الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                              6078 [ ص: 442 ] 13 - باب المكثرون هم المقلون

                                                                                                                                                                                                                              وقوله تعالى: من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم إلى قوله ما كانوا يعملون [هود: 15 - 16].

                                                                                                                                                                                                                              6443 - حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا جرير، عن عبد العزيز بن رفيع، عن زيد بن وهب، عن أبي ذر - رضي الله عنه - قال: خرجت ليلة من الليالي فإذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يمشي وحده وليس معه إنسان. قال: فظننت أنه يكره أن يمشي معه أحد. قال: فجعلت أمشي في ظل القمر فالتفت، فرآني فقال: "من هذا؟". قلت: أبو ذر، جعلني الله فداءك. قال: "يا أبا ذر تعاله". قال: فمشيت معه ساعة، فقال: "إن المكثرين هم المقلون يوم القيامة، إلا من أعطاه الله خيرا، فنفح فيه يمينه وشماله وبين يديه ووراءه، وعمل فيه خيرا". قال: فمشيت معه ساعة، فقال لي: "اجلس ها هنا". قال: فأجلسني في قاع حوله حجارة، فقال لي: "اجلس ها هنا حتى أرجع إليك". قال: فانطلق في الحرة حتى لا أراه، فلبث عني فأطال اللبث، ثم إني سمعته وهو مقبل وهو يقول: "وإن سرق وإن زنى". قال: فلما جاء لم أصبر حتى قلت: يا نبي الله، جعلني الله فداءك، من تكلم في جانب الحرة؟ ما سمعت أحدا يرجع إليك شيئا. قال: "ذلك جبريل - عليه السلام - عرض لي في جانب الحرة، قال: بشر أمتك أنه من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة، قلت: يا جبريل وإن سرق وإن زنى؟! قال: نعم. قال: قلت: وإن سرق وإن زنى؟! "قال: نعم، وإن شرب الخمر".

                                                                                                                                                                                                                              قال النضر: أخبرنا شعبة، وحدثنا حبيب بن أبي ثابت والأعمش وعبد العزيز بن رفيع، حدثنا زيد بن وهب بهذا. قال أبو عبد الله: حديث أبي صالح، عن أبي الدرداء مرسل لا يصح، إنما أردنا للمعرفة، والصحيح حديث أبي ذر. قيل لأبي عبد الله: حديث عطاء بن يسار، عن أبي الدرداء؟ قال: مرسل أيضا لا يصح، والصحيح حديث أبي ذر. وقال: اضربوا على حديث أبي الدرداء هذا. إذا مات قال: لا إله إلا الله. عند الموت. [انظر: 1237 - مسلم: 94 سيأتي بعد 991 برقم (33) - فتح: 11 \ 260].

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 443 ]

                                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 443 ] ثم ذكر حديث زيد بن وهب، عن أبي ذر - رضي الله عنه - قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إن المكثرين هم المقلون يوم القيامة، إلا من أعطاه الله خيرا، فنفح فيه يمينه وشماله وبين يديه ووراءه، وعمل فيه خيرا" الحديث بطوله، وفي آخره: "وإن زنى وإن سرق، وإن شرب الخمر".

                                                                                                                                                                                                                              ثم قال: قال النضر: ثنا شعبة، ثنا حبيب بن أبي ثابت والأعمش وعبد العزيز بن (رفيع)، ثنا زيد بن وهب بهذا. قال أبو عبد الله: حديث أبي صالح، عن أبي الدرداء مرسل لا يصح، إنما أردنا للمعرفة، والصحيح حديث أبي ذر. قيل لأبي عبد الله: حديث عطاء بن يسار، عن أبي الدرداء؟ قال: مرسل أيضا لا يصح، والصحيح حديث أبي ذر. وقال: اضربوا على حديث أبي الدرداء هذا. إذا مات قال: لا إله إلا الله. عند الموت.

