الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قوله عز وجل:

إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤا ولباسهم فيها حرير وهدوا إلى الطيب من القول وهدوا إلى صراط الحميد إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله والمسجد الحرام الذي جعلناه للناس سواء العاكف فيه والباد ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم

هذه الآية معادلة لقوله تعالى: فالذين كفروا قطعت لهم ثياب . وقرأ الجمهور : "يحلون" بفتح الياء واللام وتخفيفها، يقال: حلي الرجل وحليت المرأة إذا صارت ذات حلي. وقيل: هي من قولهم: لم يحل فلان بطائل. و "من" في قوله تعالى: "من أساور" هي لبيان الجنس: ويحتمل أن تكون لتبعيض. و "الأساور" جمع سوار وإسوار بكسر الهمزة، وقيل: أساور جمع أسورة، وأسورة جمع سوار. وقرأ ابن عباس رضي الله عنهما: من أسورة من ذهب.

و "اللؤلؤ": الجوهر، وقيل: صغاره، وقيل: كباره، والأشهر أنه اسم للجوهر. وقرأ نافع ، وعاصم -في رواية أبي بكر -: "ولؤلؤا" بالنصب عطفا على موضع "الأساور"; لأن التقدير: يحلون فيها أساور، وهي قراءة الحسن ، والجحدري ، وسلام ، ويعقوب ، والأعرج ، وأبي جعفر ، وعيسى ، وابن عمر ، وحمل أبو الفتح نصبه على إضمار فعل، وقرأ الباقون من السبعة: "ولؤلؤ" بالخفض عطفا إما على لفظة "الأساور"، ويكون "اللؤلؤ" في غير الأساور، وإما على "الذهب" لأن الأساور تكون أيضا من ذهب ولؤلؤ قد جمع بعضها إلى بعض، ورويت هذه القراءة عن الحسن بن أبي الحسن ، وطلحة ، وابن وثاب ، والأعمش ، وأهل مكة ، وثبتت في "الإمام" ألف بعد الواو، قاله الجحدري ، وقال الأصمعي : ليس فيها ألف، وروى يحيى عن أبي بكر ، [ ص: 231 ] عن عاصم بهمز الواو الثانية دون الأولى، وروى المعلى بن منصور ، عن أبي بكر ، عن عاصم ضد ذلك، قال أبو علي : فهمزهما وتخفيفهما وهمز إحداهما دون الأخرى جائز كله. وقرأ ابن عباس رضي الله عنهما: "لئلئا" بكسر اللامين.

وأخبر الله تعالى عنهم بلباس الحرير لأنها من أكمل حالات الآخرة، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة . وقال ابن عباس رضي الله عنهما: لا تشبه أمور الآخرة أمور الدنيا إلا في الأسماء فقط، وأما الصفات فمتباينة.

و "الطيب من القول": لا إله إلا الله وما جرى معها من ذكر الله تبارك وتعالى وتسبيحه وتقديسه، وسائر كلام أهل الجنة من محاورة وحديث طيب، فإنها لا تسمع فيها لاغية، و "صراط الحميد" هو طريق الله تعالى الذي دعا عباده إليه، ويحتمل أن يريد بـ "الحميد" نفس الطريق، فأضاف إليه على حد إضافته في قوله تعالى: "ولدار الآخرة".

قوله تعالى: إن الذين كفروا ويصدون الآية. قوله: "ويصدون" تقديره: وهم يصدون، وبهذا حسن عطف المستقبل على الماضي، وقالت طائفة: الواو زائدة، و "يصدون" خبر "إن".

قال القاضي أبو محمد رحمه الله :

وهذا مفسد للمعنى المقصود، وإنما الخبر محذوف مقدر عند قوله: "والباد"، تقديره: خسروا أو هلكوا، وجاء "يصدون" مستقبلا إذ هو فعل يديمونه، كما [ ص: 232 ] جاء قوله تعالى: الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم ونحوه.

وهذه الآية نزلت عام الحديبية حين صد رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المسجد الحرام ، وذلك أنه لم يعلم لهم صد قبل ذلك الجمع، إلا أن يراد صدهم لأفراد من الناس فقد وقع ذلك في صدر المبعث، وقالت فرقة: " المسجد الحرام " أرادوا به مكة كلها.

قال القاضي أبو محمد رحمه الله :

وهذا صحيح لكنه قصد بالذكر المهم المقصود من ذلك.

