسول الله صلى الله عليه وسلم مع السحر ، وفي يده عظم حائل وروثة ، وحممة ، فقال لي : إذا ذهبت إلى الخلاء فلا تستنج بشيء من هؤلاء قال : فلما أصبحت قلت : لأعلمن علمي ، حيث كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : فذهبت فرأيت مبرك ستين بعيرا }انتهى .

                                                                                                        ثم أسند البيهقي إلى أبي عثمان النهدي أن ابن مسعود أبصر زطا في بعض الطريق ، فقال : ما هؤلاء ، فقالوا : هؤلاء الزط ، قال : ما رأيت شبههم إلا الجن ليلة الجن ، وكانوا مستفزين يتبع بعضهم بعضا " انتهى .

                                                                                                        وذكر الترمذي في " جامعه " أن ابن مسعود شهد ليلة الجن تعليقا ، فروى في " باب كرامة ما يستنجى به " من حديث حفص بن غياث عن داود بن أبي هند عن الشعبي عن علقمة عن عبد الله بن مسعود ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { لا تستنجوا بالروث ولا بالعظام ، فإنه زاد إخوانكم من الجن }انتهى .

                                                                                                        ثم قال : وقد روى هذا الحديث إسماعيل بن إبراهيم . وغيره عن داود بن أبي هند عن الشعبي عن علقمة عن عبد الله أنه كان مع النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الجن ، الحديث بطوله ، قال : وكأن رواية إسماعيل أصح من رواية حفص بن غياث انتهى .

                                                                                                        لكنه رواه متصلا في " أبواب الأمثال " عن أبي عثمان النهدي عن ابن مسعود ، قال : { صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم العشاء ، ثم انصرف فأخذ بيد ابن مسعود حتى خرج به إلى بطحاء مكة ، فأجلسه ، ثم خط عليه خطا ، ثم قال : لا تبرحن خطك ، فإنه سينتهي إليك رجال فلا تكلمهم ، فإنهم لا يكلمونك قال : فمضى رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث أراد بينما أنا جالس في خطي إذا أتاني رجال كأنهم الزط ، فذكر حديثا طويلا } ، ثم قال : حديث حسن صحيح ، غريب من هذا الوجه انتهى .

                                                                                                        وروى أحمد في " مسنده " حدثنا عارم . وعفان قالا : ثنا معتمر ، قال : قال أبي : حدثني أبو تميمة عن عمرو البكالي عن عبد الله بن مسعود ، قال { استبعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم فانطلقنا حتى أتينا مكان كذا وكذا ، فخط لي خطة ، وقال لي : كن بين ظهري هذه ، لا تخرج منها ، فإنك إن خرجت هلكت ثم ذكر حديثا طويلا } ، وأخرج الطحاوي هذا الحديث في كتابه المسمى : " بالرد على الكرابيسي " ثم قال : والبكالي هذا من أهل الشام ، ولم يرو هذا الحديث عنه إلا أبو تميمة هذا ، وليس هو بالهجيمي ، بل هو السلمي بصري ليس بالمعروف انتهى . [ ص: 213 ]

                                                                                                        طريق آخر لحديث ابن مسعود ، رواه أحمد في " مسنده " والدارقطني في " سننه " عن أبي سعيد مولى بني هاشم عن حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن أبي رافع عن ابن مسعود { أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له ليلة الجن : أمعك ماء ؟ قال لا : قال : أمعك نبيذ ؟ أحسبه قال : نعم فتوضأ به }انتهى .

