الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                [ ص: 136 ] الثالثة : يعتبر للراوي المقبول الرواية شروط .

                فالأول : الإسلام ، لاتهام الكافر في الدين . وكلام أحمد في الكافر أو الفاسق المتأول إذا لم يكن داعية ، يحتمل الخلاف ، إذ أجاز نقل الحديث عن المرجئة ، والقدرية ، واستعظم الرواية عن سعيد العوفي لجهميته . واختار أبو الخطاب قبولها من الفاسق المتأول ؛ لحصول الوازع له عن الكذب ، وهو قول الشافعي .

                ب : العدالة ، لعدم الوازع للفاسق المعاند ، ولقوله تعالى : إن جاءكم فاسق بنبإ .

                ج : التكليف ، إذ لا وازع للصبي والمجنون ، ولا عبادة لهما ، فإن سمع صغيرا ، وروى بالغا ، قبل : كالشهادة ، وصبيان الصحابة ، والإجماع على إحضاره مجالس السماع ، ولا فائدة له إلا ذلك .

                د : الضبط حالة السماع ، إذ لا وثوق بقول من لا ضبط له .

                التالي السابق


                المسألة " الثالثة : يعتبر للراوي المقبول الرواية شروط " ، لما بين جواز التعبد بخبر الواحد عقلا وسمعا ؛ وجب النظر في شروط الواحد الذي يقبل خبره :

                فالأول : الإسلام ، أي : يكون الراوي مسلما لأن الكافر متهم في الدين ؛ فلا يؤتمن عليه في خبر ديني ، كالرواية ، والإخبار عن جهة القبلة ، حتى إنه لا يستدل بمحاريب الكفار ، ولا يقبل خبره في وقت الصلاة ، وطهارة موضعها ، وطهارة الماء ، ووقت السحور والإفطار ، والأصل في ذلك قوله سبحانه وتعالى : ياأيها الذين آمنوا لا تتولوا قوما غضب الله عليهم [ الممتحنة : 13 ] ، و لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء [ الممتحنة : 1 ] ، أي : لا تتولوهم في الدين ، وهذه الفروع من الدين . وقال النبي صلى الله عليه وسلم : لا تستضيئوا بنار المشركين ، أي : لا تأخذوا [ ص: 137 ] بآرائهم .

                قوله : " وكلام أحمد في الكافر ، أو الفاسق المتأول ، إذا لم يكن داعية يحتمل الخلاف " .

                يعني : أن الكافر والفاسق ، إذا كانا متأولين ؛ فأما أن يكون فسقه ، كشارب النبيذ متأولا ، ونحوه ، لم تقبل روايته ؛ لأنه لا يؤمن أن يضع الحديث على موافقة مذهبه وهواه ، كما يحكى عن الخطابية من الرافضة . وإن لم يكن داعية ؛ فكلام أحمد فيه يحتمل الخلاف ، أي : لأنه أجاز نقل الحديث عن المرجئة والقدرية ، مع أنهم كفار أو فساق ؛ فهذا يدل على الجواز .

                واستعظم - يعني أحمد - الرواية عن سعيد العوفي لجهميته ، أي : لكونه [ ص: 138 ] جهميا . وهذا يدل على المنع .

                قال أحمد رحمه الله : احملوا الحديث عن المرجئة . وقال : يكتب عن القدري إذا لم يكن داعية . واستعظم الرواية عن سعيد العوفي ، وقال : هو جهمي ، امتحن فأجاب .

                قلت : المحدث إذا كان ناقدا بصيرا في فنه ، جاز أن يروي عن جماعة من المبتدعة ، الذين يفسقون ببدعتهم ، كعباد بن يعقوب الرواجني - بالجيم والنون - وكان غاليا في التشيع ، وحريز بن عثمان ، وكان يبغض عليا رضي الله عنه ، وقد قال له النبي صلى الله عليه وسلم : لا يحبك إلا مؤمن ، ولا يبغضك إلا منافق .

                [ ص: 139 ] قوله : " واختار أبو الخطاب قبولها " ، أي : قبول الرواية " من الفاسق المتأول لحصول الوازع " ، أي : الكاف له من الكذب . يقال : وزعه يزعه وزعا : إذا كفه ؛ فاتزع هو : أي : كف ، وذلك لأن فسق هذا ، إنما هو في اعتقاد خصمه ، وإلا ؛ فهو يعتقد في نفسه العدالة والإسلام ، ويخطئ خصمه في خلافه ؛ فهو في الجملة معتصم بحبل التدين ؛ فلا يقدم على الكذب .