وقرأ جمهور الناس: "سواء" بالرفع، وهو على الابتداء، و "العاكف" خبره، وقيل: الخبر "سواء" وهو مقدم، وهو قول أبي علي ، والمعنى: الذي جعلناه للناس قبلة أو متعبدا، وقرأ حفص عن عاصم : "سواء" بالنصب، وهي قراءة الأعمش ، وذلك يحتمل وجهين: أحدهما أن يكون مفعولا ثانيا لـ "جعل" ويرتفع "العاكف" به لأنه مصدر في معنى مستو أعمل عمل اسم الفاعل، والوجه الثاني أن يكون حالا من الضمير في "جعلناه"، وقرأت فرقة: "سواء" بالنصب "العاكف" بالخفض عطفا على "الناس"، و "العاكف": المقيم في البلد، و "البادي": القادم عليه من غيره. وقرأ ابن كثير في الوصل والوقف: "البادي" بالياء، ووقف أبو عمرو بغير ياء، ووصل بالياء، وقرأ نافع : "الباد" بغير ياء في الوصل والوقف في رواية المسيبي ، وأبو بكر وإسماعيل بن أبي أويس ، وروى ورش الوصل بالياء، وقرأ عاصم ، وابن عامر ، وحمزة ، والكسائي بغير ياء وصلا ووقفا، وهي في "الإمام" بغير ياء.

وأجمع الناس على الاستواء في المسجد الحرام واختلفوا في مكة ، فذهب عمر بن [ ص: 233 ] الخطاب ، وابن عباس ، ومجاهد ، وجماعة معهم إلى أن الأمر كذلك في دور مكة ، وأن القادم له النزول حيث وجد، وعلى رب المنزل أن يؤويه شاء أو أبى، وقال ذلك سفيان الثوري وغيره، وكذلك كان الأمر في الصدر الأول، قال ابن سابط : وكانت دورهم بغير أبواب حتى كثرت السرقة فاتخذ رجل بابا فأنكر عليه عمر رضي الله عنه وقال: أتغلق بابا في وجه حاج بيت الله؟ فقال: إنما أردت حفظ متاعهم من السرقة، فتركه فاتخذ الناس الأبواب. وقال جمهور من الأمة منهم مالك رحمه الله: ليست الدور كالمسجد، ولأهلها الامتناع بها والاستبداد، وعلى هذا هو العمل اليوم.

وهذا الخلاف متركب على الاختلاف في مكة ، هل هي عنوة كما روي عن مالك والأوزاعي ؟ أو صلح كما روي عن الشافعي ؟ فمن رآها صلحا فإن الاستواء عنده في المنازل بعيد، ومن رآها عنوة أمكنه أن يقول: الاستواء فيها قدره الأئمة الذين لم يقطعوها أحدا وإنما سكنى من سكن من قبل نفسه.

قال القاضي أبو محمد رحمه الله :

وظاهر قول النبي صلى الله عليه وسلم: وهل ترك لنا عقيل منزلا ، يقتضي الاستواء، وأنها متملكة ممنوعة على التأويلين في قوله صلى الله عليه وسلم; لأنه تؤول بمعنى أنه ورث جميع منازل أبي طالب وغيره، وتؤول بمعنى أنه باع منازل بني هاشم حين هاجروا. ومن الحجة لتملك أهلها دورهم أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه اشترى من صفوان بن أمية دارا للسجن بأربعة آلاف، ويصح مع ذلك أن يكون الاستواء في وقت الموسم للضرورة والحاجة فيخرج الأمر حينئذ عن الاعتبار بالعنوة والصلح.

وقوله تعالى: "بإلحاد"، قال أبو عبيدة : الباء زائدة، ومنه قول الشاعر:


بواد يمان ينبت الشث صدره وأسفله بالمرخ والشبهان

[ ص: 234 ] ومنه قول الأعشى :


ضمنت برزق عيالنا أرماحنا      ............................


وهذا كثير. ويجوز أن يكون التقدير: ومن يرد فيه الناس بإلحاد.

و "الإلحاد": الميل، وهذا الإلحاد والظلم يجمع جميع المعاصي من الكفر إلى [ ص: 235 ] الصغائر، فلعظم حرمة المكان توعد الله تعالى على نية السيئة فيه، ومن نوى سيئة ولم يعملها لم يحاسب بذلك إلا في مكة ، هذا قول ابن مسعود رضي الله تعالى عنه وجماعة من الصحابة وغيرهم، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: الإلحاد في هذه الآية: الشرك، وقال أيضا; وقال عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما: وقول "لا والله وبلى والله" بمكة من الإلحاد، وقال حبيب بن أبي ثابت : الحكرة بمكة من الإلحاد بالظلم.

قال القاضي أبو محمد رحمه الله :

والعموم يأتي على هذا كله.

وقرأت فرقة: "ومن يرد" من الورود، حكاه الفراء ، والأول أبين وأعم وأمدح للبقعة. و "من" شرط جازمة للفعل، وذلك منع من عطفها على "الذين" والله المستعان.

التالي السابق


الخدمات العلمية