                                                                                                        قال الدارقطني : علي بن زيد ضعيف ، وأبو رافع لم يثبت سماعه من ابن مسعود انتهى . قال الشيخ تقي الدين في " الإمام " : وهذا الطريق أقرب من طريق أبي فزارة ، وإن كان طريق أبي فزارة أشهر ، فإن علي بن زيد وإن ضعف فقد ذكر بالصدق ، قال : وقول الدارقطني . وأبو رافع لم يثبت سماعه من ابن مسعود لا ينبغي أن يفهم منه أنه لا يمكن إدراكه وسماعه منه ، فإن أبا رافع الصائغ جاهلي إسلامي ، قال أبو عمر بن عبد البر في " الاستيعاب " : هو مشهور من علماء التابعين . وقال في " الاستيعاب " : لم ير النبي صلى الله عليه وسلم فهو من كبار التابعين ، اسمه " نفيع " كان أصله من المدينة ، ثم انتقل إلى البصرة ، روى عن أبي بكر الصديق . وعمر بن الخطاب . وعبد الله بن مسعود .

                                                                                                        وروى عنه خلاس بن عمرو الهجري . والحسن البصري . وقتادة . وثابت البناني . وعلي بن زيد ، ولم يرو عنه أهل المدينة ، وقال في " الاستيعاب " : عظم روايته عن عمر ، وأبي هريرة ، ومن كان بهذه المثابة فلا يمتنع سماعه من جميع الصحابة ، اللهم إلا أن يكون الدارقطني يشترط في الاتصال ثبوت السماع ولو مرة ، وقد أطنب مسلم في الكلام على هذا المذهب انتهى كلامه .

                                                                                                        طريق آخر ، رواه الدارقطني من حديث محمد بن عيسى بن حيان عن الحسن بن قتيبة عن يونس بن أبي إسحاق عن أبي إسحاق عن أبي عبيدة وأبي الأحوص عن ابن مسعود ، قال : { مر بي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : خذ معك إداوة من ماء ، ثم انطلق وأنا معه فذكر حديث ليلة الجن ، ثم قال : فلما أفرغت عليه من الإداوة إذا هو نبيذ ، فقلت : يا رسول الله أخطأت بالنبيذ ، فقال : تمرة حلوة وماء عذب }.

                                                                                                        قال الدارقطني : تفرد به الحسن بن قتيبة عن يونس بن أبي إسحاق . والحسن بن قتيبة ، ومحمد بن عيسى : ضعيفان انتهى .

                                                                                                        طريق آخر أخرجه الدارقطني عن معاوية بن سلام عن أخيه زيد عن جده أبي سلام عن ابن غيلان الثقفي أنه سمع عبد الله بن مسعود يقول : { دعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الجن بوضوء فجاء بإداوة ، فإذا فيها نبيذ ، فتوضأ رسول الله صلى الله عليه وسلم }انتهى .

                                                                                                        قال الدارقطني : وابن غيلان هذا مجهول قيل : اسمه عمرو ، وقيل : عبد الله بن عمرو بن غيلان [ ص: 214 ] انتهى .

                                                                                                        ورواه أبو نعيم في " كتاب دلائل النبوة " من طريق الطبراني بسنده إلى معاوية عن عمرو بن غيلان ، والله أعلم .

                                                                                                        طريق آخر أخرجه الدارقطني أيضا عن الحسين بن عبيد الله العجلي ثنا أبو معاوية عن الأعمش عن أبي وائل ، قال : سمعت ابن مسعود يقول : { كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الجن فأتاهم فقرأ عليهم القرآن ، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض الليل : أمعك ماء يا ابن مسعود ؟ قلت : لا والله يا رسول الله إلا إداوة فيها نبيذ ، فقال عليه السلام : تمرة طيبة وماء طهور فتوضأ به }قال الدارقطني : والحسين بن عبيد الله العجلي يضع الحديث على الثقات .

                                                                                                        طريق آخر ، رواه الطحاوي في " كتابه " حدثنا يحيى بن عثمان ثنا أصبغ بن الفرج . وموسى بن هارون البردي ، قالا : ثنا جرير بن عبد الحميد عن قابوس عن أبيه عن ابن مسعود ، قال : { انطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى البراز فخط خطا وأدخلني فيه ، وقال لي : لا تبرح حتى أرجع إليك ، ثم أبطأ فما جاء حتى السحر ، وجعلت أسمع الأصوات ، ثم جاء فقلت : أين كنت يا رسول الله ؟ فقال : أرسلت إلى الجن ، فقلت : ما هذه الأصوات التي سمعت ؟ قال : هي أصواتهم حين ودعوني وسلموا علي }انتهى .