                ولا يرد مثل هذا في اليهود والنصارى وغيرهم من الكفار ؛ لأن هؤلاء يقطعون بخطأ المسلمين ، والمسلمون يقطعون بخطئهم ؛ فيرون الكذب ليكيدوا به الإسلام قربة ، بخلاف فسقة الملة ، فإن غالب المسائل التي يفسقون بها ليست قواطع ، كما قررته في كتاب " إبطال التحسين والتقبيح " .

                وهذا - أعني قبول رواية الفاسق المتأول - قول الشافعي على ما ذكر في " المختصر " ، والاحتراز بالمتأول عن المعاند ؛ فإنه لا تقبل روايته لعناده ، وعدم الوازع له .



                تنبيه : اتفق الأئمة الثلاثة على أن شارب النبيذ متأولا يحد ، واختلفوا في قبول شهادته ؛ فقبلها أحمد والشافعي ، وردها مالك رضي الله عنهم . ومأخذ الخلاف : أن فسقه مظنون ؛ فتقبل شهادته ، أو مقطوع ؛ فترد .

                [ ص: 140 ] أما وجه كونه مظنونا ؛ فمن جهة أنه قلد في شربه إماما مجتهدا ، يستند في إباحته إلى شبهة ، إن لم يكن حجة ؛ فيمتنع مع ذلك القطع بفسقه ، وقد كان هذا يقتضي أن لا يحد أيضا ، وإنما حددناه ؛ لأن الحدود وضعت لدرء المفاسد ، وإن لم يقترن بها العصيان ؛ فحددناه دفعا لمفسدة فساد العقل ، وقبلنا شهادته لعدم عصيانه .

                ووجه كونه مقطوعا به ، هو أن مدرك تحريم النبيذ : قوي ، حتى صار خلافه في الشرعيات كالسفسطة في العقليات ؛ فشارب النبيذ خالف النص المرضي ، والقياس الجلي ، والقانون الكلي .

                أما النص : فقوله عليه السلام : كل مسكر خمر ، وكل خمر حرام . وما أسكر كثيره ؛ فملء الكف منه حرام . وهي نصوص صحيحة .

                وأما القياس الجلي : فقياس النبيذ على الخمر .

                وأما القانون الكلي : فإن قاعدة الشرع سد الذرائع ، حتى حرم القطرة من الخمر ، وإن لم تسكر ، لكونها ذريعة إلى ما يسكر ، والنبيذ ذريعة إلى الخمر ؛ فيجب القول بتحريمه .

                وأما تقليده في شربه لإمام مجتهد ؛ فلا ينفعه ؛ لأن حكم الحاكم ينقض بمخالفة النص والقياس الجلي ، ولا يقر الحكم مع تأكده ؛ فأن لا يقر قول المجتهد [ ص: 141 ] المجرد أولى ، وإذا لم يقر ، لم يجز التقليد فيه ، وصار الناطق بجوازه كالساكت ، والمقلد فيه كالمجترئ المعاند حكما .

                قلت : الأشبه بعدل الشرع أن شارب النبيذ متأولا لا يحد ، وأن شهادته لا ترد ؛ لأن وجوب الحد عليه ؛ إما مقطوع به ، أو مظنون ، والقطع لا سبيل إليه ، إذ لا قاطع ، وإلا لما اختلفوا في قبول شهادته ، والظن شبهة يدرأ بها الحد عنه .

                ثم إنهم إذا اعتلوا على الحنفي مثلا ، بأنه استباح ما حرم الله ، اعتل هو عليهم بأنهم حرموا ما أحل الله ، ثم يورد شبهته ، ومع تكافؤ الأدلة ، أو تقاربها ، كيف يجب الحد .

                ثم يلزمهم أن يقبلوه ، أو يفسقوه ؛ فيما إذا ترك الطمأنينة في الصلاة ، أو صلى بتيمم واحد صلوات ، بناء على رأيه أن التيمم يرفع الحدث ؛ لأنه حينئذ تارك للصلاة ، بتركه ركنها أو شرطها ، والمدرك في ذلك أقوى من المدرك في تحريم [ ص: 142 ] النبيذ ، أو مثله ؛ فما الفرق ؟



                قوله : " ( ب ) " يعني الشرط الثاني من الشروط المعتبرة للراوي : " العدالة ، لعدم الوازع للفاسق المعاند عن الكذب " ، أي : ليس له ما يمنعه من الكذب ، وقيدنا بالمعاند ؛ لأن المتأول قد سبق أن روايته تقبل ، " ولقوله تعالى : إن جاءكم فاسق أي : تعتبر عدالة الراوي ، ولا تقبل رواية الفاسق ، لقوله تعالى : إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا [ الحجرات : 6 ] ؛ فأمر بالتبين في روايته ، ولو قبلت ، لم تقف على التبين ، كرواية العدل .

