الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                      صفحة جزء
                                                      [ أقسام الإنشاء ] إذا علمت هذا ، فاعلم أنهم اتفقوا على أن أقسام الإنشاء : القسم ، والأوامر والنواهي والترجي ، والتمني والعرض والتحضيض ، والفرق بين هذين الأخيرين : أن العرض طلب بلين ، بخلاف التحضيض ، والفرق بين الترجي والتمني أن الترجي لا يكون في المستحيلات ، والتمني يكون فيها وفي الممكنات ، وقال التنوخي في الأقصى القريب " : المتمنى يكون متشوفا للنفس ، والمرجو قد لا يكون كذلك ، ويكون المرجو متوقعا ، والمتمنى قد لا يكون كذلك ، فالترجي أعم من التمني من وجه ، وذكر الزمخشري أن الاستعطاف نحو : بالله هل قام زيد ؟ قسم ، وقال ابن النحاس : الصحيح أنه ليس بقسم ; لكونه ليس خبرا . [ ص: 91 ]

                                                      وأما النداء نحو يا زيد ، فاتفقوا على أنه إنشاء ، لكن اختلفوا : فقيل : فيه فعل مضمر ، تقديره أنادي ، أو الحرف وحده مفيد للنداء . فقيل على الأول : لو كان الفعل مضمرا لقبل التصديق والتكذيب ، وأجاب المبرد بأن الفعل مضمر ، ولا يلزم قبوله لهما ; لأنه إنشاء ، والإنشاء لا يقبلهما ، واختلفوا في صيغ العقود كما سبق في مباحث اللغة ، ومما لم يسبق أن فصل الخطاب في ذلك كما قال بعضهم أن لهذه الصيغ نسبتين : نسبة إلى متعلقاتها الخارجية ، وهي من هذه الجهة إنشاءات محضة ، ونسبة إلى قصد المتكلم وإرادته ، وهي من هذه الجهة خبر عما قصد إنشاؤه ، فهي إخبارات بالنظر إلى معانيها الذهنية ، وإنشاءات بالنظر إلى متعلقاتها الخارجية ، وعلى هذا فإنما لم يحسن أن يقابل بالصدق والكذب ، وإن كانت أخبارا ; لأن متعلق التصديق والتكذيب النفي والإثبات ، ومعناهما مطابقة الخبر لمخبره أو عدم مطابقته ، وهناك المخبر عنه حصل بالخبر حصول المسبب لسببه ، فلا يتصور فيه تصديق ولا تكذيب ; وإنما يتصور التصديق والتكذيب في خبر لا يحصل مخبره ولم يقع به ، كقولك : قام زيد .

                                                      قال ابن الحاجب في كتبه النحوية : وهي مسلوبة الدلالة على الزمان ، وخالفه ابن مالك ، فقال : وهي ماضية اللفظ حاضرة المعنى ، ومن الإنشاءات الشرعية الظهار ، كما قاله الرافعي في كتاب الظهار ، وقيل في تقريره : لو كان خبرا لما أحدث حكما ، وحكى الرافعي في الفصل الثاني في التعلق بالمشيئة من كتاب الطلاق وجها أنه إخبار ، وهو الذي صرح به الغزالي في الوجيز " ونصره القرافي ، وغلط الأول ; لأن الله تعالى كذبهم بقوله : { وإنهم ليقولون منكرا من القول وزورا } [ ص: 92 ] وبقوله : { ما هن أمهاتهم } وقرره بعضهم بأن ثم ألفاظا أبقاها الشارع على مدلولها اللغوي ، ولكن من قالها يلزم بأمر ، فإذا قال : أنت علي كظهر أمي ، فهو باق على وضعه الأصلي ، وذلك كذب ، ولهذا أسماه الله : زورا ، وحكم الله فيمن كذب هذا الكذب الكفارة عند العود ، وكانت " علي حرام " باق على موضوعه ، وهو كذب ، وحكم الله فيمن قاله عندنا كفارة اليمين ، وليس ذلك كبعت ، واشتريت . فإن الشرع وضعهما لإحداث ما دلا عليه ، فالألفاظ ثلاثة : نحو : قام زيد ، وذلك خبر من كل وجه ، ونحو : بعت ، وذلك إنشاء محض ، ونحو : أنت علي كظهر أمي ، وذلك خبر . ومن الإنشاءات الشرعية الطلاق على المذهب .

                                                      ولا يقوم الإقرار مقامه ، نعم يؤاخذ ظاهرا بما أقر به ، وبعضهم جعل الإقرار على صيغته إنشاء في صور : منها إذا أقر بالطلاق ينفذ ظاهرا لا باطنا . وحكي وجه أنه يصير إنشاء حتى يحرم به باطنا . قال الإمام : وهو تلبيس ، فإن الإقرار والإنشاء يتنافيان ، فذلك إخبار عن ماض ، وهذا إحداث في الحال ، وذلك يدخله الصدق والكذب وهذا بخلافه ، ومنها حكم الإمام والقاضي إن كان في معرض الحكم ، فإن لم يكن ، فإن كان في معرض الحكايات والأخبار ، كقوله : لزيد على عمرو كذا ، وفلان طلق زوجته لم يكن حكما ، بل هو كغيره . ذكره الرافعي في باب الإقرار ، فإن قال بعده : أردت الحكم فيتجه الرجوع إليه ، وعلى هذا فإذا شككنا في ذلك لم يكن حكما ; لأن الأصل بقاؤه على الإخبار ، وعدم نقله ، ومنها قول الشاهد : أشهد إنشاء ; لأنه لا يدخله التكذيب شرعا ، وقيل : إخبار ، وقيل : إنشاء تضمن الإخبار عما في النفس ، وكأنه جمع بين القولين . [ ص: 93 ] واختلف أصحابنا في قول الملاعن : أشهد بالله ، هل هو يمين مؤكد بلفظ الشهادة ، أو يمين فيها ثبوت شهادة ، والأصح الأول .

                                                      التالي السابق


                                                      الخدمات العلمية