الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                          باب ما جاء في صلاة الكسوف

                                                                                                          560 حدثنا محمد بن بشار حدثنا يحيى بن سعيد عن سفيان عن حبيب بن أبي ثابت عن طاوس عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صلى في كسوف فقرأ ثم ركع ثم قرأ ثم ركع ثم قرأ ثم ركع ثلاث مرات ثم سجد سجدتين والأخرى مثلها قال وفي الباب عن علي وعائشة وعبد الله بن عمرو والنعمان بن بشير والمغيرة بن شعبة وأبي مسعود وأبي بكرة وسمرة وأبي موسى الأشعري وابن مسعود وأسماء بنت أبي بكر الصديق وابن عمر وقبيصة الهلالي وجابر بن عبد الله وعبد الرحمن بن سمرة وأبي بن كعب قال أبو عيسى حديث ابن عباس حديث حسن صحيح وقد روي عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صلى في كسوف أربع ركعات في أربع سجدات وبه يقول الشافعي وأحمد وإسحق قال واختلف أهل العلم في القراءة في صلاة الكسوف فرأى بعض أهل العلم أن يسر بالقراءة فيها بالنهار ورأى بعضهم أن يجهر بالقراءة فيها كنحو صلاة العيدين والجمعة وبه يقول مالك وأحمد وإسحق يرون الجهر فيها وقال الشافعي لا يجهر فيها وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم كلتا الروايتين صح عنه أنه صلى أربع ركعات في أربع سجدات وصح عنه أيضا أنه صلى ست ركعات في أربع سجدات وهذا عند أهل العلم جائز على قدر الكسوف إن تطاول الكسوف فصلى ست ركعات في أربع سجدات فهو جائز وإن صلى أربع ركعات في أربع سجدات وأطال القراءة فهو جائز ويرى أصحابنا أن تصلى صلاة الكسوف في جماعة في كسوف الشمس والقمر

                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                          ( باب في صلاة الكسوف ) قال الحافظ في الفتح : المشهور في استعمال الفقهاء أن الكسوف للشمس والخسوف للقمر ، واختاره ثعلب ، وذكر الجوهري أنه أفصح ، وقيل : يتعين ذلك ، وحكى عياض عن بعضهم عكسه ، وغلطه لثبوته بالخاء في القرآن ، وقيل : يقال بهما في كل منهما وبه جاءت الأحاديث . ولا شك أن مدلول الكسوف لغة غير مدلول الخسوف ؛ لأن الكسوف التغير إلى سواد ، والخسوف النقصان أي : الذل ، فإذا قيل في الشمس كسفت أو خسفت لأنها تتغير ولحقها النقص ؛ ساغ وكذلك القمر ، ولا يلزم من ذلك أن الكسوف والخسوف مترادفان ، وقيل بالكاف في الابتداء وبالخاء في الانتهاء ، وقيل بالكاف لذهاب جميع الضوء ، وبالخاء لبعضه ، وقيل بالخاء لذهاب كل اللون وبالكاف لتغيره ، انتهى .

                                                                                                          قوله : ( أنه صلى في كسوف فقرأ ثم ركع ثم قرأ ثم ركع ثم قرأ ثم ركع ثم سجد سجدتين إلخ ) أي ركع في كل ركعة ثلاث ركوعات وسجد سجدتين ، والحديث أخرجه أيضا مسلم ولفظه : ثم قرأ ثم ركع ، ثم قرأ ثم ركع ، ثم قرأ ثم ركع ، ثم قرأ ثم ركع ، وفي لفظ له ثمان ركعات في أربع سجدات .

                                                                                                          وأخرج البخاري ومسلم عن ابن عباس ما يدل على أنه -صلى الله عليه وسلم- ركع ركوعين في كل ركعة وسجد سجدتين ولفظهما : فصلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقام قياما طويلا نحوا من قراءة سورة البقرة ثم ركع ركوعا طويلا ، ثم رفع فقام قياما طويلا وهو دون القيام الأول ، ثم ركع ركوعا طويلا وهو دون الركوع الأول ، ثم سجد ثم قام قياما طويلا وهو دون القيام الأول ، ثم ركع ركوعا طويلا وهو دون الركوع الأول ، ثم رفع فقام قياما طويلا وهو دون القيام الأول ، ثم ركع ركوعا طويلا وهو دون الركوع الأول ، ثم سجد ثم انصرف . وحديث ابن عباس هذا الذي رواه البخاري ومسلم أصح وأقوى .

                                                                                                          وأما حديثه الذي رواه الترمذي وحديثه الذي رواه مسلم فهما من طريق حبيب بن أبي ثابت عن طاوس عن ابن عباس ، قال الحافظ في التلخيص : قال ابن حبان في صحيحه : هذا [ ص: 112 ] الحديث ليس بصحيح ؛ لأنه من رواية حبيب بن أبي ثابت عن طاوس ولم يسمعه حبيب من طاوس . وقال البيهقي : حبيب وإن كان ثقة فإنه كان يدلس ولم يبين سماعه فيه من طاوس ، وقد خالفه سليمان الأحول فوقفه ، انتهى ما في التلخيص .

                                                                                                          وقد ثبت أنه -صلى الله عليه وسلم- ركع في كل ركعة من صلاة الكسوف ركوعين وسجد سجدتين من عدة أحاديث صحيحة . قال الرافعي : واشتهرت الرواية عن فعل النبي -صلى الله عليه وسلم- أن في كل ركعتين ركوعين انتهى . قال الحافظ في التلخيص : كذا رواه الأئمة عن عائشة وأسماء بنت أبي بكر وعبد الله بن عمرو بن العاص وابن عباس وجابر وأبي موسى الأشعري وسمرة بن جندب ، انتهى .

                                                                                                          قوله : ( وفي الباب عن علي ، وعائشة ، وعبد الله بن عمرو ، والنعمان بن بشير ، والمغيرة بن شعبة ، وأبي مسعود ، وأبي بكرة ، وسمرة ، وابن مسعود ، وأسماء بنت أبي بكر ، وابن عمر ، وقبيصة الهلالي ، وجابر بن عبد الله ، وأبي موسى ، وعبد الرحمن بن سمرة ، وأبي بن كعب ) ، أما حديث علي فأخرجه أحمد ولفظه : قال : كسفت الشمس فصلى على الناس فقرأ " يس " ونحوها ثم ركع نحوا من قدر سورة . . . . الحديث ، وفيه حتى صلى أربع ركوعات ثم قال : سمع الله لمن حمده ، ثم سجد ثم قام إلى الركعة ، ففعل كفعله في الركعة الأولى ، ثم جلس يدعو ويرغب حتى انجلت الشمس ، ثم حدثهم أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كذلك فعل ، انتهى .

                                                                                                          وقال مسلم في صحيحه بعد رواية حديث ابن عباس بلفظ : صلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين كسفت الشمس ثمان ركعات في أربع سجدات : وعن علي مثل ذلك . ولم يذكر مسلم لفظه .

                                                                                                          وأما حديث عائشة فأخرجه الشيخان وفي آخره : فاستكمل أربع ركعات في أربع سجدات .

                                                                                                          وأما حديث عبد الله بن عمرو فأخرجه الشيخان ولفظه : لما كسفت الشمس على عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- نودي أن الصلاة جامعة فركع النبي -صلى الله عليه وسلم- ركعتين في سجدة ، ثم قام فركع ركعتين في سجدة ثم جلي عن الشمس .

                                                                                                          وأما حديث النعمان بن بشير فأخرجه أبو داود وفيه : فجعل يصلي ركعتين ورواه النسائي بلفظ : فصلوا كأحدث صلاة صليتموها من المكتوبة ركعتين . وأخرجه أحمد والحاكم [ ص: 113 ] وصححه ابن عبد البر وأعله ابن أبي حاتم بالانقطاع كذا في التلخيص الحبير .