                تنبيه : العدالة : قد ذكر الفقهاء أنها الصلاح في الدين ، والمروءة ، وفصلوا ذلك . واعتبر بعض الفقهاء وجوده في البينة ظاهرا وباطنا . وقال بعضهم : العدل من لم تظهر منه ريبة ، وهما قولان في المذهب ، واشتمل عليهما كلام الخرقي ، وكأن مأخذ القولين أن المعتبر ظهور أمارة الصدق ، أو عدم ظهور أمارة الكذب .

                [ ص: 143 ] والقول الوجيز الجامع في العدالة ، أنها اعتدال المكلف في سيرته شرعا بحيث لا يظهر منه ما يشعر بالجراءة على الكذب ، ويحصل ذلك بأداء الواجبات واجتناب المحظورات ولواحقها .

                وتعرف عدالة الشخص بأمور :

                أحدها : المعاملة والمخالطة المطلقة في العادة على خبايا النفوس ودسائسها .

                الثاني : التزكية ، وهو ثناء من ثبتت عدالته عليه ، وشهادته له بالعدالة .

                الثالث : السمعة الجميلة المتواترة أو المستفيضة ، وبمثلها عرفت عدالة كثير من أئمة السلف .



                قوله : " ( ج ) " أي : الشرط الثالث من شروط الراوي : " التكليف " ، بأن يكون بالغا عاقلا ، " إذ لا وازع " ، أي : لا مانع " للصبي والمجنون " عن الكذب ، لعدم تعقلهما الثواب والعقاب ، " ولا عبادة لهما شرعا " ، أي : لا يترتب على عبادتهما حكم شرعي ، كعقد بيع ، أو نكاح ، أو فسخ عقد ، أو طلاق ، " فإن سمع " الراوي " صغيرا " ، أي : حال صغره ، " وروى بالغا " : أي : بعد بلوغه ، " قبل " قوله ، وروايته " كالشهادة ، وصبيان الصحابة " .

                أما الشهادة ؛ فلأن من شهد صغيرا ، وأدى كبيرا ، قبلت شهادته ، ووجه ذلك أن عند البلوغ يحصل له الوازع عن الكذب ؛ فلا يروي ويؤدي إلا ما سمع وشاهد .

                وأما صبيان الصحابة ؛ فلأنهم سمعوا صبيانا ، ورووا بعد البلوغ ، وقبلت [ ص: 144 ] روايتهم بالإجماع ، وذلك ، كابن عباس ، وعبد الله بن جعفر ، وابن الزبير ، والحسن والحسين ، والنعمان بن بشير ، وأنس بن مالك ، فإن أمه سلمته إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، صبيا ليخدمه ؛ فخدمه عشر سنين ، ولذلك كثرت روايته عنه ، وأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها ، دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم ، وهي بنت تسع سنين ، وروت عنه ، رضي الله عنهم أجمعين .

                قوله : " والإجماع على إحضاره " إلى آخره ، هذا دليل آخر على قبول ما سمعه صغيرا ورواه بعد بلوغه .

                وتقريره : أن الإجماع منعقد على استحباب إحضار الصبي مجالس السماع ، أي : سماع الحديث ، ولا فائدة لإحضاره صغيرا إلا قبول روايته كبيرا ، فلو لم يقبل ، لانتفت فائدة إحضاره ، ولغي الإجماع ، وهو حال لعصمة الإجماع سمعا عن الخطأ واللغو .



                قوله : " ( د ) " : أي : الشرط الرابع من شروط الراوي : " الضبط " ، أي : يكون ضابطا لما يسمعه " حالة السماع ، إذ لا وثوق بقول من لا ضبط له " ، فإن أئمة الحديث أبطلوا روايات كثير ممن ضعف ضبطه ، ممن سمع بالغا عاقلا ، بل شيخا أو كهلا محتنكا ؛ فإبطال رواية من لا ضبط له ، ممن سمع صغيرا ، أولى .

                تنبيه : أصل الضبط إمساك الشيء باليد ، أو اليدين ، إمساكا يؤمن معه الفوات ، [ ص: 145 ] ومنه قيل للذي يعمل بكلتا يديه : أضبط ، والأنثى : ضبطاء . والضبنطي : القوي ، والألف والنون زائدتان ، ثم استعمل مجازا في حفظ الوالي ونحوه البلاد بالحزم وحسن السياسة ، وفي حفظ المعاني بألفاظها ، أو بدونها ، بالقوة الحافظة .

                ويستعمل في اصطلاح المحدثين في التحري والتشدد في النقل ، والمبالغة في إيضاح الخط بالإعراب ، والشكل ، والنقط .




                الخدمات العلمية