                                                                                                                                                                                                                              الشرح:

                                                                                                                                                                                                                              أما الآية فقال فيها سعيد بن جبير: من عمل عملا يريد به غير الله جوزي عليه في الدنيا. (ومنه: قصة القارئ والمتصدق والمجاهد. وعن أنس: هم اليهود والنصارى إن أعطوا سائلا أو وصلوا رحما عجل لهم جزاء ذلك بتوسعة في الرزق وصحة في البدن. وقيل: هم الذين جاهدوا من المنافقين مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأسهم لهم من الغنائم. وقال الضحاك: يعني: المشركين إذا عملوا عملا جوزوا عليه في الدنيا). وهذا أبين; لقوله تعالى: أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار [هود: 16] ونقله ابن بطال عن أهل التأويل، فقال عنهم: هي عامة في اللفظ خاصة

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 444 ] بالكفار بدليل هذه الآية; وذكرها البخاري هنا لتحذير المؤمنين من مشابهة أفعال الكافرين في بيعهم الآخرة الباقية بزينة الحياة الدنيا الفانية، فيدخلون في معنى قوله: أذهبتم طيباتكم الآية [الأحقاف: 20].

                                                                                                                                                                                                                              نوف : نوصل إليهم أجور أعمالهم كاملة وافية من غير بخس، وهي ما يرزقون فيها من الصحة والرزق، وقرئ: (يوف) بالياء على أن الفعل لله، وبالتاء على أن البناء للمفعول، ويوفي بالتخفيف وإثبات الياء; لأن الشرط وقع ماضيا. وحبط في الآخرة ما صنعوه أو صنيعهم يعني: لم يكن لهم ثواب; لأنهم لا يريدون به الآخرة.

                                                                                                                                                                                                                              وباطل ما كانوا يعملون أي: عملهم في نفسه باطلا. وقرئ: (وبطل) على الفعل. وعن عاصم: (وباطلا) قراءة بالنصب أي: باطل كانوا يعملون، ويجوز أن يكون بمعنى المصدر على وبطل بطلانا ما كانوا يعملون.

                                                                                                                                                                                                                              (فصل):

                                                                                                                                                                                                                              وقوله: (وقال النضر، أنا شعبة..) إلى آخره، قال الإسماعيلي: ليس في حديث شعبة قصة المكثرين والمقلين. إنما فيه قصة: من مات لا يشرك بالله شيئا، والعجب من أبي عبد الله كيف أطلق فيه الكلام، ثم ساقه (من حديث) الحسن: ثنا حميد -يعني:

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 445 ] ابن زنجويه-
                                                                                                                                                                                                                              حدثنا النضر بن شميل به: "إن جبريل أتاني، فبشرني أن من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة" قلت: "وإن زنى وإن سرق؟ " قال: "وإن زنى وإن سرق".

                                                                                                                                                                                                                              قال سليمان: وإنما يروى هذا الحديث عن أبي الدرداء، قال: أما أنا فإنما سمعته من أبي ذر أخبرنيه يحيى بن محمد الجياني، ثنا عبد الله بن معاذ، ثنا أبي، ثنا (شعبة)، عن حبيب. وبلال والأعمش وعبد العزيز المكي سمعوا زيد بن وهب، عن أبي ذر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الحديث، قال: ورواه أبو داود عن شعبة فذكرهم ولم يذكر بلالا ولم يزد على هذه القصة. ثم ساق من حديث أبي داود: ثنا شعبة، عن بلال وهو ابن مرداس، ويقال: ابن معاذ، وتفرد بهذا الحديث عنه. ورواه شعبة أيضا عن المعرور بن سويد سمع أبا ذر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مثل قصة من مات لا يشرك بالله شيئا ثم ساقه بإسناده.

                                                                                                                                                                                                                              وقوله: (وقال أبو عبد الله: حديث أبي صالح..) إلى آخره، وقد أخرجه النسائي بإسناد صحيح من حديث ابن إسحاق عن عيسى بن مالك، عن زيد، عن أبي الدرداء.

                                                                                                                                                                                                                              ولما ذكر الدارقطني رواية الحسن وعيسى مع رواية من رواه عن أبي ذر قال: يشبه أن يكون القولان صحيحين.