                                                                                                        قال الطحاوي : ما علمنا لأهل الكوفة حديثا يثبت أن ابن مسعود كان مع النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الجن ، مما يقبل مثله إلا هذا انتهى .

                                                                                                        طريق آخر ، رواه ابن عدي في " الكامل " من حديث أبي عبد الله الشقري عن شريك القاضي عن أبي زائد عن { ابن مسعود ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أمعك ماء ؟ قلت : لا ، إلا نبيذ في إداوة ، قال : تمرة طيبة وماء طهور فتوضأ }انتهى .

                                                                                                        ثم قال : وهذا الإسناد شوشه أبو عبد الله الشقري عن شريك ، فلا أدري من قبله أو من قبل شريك ، فإن جماعة ، كالثوري . وإسرائيل . وعمرو بن أبي قيس . وغيرهم رووه عن أبي فزارة عن أبي زيد مولى عمرو بن حريث عن ابن مسعود ، وهذه الرواية الصحيحة ، وأبو زيد رجل مجهول ، والحديث ضعيف به انتهى كلامه .

                                                                                                        فقد تلخص لحديث ابن مسعود سبعة طرق : صرح في بعضها أنه كان مع النبي صلى الله عليه وسلم وهو مخالف لما في " صحيح مسلم " أنه لم يكن معه ، وقد جمع بينهما بأنه لم يكن مع النبي صلى الله عليه وسلم حين المخاطبة ، وإنما كان بعيدا منه ، ومن الناس من جمع بينهما ، بأن ليلة الجن كانت مرتين : ففي أول مرة خرج إليهم لم يكن مع النبي صلى الله عليه وسلم ابن مسعود ولا غيره ، كما هو [ ص: 215 ] ظاهر حديث مسلم . ثم بعد ذلك خرج معه ليلة أخرى ، كما روى ابن أبي حاتم في " تفسيره " في أول " سورة الجن " من حديث ابن جريج ، قال : قال عبد العزيز بن عمر : أما الجن الذين لقوه بنخلة ، فمن نينوى ، وأما الجن الذين لقوه بمكة فجن نصيبين ، وتأول البيهقي حديث مسلم ، قال : إنه يقول : { فبتنا بشر ليلة بات بها قوم } ، على غير ابن مسعود ممن لم يعلم بخروجه عليه السلام إلى الجن ، قال : وهو محتمل على بعد ، قال : وقد أخرج البخاري عن سعيد بن عمرو ، قال : { كان أبو هريرة يتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم بإداوة لوضوئه وحاجته ، فأدركه يوما ، فقال : من هذا ؟ قال : أنا أبو هريرة ، قال : ائتني بأحجار أستنجي بها ، ولا تأتني بعظم ولا روثة ، فأتيته بأحجار في ثوبي فوضعتها إلى جنبه ، حتى إذا فرغ وقام اتبعته ، فقلت : يا رسول الله ما بال العظم والروثة ، قال : أتاني وفد جن نصيبين فسألوني الزاد فدعوت الله لهم أن لا يمروا بروثة ولا عظم إلا وجدوا طعاما }انتهى . قال : فهذا يدل على أنهم وفدوا عليه بعد ذلك ، قال : ومما يدل على وفادتهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم بعد ما هاجر إلى المدينة