                                                                                                          وأما حديث المغيرة بن شعبة فأخرجه الشيخان وفيه : فإذا رأيتموهما فادعوا الله تعالى وصلوا حتى ينجلي .

                                                                                                          وأما حديث أبي مسعود فأخرجه مسلم .

                                                                                                          وأما حديث أبي بكرة فأخرجه البخاري وفيه : فإذا رأيتموهما فصلوا وادعوا حتى ينكشف ما بكم . ورواه ابن حبان والحاكم ولفظهما : فإذا انكسف أحدهما فافزعوا إلى المساجد . وفيه : فصلى بهم ركعتين مثل صلاتكم . وللنسائي : مثل ما تصلون . كذا في التلخيص .

                                                                                                          وأما حديث سمرة فأخرجه الترمذي في الباب الآتي ، وأخرجه أبو داود والنسائي أيضا .

                                                                                                          وأما حديث ابن مسعود فأخرجه البزار والطبراني في الكبير . قال الهيثمي في مجمع الزوائد : فيه حبيب بن حسان وهو ضعيف ولم يذكر لفظه ، بل أحال على حديث أول الباب وهو حديث أبي شريح الخزاعي قال : كسفت الشمس على عهد عثمان فصلى بالناس تلك الصلاة ركعتين وسجد سجدتين في كل ركعة ، قال : ثم انصرف عثمان فدخل داره وجلس عبد الله بن مسعود إلى حجرة عائشة وجلسنا إليه ، فقال : إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يأمر بالصلاة عند كسوف الشمس والقمر ، فإذا رأيتموه قد أصابهما فافزعوا إلى الصلاة الحديث ، رواه أحمد وأبو يعلى والطبراني في الكبير والبزار قال الهيثمي : ورجاله موثقون .

                                                                                                          وأما حديث أسماء بنت أبي بكر فأخرجه الشيخان .

                                                                                                          وأما حديث ابن عمر فأخرجه الشيخان أيضا .

                                                                                                          وأما حديث قبيصة الهلالي فأخرجه أبو داود والنسائي والحاكم بلفظ أنه -صلى الله عليه وسلم- قال : " إذا رأيتم ذلك فصلوها كأحدث صلاة صليتموها من المكتوبة " ، وسكت عنه أبو داود والمنذري ورجاله رجال الصحيح ، كذا في النيل .

                                                                                                          وأما حديث جابر بن عبد الله فأخرجه أحمد ومسلم وأبو داود وفيه فكانت أربع ركعات وأربع سجدات ، وأما حديث أبي موسى فأخرجه الشيخان .

                                                                                                          وأما حديث عبد الرحمن بن سمرة فأخرجه مسلم بلفظ : قال : بينما أنا أرمي بأسهمي في حياة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذ انكسفت الشمس فنبذتهن وقلت : لأنظرن ما يحدث لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- في انكساف الشمس اليوم ، فانتهيت إليه وهو ماد يديه يدعو ويكبر ويحمد ويهلل حتى جلي عن الشمس فقرأ سورتين وركع ركعتين . وأما حديث أبي بن كعب فأخرجه أبو داود وفيه : فقرأ بسورة من الطوال وركع خمس ركعات وسجد سجدتين ثم قام الثانية فقرأ سورة من الطوال وركع خمس ركعات وسجد سجدتين . قال المنذري : في إسناده أبو جعفر واسمه عيسى بن عبد الله بن ماهان الرازي [ ص: 114 ] وفيه مقال ، واختلف فيه قول ابن معين وابن المديني ، انتهى .