                                                                                                                                                                                                                              وقوله: (وحديث عطاء بن يسار مرسل)، قد أخرجه الطبراني بإسناد جيد مصرحا بسماعه منه: أخبرني أبو الدرداء أنه - عليه السلام - قال.. فذكره، ثم ساقه من حديث محمد بن سعد بن مالك، عن أبي الدرداء قال رسول الله

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 446 ] - صلى الله عليه وسلم -.. فذكره. وأخرجه أبي محمد بن سعد، وأحذرته أن يكون ابن أبي وقاص.

                                                                                                                                                                                                                              قال: وثنا معاذ بن المثنى، ثنا ابن المديني، ثنا يحيى بن سعيد القطان، عن نعيم بن حكيم، عن أبي مريم، عن أبي الدرداء أظنه مرفوعا.. فذكره. وهذا إسناد جيد، وأخرجه من حديث عمران بن داود عن قتادة، عن سالم بن أبي الجعد، عن معدان بن أبي طلحة، عن أبي الدرداء. ومن حديث بقية، عن صفوان بن عمرو قال: حدثني عبد الرحمن بن جبير بن نفير وشريح بن عبيد، عن عمرو بن الأسود، عن أبي الدرداء.

                                                                                                                                                                                                                              وذكر الدارقطني في حديث الأعمش، عن زيد بن وهب عنه: إن صحت فهي تقدح في صحته، وهي رواية جرير بن حازم عن الأعمش فقال رجل: عن (زيد) بن وهب عن أبي ذر.

                                                                                                                                                                                                                              فصل:

                                                                                                                                                                                                                              هذا الحديث يدل على أن كثرة المال يؤول بصاحبه إلى الإقلال من الحسنات يوم القيامة إذا لم ينفقه في طاعة الله، فإن أنفقه فيها كان غنيا من الحسنات يوم القيامة.

                                                                                                                                                                                                                              فصل:

                                                                                                                                                                                                                              قد احتج به من فضل الغنى على الفقر; لأنه استثنى فيه من المكثرين من نفع بالمال عن يمينه وشماله وبين يديه، وقد اختلف في هذه المسألة، وسيأتي في باب: من فضل الفقر بعد.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 447 ] فصل:

                                                                                                                                                                                                                              وأبو ذر: اسمه جندب بن جنادة. وأبو الدرداء: عويمر.

                                                                                                                                                                                                                              فصل:

                                                                                                                                                                                                                              قوله: ("يا أبا ذر تعال"). وروي: "تعاله" أي: جئ، وألحق الهاء ليقف على ساكن; لأن العرب لا تقف بمتحرك، وإذا وقف على (اللام) جمع بين ساكنين، قاله الداودي.

                                                                                                                                                                                                                              ومعنى (نفح) بالحاء المهملة: أعطى منه، وصرفه في وجوه البر، قال صاحب "الأفعال": نفح بالعطاء: أعطى، والله نفاح بالخيرات.

                                                                                                                                                                                                                              ولصاحب "العين": نفح بالمال والسيف، ونفحات المعروف: دفعه. ونفحت الدابة: رمت بحافرها الأرض.

                                                                                                                                                                                                                              وقوله: (ووراءه) قيل: معناه: يوصي فيه ويبقيه لوارثه أو حبس يحبسه، والحرة: أرض بركتها حجارة سود كأنها أحرقت بالنار، قاله الجوهري وابن فارس، وعبارة ابن الأعرابي: هي حجارة سود بين جبلين. والقاع: المستوي من الأرض.

                                                                                                                                                                                                                              وقوله: ("وإن زنى وإن سرق") تمثيل يحتمل معنيين: أحدهما: أن هذه الأمة يغفر لجميعها، والثاني: يدخل الجنة من عوقب ببعض ذنوبه فأدخل النار وأخرج منها بإيمانه، وإن عوفوا جميعا كان (الذي) جاء فيهم الخبر أنهم يخرجون من النار المؤمنين غير هذه الأمة.




                                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية