الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قوله عز وجل:

قل يا أيها الناس إنما أنا لكم نذير مبين فالذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة ورزق كريم والذين سعوا في آياتنا معاجزين أولئك أصحاب الجحيم وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته والله عليم حكيم ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم وإن الظالمين لفي شقاق بعيد وليعلم الذين أوتوا العلم أنه الحق من ربك فيؤمنوا به فتخبت له قلوبهم وإن الله لهاد الذين آمنوا إلى صراط مستقيم

المعنى: قل يا محمد : إنما أنا نذير عذاب الله، ليس إلي أن أعجل عذابا ولا أن أؤخره عن وقته، ثم قسم حالة المؤمنين والكافرين بأن للمؤمنين سترة ذنوبهم ورزقه إياهم في الجنة، و"الكريم" صفة نفي المذام، كما تقول: ثوب كريم، وبأن للكافرين المعاجزين عذاب الجحيم، وهذا كله مما أمره أن يقوله، أي: هذا معنى رسالتي لا ما تتمنون أنتم.

وقوله تعالى: "سعوا" معناه: تحيلوا وكادوا، من السعاية، و"الآيات": آيات القرآن، أي: كادوا بالتكذيب وسائر أقوالهم. وقرأت فرقة: "معاجزين"، معناه: مغالبين، كأنهم طلبوا عجز صاحب الآيات، والآيات تقتضي تعجيزهم، فصارت مفاعلة، وعبر بعض الناس في تفسير "معاجزين" بظانين أنهم يغلبون الله تعالى.

قال القاضي أبو محمد رحمه الله :

وهذا تفسير خارج عن اللفظة. وقرأت فرقة: "معجزين" بغير ألف وبشد الجيم، ومعناه: معجزين الناس عن الإيمان، أي: جاعلوهم بالتثبيط عجزة عن الإيمان. وقال أبو علي : "معجزين" معناه: ناسبين أصحاب النبي -رضي الله عنهم- إلى العجز، كما تقول: فسقت فلانا وزنيته، أي: نسبته إلى ذلك.

وقوله تعالى: وما أرسلنا من قبلك الآية تسلية للنبي -صلى الله عليه وسلم- عن النازلة التي ألقى الشيطان فيها في أمنية النبي -صلى الله عليه وسلم.

[ ص: 262 ] و"تمنى" معناه المشهور: أراد وأحب، وقالت فرقة: هو معناها في الآية، والمراد أن الشيطان ألقى ألفاظه بسبب ما تمناه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من مقاربة قومه وكونهم متبعين له، قالوا: فلما تمنى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من ذلك ما لم يقضه الله -تبارك وتعالى- وجد الشيطان السبيل، فحين قرأ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- "النجم" في مسجد مكة وقد حضر المسلمون والمشركون بلغ إلى قوله: أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى ألقى الشيطان "تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهم لترتجى"، فقال الكفار: هذا محمد يذكر آلهتنا بما نريد، وفرحوا بذلك، فلما انتهى إلى السجدة سجد الناس أجمعون إلا أمية بن خلف ، فإنه أخذ قبضة من تراب فرفعها إلى جبهته وقال: يكفيني هذا. قال البخاري : هو أمية بن خلف ، وقال بعض الناس: هو الوليد بن المغيرة ، وقال بعض الناس: هو أبو أحيحة سعيد بن العاصي ، ثم اتصل بمهاجرة الحبشة أن أهل مكة اتبعوا محمدا -صلى الله عليه وسلم- ففرحوا لذلك، وأقبل بعضهم فوجدوا ألقية الشيطان قد نسخت وأهل مكة قد افتتنوا.

وقالت فرقة: "تمنى" معناه: تلا، والأمنية: التلاوة، ومنه قول الشاعر:

[ ص: 263 ]

تمنى كتاب الله أول ليلة وآخرها لاقى حمام المقادر

ومنه قول الآخر:


. . . . . . . . . . . . .     تمنى داود الزبور على رسل

وتأولوا قوله تعالى: "إلا أماني"، أي: إلا تلاوة. وقالت هذه الفرقة في معنى سبب إلقاء الشيطان في تلاوة النبي -صلى الله عليه وسلم- ما تقدم آنفا من ذكر الآلهة.

