الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
باب في أكل لحوم الهدايا أكل لحوم الهدايا قال الله عز وجل : ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام فكلوا منها قال أبو بكر : ظاهره يقتضي إيجاب الأكل ، إلا أن السلف متفقون على أن الأكل منها ليس على الوجوب ، وذلك لأن قوله : على ما رزقهم من بهيمة الأنعام لا يخلو من أن يكون المراد به الأضاحي وهدي المتعة والقران والتطوع أو الهدايا التي تجب من جنايات تقع من المحرم في الإحرام نحو جزاء الصيد وما يجب على اللابس والمتطيب وفدية الأذى وهدي الإحصار ونحوها ، فأما دماء الجنايات فمحظور عليه الأكل منها ، وأما دم القران والمتعة والتطوع فلا خلاف أيضا أن الأكل منها ليس بواجب ؛ [ ص: 70 ] لأن الناس في دم القران والمتعة على قولين منهم من لا يجيز الأكل منه ومنهم من يبيح الأكل منه ولا يوجبه ، ولا خلاف بين السلف ومن بعدهم من الفقهاء أن قوله : فكلوا منها ليس على الوجوب ، وقد روي عن عطاء والحسن وإبراهيم ومجاهد قالوا : " إن شاء أكل وإن شاء لم يأكل " قال مجاهد : إنما هو بمنزلة قوله تعالى : وإذا حللتم فاصطادوا وقال إبراهيم : كان المشركون لا يأكلون من البدن حتى نزلت : فكلوا منها فإن شاء أكل وإن شاء لم يأكل . وروى يونس بن بكير عن أبي بكر الهذلي عن الحسن قال : كان الناس في الجاهلية إذا ذبحوا لطخوا بالدم وجه الكعبة وشرحوا اللحم ووضعوه على الحجارة وقالوا لا يحل لنا أن نأكل شيئا جعلناه لله حتى تأكله السباع والطير ، فلما جاء الإسلام جاء الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : شيئا كنا نصنعه في الجاهلية ألا نصنعه الآن فإنما هو لله ؟ فأنزل الله تعالى : فكلوا منها وأطعموا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا تفعلوا فإن ذلك ليس لله . وقال الحسن : فلم يعزم عليهم الأكل فإن شئت فكل وإن شئت فدع ، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أكل من لحم الأضحية .

قال أبو بكر : وظاهر الآية يقتضي أن يكون المذكور في هذه الآية من بهيمة الأنعام التي أمرنا بالتسمية عليها هي دم القران والمتعة ، وأقل أحوالها أن تكون شاملة لدم القران والمتعة وسائر الدماء وإن كان الذي يقتضيه ظاهره دم المتعة والقران ، والدليل على ذلك قوله تعالى في نسق التلاوة : فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم وليطوفوا بالبيت العتيق ولا دم تترتب عليه هذه الأفعال إلا دم المتعة والقران ؛ إذ كان سائر الدماء جائزا له فعلها قبل هذه الأفعال وبعدها ، فثبت أن المراد بها دم القران والمتعة . وزعم الشافعي أن دم المتعة والقران لا يؤكل منهما ، وظاهر الآية يقتضي بطلان قوله .

وقد روى جابر وأنس وغيرهما : أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قارنا في حجة الوداع .

وروى جابر أيضا وابن عباس : أن النبي صلى الله عليه وسلم أهدى في حجة الوداع مائة بدنة نحر بيده منها ستين وأمر ببقيتها فنحرت وأخذ من كل بدنة بضعة فجمعت في قدر وطبخت وأكل منها وتحسى من المرقة فأكل صلى الله عليه وسلم من دم القران . وأيضا لما ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قارنا وأنه لم يكن ليختار من الأعمال إلا أفضلها فثبت أن القران أفضل من الإفراد وأن الدم الواجب به إنما هو نسك وليس بجبران لنقص أدخله في الإحرام ، ولما كان نسكا جاز الأكل منه كما يأكل من الأضاحي [ ص: 71 ] والتطوع . ويدل على أنه كان قارنا أن حفصة قالت : يا رسول الله ما بال الناس حلوا ولم تحل أنت من عمرتك ؟ فقال : إني سقت الهدي فلا أحل إلا يوم النحر ، ولو استقبلت من أمري ما استدبرته ما سقت الهدي ولجعلتها عمرة ، فلو كان هديه تطوعا لما منعه الإحلال ؛ لأن هدي التطوع لا يمنع الإحلال . فإن قيل : إن كان النبي صلى الله عليه وسلم قارنا فقد كان إحرام الحج يمنعه الإحلال ، فلا تأثير للهدي في ذلك . قيل له : لم يكن إحرام الحج مانعا في ذلك الوقت من الإحلال قبل يوم النحر ؛ لأن فسخ الحج كان جائزا ، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه الذين أحرموا بالحج أن يتحللوا بعمل عمرة ، فكانوا في ذلك الوقت بمنزلة المتمتع الذي يحرم بالعمرة مفردا بها ، فلم يكن يمتنع الإحلال فيما بينها وبين إحرام الحج إلا أن يسوق الهدي فيمنعه ذلك من الإحلال ، وهذه كانت حال النبي صلى الله عليه وسلم في قرانه وكان المانع له من الإحلال سوق الهدي دون إحرام الحج ، وفي ذلك دليل على صحة ما ذكرنا من أن هدي النبي صلى الله عليه وسلم كان هدي القران لا التطوع ؛ إذ لا تأثير لهدي التطوع في المنع من الإحلال بحال .

ويدل على أنه كان قارنا قوله صلى الله عليه وسلم : أتاني آت من ربي في هذا الوادي المبارك وقال قل حجة وعمرة ، ويمتنع أن يخالف ما أمره به ربه . ورواية ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم أفرد الحج لا يعارض رواية من روى القران ، وذلك لأن راوي القران قد علم زيادة إحرام لم يعلمه الآخر فهو أولى ، وجائز أن يكون راوي الإفراد سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول : لبيك اللهم لبيك ولم يسمعه يذكر العمرة ، أو سمعه ذكر الحج دون العمرة وظن أنه مفرد ، إذ جائز للقارن أن يقول لبيك بحجة دون العمرة وجائز أن يقول لبيك بعمرة وجائز أن يلبي بهما معا ، فلما كان ذلك سائغا وسمعه بعضهم يلبي بالحج وبعضهم سمعه يلبي بحج وعمرة كانت رواية من روى الزيادة أولى . وأيضا فإنه يحتمل أن يريد بقوله أفرد الحج أفعال الحج ، وأفاد أنه أفرد أفعال الحج وأفرد أفعال العمرة ولم يقتصر للإحرامين على فعل الحج دون العمرة ، وأبطل بذلك قول من يجيز لهما طوافا واحدا وسعيا واحدا .

وقد روي عن جماعة من الصحابة والتابعين الأكل من هدي القران والمتعة .

وروى عطاء عن ابن عباس قال : " من كل الهدي يؤكل إلا ما كان من فداء أو جزاء أو نذر " .

وروى عبيد الله بن عمر قال : " لا يؤكل من جزاء الصيد والنذر ويؤكل مما سوى ذلك " . وروى هشام عن الحسن وعطاء قالا : " لا يؤكل من الهدي كله إلا الجزاء " . فهؤلاء الصحابة والتابعون قد أجازوا [ ص: 72 ] الأكل من دم القران والتمتع ، ولا نعلم أحدا من السلف حظره .

التالي السابق


الخدمات العلمية