الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ذكر حملهم إلى العراق

ولما حج المنصور سنة أربع وأربعين ومائة أرسل محمد بن عمران بن إبراهيم بن محمد بن طلحة ، ومالك بن أنس إلى بني الحسن ، وهم في الحبس ، يسألهم أن يدفعوا إليه محمدا ، وإبراهيم ابني عبد الله ، فدخلا عليهم وعبد الله قائم يصلي ، فأبلغاهم الرسالة ، فقال الحسن بن الحسن أخو عبد الله : هذا عمل ابني المشومة ! أما والله ما هذا عن رأينا ولا عن ملإ منا ولنا فيه حكم .

فقال له أخوه إبراهيم : علام تؤذي أخاك في ابنيه وتؤذي ابن أخيك في أمه ؟ ثم فرغ عبد الله من صلاته فأبلغاه الرسالة ، فقال : لا والله ( لا أرد عليكما حرفا ، إن أحب ) أن يأذن لي فألقاه فليفعل . فانطلق الرسولان فأبلغا المنصور ، فقال : أراد أن يسحرني ، لا والله لا ترى عينه عيني حتى يأتيني بابنيه .

وكان عبد الله لا يحدث أحدا قط إلا فتله عن رأيه .

[ ص: 105 ] ثم سار المنصور لوجهه ، فلما حج ورجع لم يدخل المدينة ومضى إلى الربذة ، فخرج إليه رياح إلى الربذة ، فرده إلى المدينة ، وأمره بإشخاص بني الحسن إليه ومعهم محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان أخو بني الحسن لأمهم ، فرجع رياح فأخذهم ، وسار بهم إلى الربذة ، وجعلت القيود والسلاسل في أرجلهم وأعناقهم ، وجعلهم في محامل بغير وطاء .

ولما خرج بهم رياح من المدينة وقف جعفر بن محمد من وراء ستر يراهم ويرونه وهو يبكي ودموعه تجري على لحيته وهو يدعو الله ، ثم قال : والله لا يحفظ الله حرميه بعد هؤلاء .

ولما ساروا كان محمد وإبراهيم ابنا عبد الله يأتيان كهيئة الأعراب فيسايران أباهما ويستأذنانه بالخروج ، ويقول : لا تعجلا حتى يمكنكما ذلك . وقال لهما : إن منعكما أبو جعفر ، يعني المنصور ، أن تعيشا كريمين فلا يمنعكما أن تموتا كريمين .

فلما وصلوا إلى الربذة أدخل محمد بن عبد الله العثماني على المنصور وعليه قميص وإزار رقيق ، فلما وقف بين يديه قال : إيها يا ديوث ! قال محمد : سبحان الله ! لقد عرفتني بغير ذلك صغيرا وكبيرا ! قال : فممن حملت ابنتك رقية ؟ وكانت تحت إبراهيم بن عبد الله بن الحسن ، وقد أعطيتني الأيمان أن لا تغشني ولا تمالئ علي عدوا ، ثم أنت ترى ابنتك حاملا وزوجها غائب ، وأنت بين أن تكون حانثا أو ديوثا ! وايم الله إني لأهم برجمها ! قال محمد : أما أيماني فهي علي إن كنت دخلت لك في أمر غش علمته ، وأما ما رميت به هذه الجارية فإن الله قد أكرمها بولادة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إياها ، ولكني ظننت حين ظهر حملها أن زوجها ألم بها على حين غفلة .

فاغتاظ المنصور من كلامه ، وأمر بشق ثيابه عن ( إزاره فحكي أن عورته قد كشفت ) ، ثم أمر به فضرب خمسين ومائة سوط ، فبلغت منه كل مبلغ والمنصور يفتري عليه لا يني ، فأصاب سوط منها وجهه ، فقال : ويحك اكفف عن وجهي ! فإن له حرمة برسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأغرى المنصور فقال للجلاد : الرأس الرأس ! فضرب على رأسه نحوا من ثلاثين سوطا ، [ ص: 106 ] وأصاب إحدى عينيه سوط فسالت ، ثم أخرج وكأنه زنجي من الضرب ، وكان من أحسن الناس ، وكان يسمى الديباج لحسنه .

فلما أخرج وثب إليه مولى له فقال : ألا أطرح ردائي عليك ؟ قال : بلى جزيت خيرا ! والله إن لشفوف إزاري أشد علي من الضرب .

وكان سبب أخذه أن رياحا قال للمنصور : يا أمير المؤمنين أما أهل خراسان فشيعتك ، وأما أهل العراق فشيعة آل أبي طالب ، وأما أهل الشام فوالله ما علي عندهم إلا كافر ، ولكن محمد بن عبد الله العثماني لو دعا أهل الشام ما تخلف عنه منهم أحد . فوقعت في نفس المنصور ، فأمر به فأخذ معهم ، وكان حسن الرأي فيه قبل ذلك .

ثم إن أبا عون كتب إلى المنصور : إن أهل خراسان قد تعاشوا عني وطال عليهم أمر محمد بن عبد الله . فأمر المنصور بمحمد بن عبد الله بن عمر العثماني فقتل ، وأرسل رأسه إلى خراسان ، وأرسل معه من يحلف أنه رأس محمد بن عبد الله وأن أمه فاطمة بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلما قتل قال أخوه عبد الله بن الحسن : إنا لله وإنا إليه راجعون ! إن كنا لنأمن به في سلطانهم ثم قد قتل منا في سلطاننا !

ثم إن المنصور أخذهم وسار بهم من الربذة فمر بهم على بغلة شقراء ، فناداه عبد الله بن الحسن : يا أبا جعفر ما هكذا فعلنا بأسرائكم يوم بدر ! فأخسأه أبو جعفر ، وثقل عليه ومضى .

فلما قدموا إلى الكوفة ، قال عبد الله لمن معه : أما ترون في هذه القرية من يمنعنا من هذا الطاغية ؟ قال : فلقيه الحسن وعلي ابنا أخيه مشتملين على سيفين فقالا له : قد جئناك يا ابن رسول الله فمرنا بالذي تريد . قال : قد قضيتما ما عليكما ولن تغنيا في هؤلاء شيئا ، فانصرفا .

ثم إن المنصور أودعهم بقصر ابن هبيرة شرقي الكوفة ، وأحضر المنصور محمد بن إبراهيم بن الحسن ، وكان أحسن الناس صورة ، فقال له : أنت الديباج الأصغر ؟ قال : نعم . [ ص: 107 ] قال : لأقتلنك قتلة لم أقتلها أحدا ! ثم أمر به فبني عليه أسطوانة وهو حي فمات فيها .

وكان إبراهيم بن الحسن أول من مات منهم ، ثم عبد الله بن الحسن فدفن قريبا من حيث مات ، فإن يكن في القبر الذي يزعم الناس أنه قبره وإلا فهو قريب منه . ثم مات علي بن الحسن .

وقيل : إن المنصور أمر بهم فقتلوا ، وقيل : بل أمر بهم فسقوا السم ، وقيل : وضع المنصور على عبد الله من قال له إن ابنه محمدا قد خرج فقتل فانصدع قلبه فمات ، والله أعلم .

ولم ينج منهم إلا سليمان وعبد الله ابنا داود بن الحسن بن الحسن بن علي ، وإسحاق وإسماعيل ابنا إبراهيم بن الحسن بن الحسن ، وجعفر بن الحسن ، وانقضى أمرهم .

التالي السابق


الخدمات العلمية