قال القاضي أبو محمد رحمه الله :

وهذا الحديث الذي فيه: "هن الغرانقة" وقع في كتب التفسير ونحوها، ولم يدخله البخاري ولا مسلم ، ولا ذكره -في علمي- مصنف مشهور، بل يقتضي مذهب أهل الحديث أن الشيطان ألقى، ولا يعينون هذا السبب ولا غيره، ولا خلاف أن إلقاء الشيطان إنما هو لألفاظ مسموعة بها وقعت الفتنة، ثم اختلف الناس في صورة هذا الإلقاء -فالذي في التفاسير- وهو مشهور القول أن النبي -صلى الله عليه وسلم- تكلم بتلك الألفاظ، وأن الشيطان أوهمه ووسوس في قلبه حتى خرجت تلك الألفاظ على لسانه، وروي أنه نزل إليه جبريل -عليه السلام- بعد ذلك فدارسه سورة النجم، فلما قالها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال له جبريل : لم آتك بهذا، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: أفتريت على الله وقلت ما لم يقل لي؟". وجعل يتفجع ويغتم، فنزلت هذه الآية: وما أرسلنا من قبلك من رسول الآية.

قال القاضي أبو محمد -رحمه الله-:

وحدثني أبي -رحمه الله- أنه لقي بالمشرق من شيوخ العلماء والمتكلمين من قال: [ ص: 264 ] هذا لا يجوز على النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو المعصوم في التبليغ، وإنما الأمر أن الشيطان نطق بلفظ أسمعه الكفار عند قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى . وقرب صوته من صوت النبي -صلى الله عليه وسلم- حتى التبس الأمر على المشركين وقالوا: محمد قرأها.

قال القاضي أبو محمد رحمه الله :

و"تمنى" -على هذا التأويل- بمعنى: "تلا" ولا بد، وقد ورد هذا التأويل عن الإمام أبي المعالي -رحمه الله- وغيره.

قال القاضي أبو محمد -رحمه الله-:

والرسول أخص من النبي، وكثير من الأنبياء لم يرسلوا، وكل رسول نبي، [ ص: 265 ] و"النسخ" في هذه الآية: الإذهاب، كما تقول: نسخت الشمس الظل، وليس برفع ما استقر من الحكم.

قال القاضي أبو محمد -رحمه الله-:

وطوف الطبري وأشبع الإسناد في أن إلقاء الشيطان كان على لسان النبي -صلى الله عليه وسلم- واختلفت الروايات في الألفاظ ففي بعضها: "تلك الغرانقة"، وفي بعضها: "تلك الغرانيق"، وفي بعضها: "وإن شفاعتهم"، وفي بعضها: وإن شفاعتهن"، وفي بعضها: "منها الشفاعة ترتجى".

قال القاضي أبو محمد رحمه الله :

والغرانيق: السادة العظام الأقدار، ومنه قول الشاعر:


أهلا بصائدة الغرانق

وقوله تعالى: ليجعل ما يلقي الشيطان الآية. اللام في قوله تعالى: "ليجعل" متعلقة بقوله: فينسخ الله ، و"الفتنة": الامتحان والاختبار، و"الذين في قلوبهم مرض" هم عامة الكفار، و"القاسية قلوبهم" خواص منهم عتاة كأبي جهل ، والنضر ، وعقبة . و"الشقاق": البعد عن الخير، والضلال، والكون في شق غير شق الصلاح، و"بعيد" معناه أنه انتهى بهم وتعمق؛ فرجعتهم منه غير مرجوة.

و الذين أوتوا العلم هم أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم- والضمير في "أنه" عائد على القرآن، و"فتخبت" معناه: تتطامن وتخضع، وهو مأخوذ من الخبت، وهو المطمئن من الأرض. وقرأت فرقة: "لهاد" بغير ياء بعد الدال، وقرأت فرقة: "لهادي" بياء، وقرأت فرقة: "لهاد" بالتنوين وترك الإضافة، وهذه الآية معادلة لقوله تعالى قبل: وإن الظالمين لفي شقاق بعيد .

[ ص: 266 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية