الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
              وأما ما أباحه الله في حال مخصوصة ولم يبحه مطلقا ، فإذا حوله الشرط عن تلك الحال لم يكن الشرط قد حرم ما أحله الله ، وكذلك ما حرمه الله في حال مخصوصة ، ولم يحرمه مطلقا لم يكن الشرط قد أباح ما حرمه الله ، وإن كان بدون الشرط يستصحب حكم الإباحة والتحريم ، لكن فرق بين ثبوت الإباحة والتحريم بالخطاب ، وبين ثبوته بمجرد الاستصحاب .

              فالعقد والشرط يرفع موجب الاستصحاب لكن لا يرفع ما أوجبه كلام الشارع ، وآثار الصحابة توافق ذلك كما قال عمر رضي الله عنه : " [ مقاطع ] الحقوق عند الشروط " .

              [ ص: 276 ] وأما الاعتبار فمن وجوه ، أحدها : أن العقود والشروط من باب الأفعال العادية . والأصل فيها عدم التحريم ، فيستصحب عدم التحريم فيها حتى يدل ذلك على التحريم ، كما أن الأعيان : الأصل فيها عدم التحريم . وقوله : ( وقد فصل لكم ما حرم عليكم ) [ الأنعام : 119 ] عام في الأعيان والأفعال ، وإذا لم يكن حراما لم تكن فاسدة ، [ لأن الفساد إنما ينشأ من التحريم ، وإذا لم تكن فاسدة ] كانت صحيحة .

              وأيضا فليس في الشرع ما يدل على تحريم جنس العقود والشروط ، إلا ما ثبت حله بعينه ، وسنبين إن شاء الله معنى حديث عائشة ، وأن انتفاء دليل التحريم دليل على عدم التحريم . فثبت بالاستصحاب العقلي وانتفاء الدليل الشرعي عدم التحريم ، فيكون فعلها إما حلالا وإما عفوا ، كالأعيان التي لم تحرم .

              وغالب ما يستدل به على أن الأصل في الأعيان عدم التحريم من النصوص العامة والأقيسة الصحيحة والاستصحاب العقلي وانتفاء الحكم لانتفاء دليله ، فإنه يستدل به على عدم تحريم العقود والشروط فيها ، سواء سمي ذلك حلالا أو عفوا على الاختلاف المعروف بين أصحابنا وغيرهم ، فإن ما ذكره الله في القرآن من ذم الكفار على التحريم بغير شرع : منه ما سببه تحريم الأعيان ، ومنه ما سببه تحريم الأفعال . كما كانوا يحرمون على المحرم لبس ثيابه والطواف فيها إذا لم يكن أحمسيا ويأمرونه بالتعري ، إلا أن يعيره أحمسي ثوبه ، ويحرمون عليه الدخول تحت سقف ، كما كان الأنصار يحرمون إتيان الرجل امرأته في فرجها إذا كانت [ مجبية ] ، ويحرمون [ ص: 277 ] الطواف بالصفا والمروة ، وكانوا مع ذلك قد ينقضون العهود التي عقدوها بلا شرع . فأمرهم الله سبحانه في سورة النحل وغيرها بالوفاء بها إلا ما اشتمل على محرم .

              فعلم أن العهود يجب الوفاء بها إذا لم تكن محرمة ، وإن لم يثبت حلها بشرع خاص ، كالعهود التي عقدوها في الجاهلية وأمر بالوفاء بها ، وقد نبهنا على هذه القاعدة فيما تقدم ، وذكرنا أنه لا يشرع إلا ما شرعه الله ولا يحرم إلا ما حرمه الله ؛ لأن الله ذم المشركين الذين شرعوا من الدين ما لم يأذن به الله ، وحرموا ما لم يحرمه الله . فإذا حرمنا العقود والشروط التي تجري بين الناس في معاملاتهم العادية بغير دليل شرعي ، كنا محرمين ما لم يحرمه الله . بخلاف العقود التي تتضمن شرع دين لم يأذن به الله . فإن الله قد حرم أن يشرع من الدين ما لم يأذن به . فلا يشرع عبادة إلا بشرع الله ، ولا يحرم عادة إلا بتحريم الله ، والعقود في المعاملات هي من العادات يفعلها المسلم والكافر ، وإن كان فيها قربة من وجه آخر ، فليست من العبادات التي يفتقر فيها إلى شرع كالعتق والصدقة .

              فإن قيل : العقود تغير ما كان مشروعا ؛ لأن ملك البضع أو المال إذا كان ثابتا على حال ، فعقد عقدا أزاله عن تلك الحال فقد غير ما كان مشروعا ، بخلاف الأعيان التي لم تحرم فإنه لا تغير في إباحتها .