                                                                                                          قوله : ( حديث ابن عباس حديث حسن صحيح ) وقد ضعفه ابن حبان والبيهقي وقد تقدم كلامهما ( وقد روي عن ابن عباس عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه صلى في كسوف أربع ركعات في أربع سجدات ) أخرجه الشيخان وقد تقدم لفظه ( وبه يقول الشافعي وأحمد وإسحاق ) وهو قول الجمهور . قال النووي في شرح مسلم : واختلفوا في صفتها ، فالمشهور في مذهب الشافعي أنها ركعتان في كل ركعة قيامان وقراءتان وركوعان ، وأما السجود فسجدتان كغيرهما . قال ابن عبد البر : وهذا أصح ما في هذا الباب وباقي الروايات المخالفة معللة ضعيفة ، وحملوا حديث ابن سمرة بأنه مطلق وهذه الأحاديث تبين المراد به ، انتهى .

                                                                                                          وقال الحافظ ابن تيمية في كتاب " التوسل والوسيلة " في بيان أن تصحيح مسلم لا يبلغ مبلغ تصحيح البخاري ما لفظه : كما روي في حديث الكسوف أن النبي -صلى الله عليه وسلم- صلى بثلاث ركوعات وبأربع ركوعات ، كما روي أنه صلى بركوعين ، والصواب أنه لم يصل إلا بركوعين وأنه لم يصل الكسوف إلا مرة واحدة يوم مات إبراهيم ، وقد بين ذلك الشافعي وهو قول البخاري وأحمد بن حنبل في إحدى الروايتين عنه ، والأحاديث التي فيها الثلاث والأربع فيها أنه صلاها يوم مات إبراهيم ، ومعلوم أنه لم يمت في يومي كسوف ولا كان إبراهيمان ، ومن نقل أنه مات عاشر الشهر فقد كذب . انتهى كلامه .

                                                                                                          قوله : ( فرأى بعضهم أن يسر بالقراءة فيها بالنهار ، ورأى بعضهم أن يجهر بالقراءة فيها كنحو صلاة العيدين والجمعة ) ويجيء دلائل الفريقين ( وبه يقول مالك وأحمد وإسحاق يرون [ ص: 115 ] الجهر فيها ) وهو الراجح عندي ( صح أنه صلى أربع ركعات في أربع سجدات إلخ ) هذا بيان لقوله قد صح عن النبي -صلى الله عليه وسلم- كلتا الروايتين والمراد بالركعات الركوعات ( ويرى أصحابنا ) أي : أصحاب الحديث ( أن يصلي صلاة الكسوف في جماعة في كسوف الشمس والقمر ) أي وإن لم يحضر الإمام الراتب فيؤم لهم بعضهم وبه قال الجمهور ، وعن الثوري إن لم يحضر الإمام صلوا فرادى ، كذا في فتح الباري .

                                                                                                          قلت : وقال الحنفية أيضا بأنه إن لم يحضر إمام الجمعة صلوا فرادى وقالوا : لا جماعة في صلاة خسوف القمر ، ففي شرح الوقاية عند الكسوف يصلي إمام الجمعة بالناس ركعتين ، وإن لم يحضر أي إمام الجمعة صلوا فرادى كالخسوف ، انتهى مختصرا .

                                                                                                          والقول الراجح الظاهر هو ما قال به الجمهور ؛ فإنه قد روى الشيخان من حديث عائشة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال : إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا يخسفان لموت أحد ولا لحياته ، فإذا رأيتم ذلك فصلوا . وفي لفظ : " فافزعوا إلى الصلاة " . وكذلك روياه من حديث ابن عمر ومن حديث أبي مسعود الأنصاري .

                                                                                                          ومعلوم أن صلاته -صلى الله عليه وسلم- في كسوف الشمس كانت بالجماعة ، فالظاهر أن تكون الصلاة في خسوف القمر أيضا بالجماعة . وأما إذا لم يحضر الإمام الراتب فيؤم لهم بعضهم . وأما تعليلهم بأن في الجمع بدون حضور الإمام المأذون له احتمال الفتنة ففيه أنهم إذا اتفقوا على أحد يؤمهم وتراضوا به لا يكون احتمال الفتنة .

                                                                                                          [ ص: 116 ]



                                                                                                          الخدمات العلمية