                                                                                                        ما رواه أبو نعيم في " كتاب دلائل النبوة " حدثنا سليمان بن أحمد ثنا محمد بن عبدة المصيصي ثنا أبو توبة الربيع بن نافع ثنا معاوية بن سلام عن زيد بن أسلم أنه سمع أبا سلام يقول : حدثني { عمرو بن غيلان الثقفي ، قال : أتيت عبد الله بن مسعود ، فقلت له : حدثت أنك كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة وفد الجن ؟ قال : أجل ، قلت : حدثني كيف كان ؟ قال : إن أهل الصفة أخذ كل رجل منهم رجلا يعشيه ، إلا أنا فإنه لم يأخذني أحد ، فمر بي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : من هذا ؟ فقلت : أنا ابن مسعود ، فقال : ما أخذك أحد يعشيك ؟ قلت : لا يا رسول الله ، قال : فانطلق لعلي أجد لك شيئا ، فانطلق حتى أتى حجرة أم سلمة ، فتركني ودخل إلى أهله ، ثم خرجت الجارية ، فقالت : يا ابن مسعود إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يجد لك عشاء ، فارجع إلى مضجعك . فرجعت إلى المسجد ، فجمعت حصباء المسجد فتوسدته ، والتففت بثوبي ، فلم ألبث إلا قليلا حتى جاءت الجارية ، فقالت : أجب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فاتبعتها حتى بلغت مقامي ، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي يده عسيب نخل ، فعرض به على صدري ، فقال : انطلق أنت معي حيث انطلقت ، قال : فانطلقنا حتى أتينا بقيع الغرقد ، فخط بعصاه خطة ، ثم قال : اجلس فيها ولا تبرح حتى آتيك ، ثم انطلق يمشي ، وأنا أنظر إليه حتى إذا كان من حيث لا أراه ثارت مثل العجاجة السوداء ، ففزعت ، وقلت في نفسي : هذه هوازن مكروا برسول الله صلى الله عليه وسلم ليقتلوه ، فهممت أن أسعى إلى البيوت ، فأستغيث الناس ، فذكرت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أوصاني [ ص: 216 ] أن لا أبرح ، وسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفزعهم بعصاه ، ويقول : اجلسوا ، فجلسوا حتى كاد ينشق عمود الصبح ثم ثاروا وذهبوا ، فأتاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : أنمت ؟ فقلت : لا ، والله ، ولقد فزعت الفزعة الأولى حتى هممت أن آتي البيوت فأستغيث الناس ، حتى سمعتك تفزعهم بعصاك ، فقال : لو أنك خرجت من هذه الحلقة لم آمن أن تخطف ، فهل رأيت شيئا منهم ؟ قلت : رأيت رجالا سودا مستفزين بثياب بيض ، قال : أولئك وفد جن نصيبين ، فسألوني الزاد والمتاع ، فمتعتهم بكل عظم حائل أو روثة أو بعرة ، قلت : وما يغني ذلك عنهم ؟ قال : إنهم لا يجدون عظما إلا وجدوا عليه لحمه الذي كان عليه يوم أكل ، ولا روثة إلا وجدوا فيها حبها الذي كان فيها يوم أكلت ، فلا يستنقي أحد منكم بعظم ولا بعرة }انتهى .

                                                                                                        وفي سنده رجل لم يسم . ثم أخرج أبو نعيم عن بقية بن الوليد حدثني نمير بن يزيد القيني ثنا أبي ثنا قحافة بن ربيعة حدثني الزبير بن العوام . قال : { صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح في مسجد المدينة ، فلما انصرف ، قال : أيكم يتبعني إلى وفد الجن الليلة ؟ فأسكت القوم ثلاثا ، فمر بي ، فأخذ بيدي ، فجعلت أمشي معه حتى خنست عنا جبال المدينة كلها وأفضينا إلى أرض براز ، فإذا رجال طوال كأنهم الرماح مستنفرين ، ثيابهم من بين أرجلهم ، فلما رأيتهم غشيتني رعدة شديدة }.