              فيقال : لا فرق بينهما ، وذلك أن الأعيان إما أن تكون ملكا لشخص أو لا تكون . فإن كانت ملكا فانتقالها بالبيع أو غيره لا [ ص: 278 ] يغيرها وهو من باب العقود ، وإن لم تكن ملكا فملكها بالاستيلاء ونحوه : هو فعل من الأفعال مغير لحكمها بمنزلة العقود .

              وأيضا فإنها قبل الزكاة محرمة . فالزكاة الواردة عليها بمنزلة العقد الوارد على المال . فكما أن أفعالنا في الأعيان من الأخذ والزكاة : الأصل فيه الحل ، وإن غير حكم العين . فكذلك أفعالنا في الأملاك في العقود ونحوها : الأصل فيها الحل ، وإن غيرت حكم الملك .

              وسبب ذلك : أن الأحكام الثابتة بأفعالنا كالملك الثابت بالبيع وملك البضع الثابت بالنكاح ، نحن أحدثنا أسباب تلك الأحكام ، والشارع أثبت الحكم لثبوت سببه منا ، لم يثبته ابتداء . كما أثبت إيجاب الواجبات وتحريم المحرمات المبتدأة . فإذا كنا نحن المثبتين لذلك الحكم ، ولم يحرم الشارع علينا رفعه : لم يحرم علينا رفعه . فمن اشترى عينا فالشارع أحلها له وحرمها على غيره ؛ لإثباته سبب ذلك ، وهو الملك الثابت بالبيع . وما لم يحرم الشارع عليه رفع ذلك ، فله أن يرفع ما أثبته على أي وجه أحب ، ما لم يحرمه الشارع عليه . كمن أعطى رجلا مالا : فالأصل أن لا يحرم عليه التصرف فيه ، وإن كان مزيلا للملك الذي أثبته المعطى ما لم يمنع [ منه ] مانع . وهذا نكتة المسألة التي يتبين بها مأخذها ، وهو أن الأحكام الجزئية - من حل هذا المال لزيد وحرمته على عمرو - لم يشرعها الشارع شرعا جزئيا ، وإنما شرعها شرعا كليا ، مثل قوله : ( وأحل الله البيع وحرم الربا ) [ البقرة : 276 ] ، وقوله : ( وأحل لكم ما وراء ذلكم ) [ ص: 279 ] [ النساء : 24 ] ، وقوله : ( فانكحوا ما طاب لكم من النساء ) [ النساء : 3 ] . وهذا الحكم الكلي ثابت ، سواء وجد هذا البيع المعين أو لم يوجد . فإذا وجد بيع معين أثبت ملكها معينا ، فهذا المعين سببه فعل العبد ، فإذا رفعه العبد فإنما رفع ما أثبته هو بفعله ، لا ما أثبته الله من الحكم [ الكلي ، إذ ما أثبته الله من الحكم ] الجزئي إنما هو تابع لفعل العبد سببه فقط لأن ، الشارع أثبته ابتداء .

              وإنما توهم بعض الناس أن رفع الحقوق بالعقود والفسوخ مثل نسخ الأحكام ، وليس كذلك . فإن الحكم المطلق لا يزيله إلا الذي أثبته وهو الشارع . وأما هذا المعين فإنما ثبت ؛ لأن العبد أدخله في المطلق ، فإدخاله في المطلق إليه ، فكذلك إخراجه : إذ الشارع لم يحكم عليه في المعين بحكم أبدا ، مثل أن يقول : هذا الثوب بعه أو لا تبعه ، أو هبه أو لا تهبه ، وإنما [ حكمه ] على المطلق الذي إذا أدخل فيه المعين على حكم المعين .

              فتدبر هذا ، وفرق بين تغيير الحكم المعين الخاص الذي أثبته العبد بإدخاله في المطلق ، وبين تغيير الحكم العام الذي أثبته الشارع عند وجود سببه من العبد . وإذا ظهر أن العقود لا يحرم منها إلا ما حرمه الشارع ، فإنما وجب الوفاء بها لإيجاب الشارع الوفاء بها مطلقا ، إلا ما خصه الدليل ، على أن الوفاء بها من الواجبات التي اتفقت عليها الملل ، بل والعقلاء جميعهم . وقد أدخلها في الواجبات العقلية من قال بالوجوب العقلي ، ففعلها ابتداء لا يحرم إلا بتحريم الشارع ، والوفاء بها وجب لإيجاب الشارع إذا ولإيجاب العقل أيضا .

              التالي السابق


              الخدمات العلمية