                                                                                                        ثم ذكر نحو حديث ابن مسعود ، وضعف البيهقي في " سننه " حديث ابن مسعود ، بأن ابن مسعود أنكر شهوده مع النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الجن . وأنكره ابنه أبو عبيدة ، وأنكره إبراهيم النخعي ، ثم أسند إلى ابن مسعود أنه قال : لم أكن مع النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الجن ووددت أني كنت معه ، ثم أسند إلى الشعبي ، قال : سألت علقمة ، هل كان ابن مسعود شهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الجن ؟ فذكره إلى آخره بلفظ مسلم ، ثم أسند إلى عمرو بن مرة ، قال : سألت أبا عبيدة بن عبد الله أكان عبد الله مع النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الجن ؟ قال : لا ، وسألت إبراهيم ، فقال : ليت صاحبنا كان ذاك انتهى .

                                                                                                        وهذا منقطع ، فإن البيهقي قال في " باب من كبر بالطائفتين " : أبو عبيدة لم يدرك أباه انتهى .

                                                                                                        وإبراهيم أيضا لم يسمع من ابن مسعود ، ثم ذكر البيهقي صفة أنبذتهم التي كانت ، فساق بسنده إلى عائشة ، قالت : { كنا ننبذ لرسول الله صلى الله عليه وسلم في سقاء ، ننبذه غدوة فيشربه عشاء ، وننبذه عشاء فيشربه غدوة } ، وهذا رواه مسلم ، ثم أسند البيهقي إلى أبي العالية ، قال : ترى نبيذكم هذا الخبيث إنما كان ما يلقى فيه تمرات فيصير حلوا ؟ انتهى .

                                                                                                        ومقتضى كلامه ، أن مثل هذا النبيذ يجوز الوضوء به ، ومذهب الشافعية : أن التمر ونحوه إذا غلب وصف منه أو أكثر على الماء ، فأزال اسمه يمتنع الوضوء به ، [ ص: 217 ] والظاهر أن ما ينبذ من غدوة إلى العشاء ، وصار حلوا صار كذلك ; { ولأنه عليه السلام ، قال : هل معك ماء ؟ قال : لا }فدل أن الماء استحال في التمر حتى سلب عنه اسم الماء ، وإلا لما صح نفيه عنه ، والله أعلم ، وضعف الطحاوي أيضا حديث ابن مسعود ، واختار أنه لا يجوز له الوضوء لا في سفر ولا في حضر .

                                                                                                        وقال : إن حديث ابن مسعود روي من طرق لا تقوم بمثلها حجة ، وقد قال عبد الله بن مسعود : إني لم أكن ليلة الجن مع النبي صلى الله عليه وسلم ، ووددت أني كنت معه ، وسئل أبو عبيدة هل كان أبوك ليلة الجن مع النبي صلى الله عليه وسلم ؟ فقال : لا ، مع أن فيه انقطاعا ; لأن أبا عبيدة لم يسمع من أبيه ، ولم نعتبر فيه اتصالا ولا انقطاعا ، ولكنا احتججنا بكلام أبي عبيدة ، لأن مثله في تقدمه في العلم ، ومكانه من أمره وخلطته بخاصته من بعده لا يخفى عليه مثل هذا من أموره ، فجعلنا قوله حجة فيه ، قال : وقد أجمع الناس على أنه لا يجوز الوضوء به مع وجود الماء ، فكذلك هو عند الماء .

                                                                                                        والمروي في حديث ابن مسعود أنه توضأ به إنما هو وهو عليه السلام غير مسافر ; لأنه خرج من مكة يريدهم ، فهو في حكم استعماله له بمكة ، فلو ثبت ذلك جاز الوضوء به في حال وجود الماء ، فلما أجمعوا على خلاف ذلك ثبت طرحهم لهذا الحديث ، وهو النظر عندنا انتهى كلامه ملخصا من " شرح الآثار " .

                                                                                                        وقوله في الكتاب : إن في الحديث اضطرابا . وفي التاريخ جهالة ، وليلة الجن كانت غير واحدة ، والحديث مشهور عملت به الصحابة ، ونقل عن الشافعي أنه منسوخ " بآية التيمم " لأنها مدنية ، وليلة الجن كانت بمكة انتهى .

                                                                                                        أما الاضطراب ، [ ص: 218 ] فقد روي أن ابن مسعود شهد ليلة الجن ، وروي أنه لم يشهد ، وأما جهالة التاريخ ، ففيه نظر ; لأن أهل السير ذكروا أن قدوم وفد نصيبين كان قبل الهجرة بنحو ثلاث سنين ، قال السروجي : وقوله : ليلة الجن يوهم أنها كانت بالمدينة ، ولم ينقل في " كتب الحديث " ، وهذا فيه نظر تقرر عند مسلم في حديث ابن مسعود ، { فلما أصبحنا إذا هو جاء من قبل حراء } ، وأما كونه مشهورا ، فليس يريد المشهور الاصطلاحي ، وأما عمل الصحابة ، ففي " سنن الدارقطني " عن عبد الله بن محرر عن عكرمة عن ابن عباس ، قال : النبيذ وضوء من لم يجد الماء .

                                                                                                        وأخرج أيضا عن الحارث عن علي أنه كان لا يرى بأسا بالوضوء بالنبيذ ، وأخرج أيضا عن مزيدة بن جابر عن علي ، قال : لا بأس بالوضوء بالنبيذ .

                                                                                                        وأما حديث ابن عباس ، فرواه ابن ماجه في " سننه " من طريق ابن لهيعة ثنا قيس بن الحجاج عن حنش الصنعاني عن عبد الله بن عباس { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لابن مسعود ليلة الجن : معك ماء ؟ قال : لا ، إلا نبيذ في سطيحة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : تمرة طيبة وماء طهور صب علي ، فصببت عليه فتوضأ به }انتهى .

                                                                                                        وظاهر هذا اللفظ يقتضي أنه مسند ابن عباس ، لكن الطبراني في " معجمه " جعله من مسند ابن مسعود ، وكذلك البزار في " مسنده " ولفظهما بالإسناد المذكور عن ابن عباس عن { ابن مسعود أنه وضأ النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الجن بنبيذ ، فتوضأ ، وقال : ماء طهور }انتهى .

                                                                                                        قال البزار : هذا حديث لا يثبت ; لأن ابن لهيعة كانت كتبه قد احترقت ، وبقي يقرأ من كتب غيره ، فصار في أحاديثه مناكير ، وهذا منها انتهى .

                                                                                                        ورواه الدارقطني في " سننه " وقال : تفرد به ابن لهيعة ، وهو ضعيف ، وينظر لفظه .

                                                                                                        ومن أحاديث الباب : ما رواه الدارقطني في " سننه " من حديث مجاعة عن أبان عن عكرمة عن ابن عباس ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { إذا لم يجد أحدكم ماء ووجد النبيذ فليتوضأ به }انتهى ، قال الدارقطني : أبان : " هو أبان بن أبي عياش " متروك ، ومجاعة : ضعيف : والمحفوظ أنه من قول عكرمة غير مرفوع .

                                                                                                        طريق آخر : أخرجه الدارقطني . ثم البيهقي عن المسيب بن واضح ثنا مبشر بن إسماعيل عن الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير عن عكرمة عن ابن عباس مرفوعا نحوه ، سواء ، قال الدارقطني : وهم فيه المسيب بن واضح ، والمحفوظ من قول عكرمة غير مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم ولا إلى ابن عباس ، ثم ساقه بسنده إلى عكرمة من قوله : وقال [ ص: 219 ] البيهقي : وهم فيه المسيب بن واضح في موضعين : في ذكره ابن عباس . وفي ذكره النبي صلى الله عليه وسلم والمحفوظ فيه من قول عكرمة ، كما رواه هقل بن زياد . والوليد بن مسلم عن الأوزاعي ، وكذلك رواه شيبان النحوي . وعلي بن المبارك عن يحيى بن أبي كثير عن عكرمة ، وكان المسيب رحمه الله كثير الوهم ، والله أعلم ، انتهى .




                                                                                                        الخدمات العلمية