الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قوله عز وجل:

لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم والله غفور حليم للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر فإن فاءوا فإن الله غفور رحيم وإن عزموا الطلاق فإن الله سميع عليم

"اللغو": سقط الكلام الذي لا حكم له، ويستعمل في الهجر والرفث وما لا حكم له من الأيمان تشبيها بالسقط من القول، يقال منه: لغا يلغو لغوا، ولغي يلغي لغيا، ولغة القرآن بالواو.

[ ص: 550 ] والمؤاخذة: هي التناول بالعقوبة.

واختلف العلماء في اليمين التي هي لغو; فقال ابن عباس ، وعائشة ، وعامر الشعبي ، وأبو صالح ، ومجاهد : لغو اليمين: قول الرجل في درج كلامه واستعجاله في المحاورة: لا والله، وبلى والله دون قصد لليمين. وروي أن قوما تراجعوا القول بينهم وهم يرمون بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم، فحلف أحدهم لقد أصبت وأخطأت يا فلان، فإذا الأمر بخلافه، فقال رجل: حنث يا رسول الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أيمان الرماة لغو، لا إثم فيها ولا كفارة .

وقال أبو هريرة ، وابن عباس أيضا، والحسن ، ومالك بن أنس ، وجماعة من العلماء: لغو اليمين ما حلف به الرجل على يقينه، فكشف الغيب خلاف ذلك.

قال القاضي أبو محمد رحمه الله:

وهذا اليقين هو غلبة ظن، أطلق الفقهاء عليه لفظة اليقين تجوزا. قال مالك : مثله أن يرى الرجل على بعد فيعتقد أنه فلان، لا يشك، فيحلف ثم يجيء غير المحلوف عليه. وقال سعيد بن المسيب ، وأبو بكر بن عبد الرحمن ، وعبد الله وعروة ابنا الزبير : لغو اليمين: الحلف في المعاصي كالذي يحلف ليشربن الخمر، أو ليقطعن الرحم، فبره ترك ذلك الفعل، ولا كفارة عليه. وقال سعيد بن جبير مثله، إلا أنه قال: يكفر، فأشبه قوله بالكفارة قول من لا يراها لغوا.

وقال ابن عباس أيضا، وطاووس : لغو اليمين: الحلف في حال الغضب. وروى [ ص: 551 ] ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا يمين في غضب . وقال مكحول الدمشقي وجماعة من العلماء: لغو اليمين: أن يحرم الرجل على نفسه ما أحل الله، فيقول: مالي علي حرام إن فعلت كذا، أو الحلال علي حرام. وقال بهذا القول مالك بن أنس ، إلا في الزوجة، فإنه ألزم فيها التحريم إلا أن يخرجها الحالف بقلبه. وقال زيد بن أسلم ، وابنه: لغو اليمين: دعاء الرجل على نفسه: أعمى الله بصره، أذهب الله ماله، هو يهودي، هو مشرك، هو لغية إن فعل كذا. وقال ابن عباس أيضا، والضحاك : لغو اليمين: هو المكفرة، أي إذا كفرت اليمين فحينئذ سقطت وصارت لغوا، ولا يؤاخذ الله بتكفيرها والرجوع إلى الذي هو خير. وقال إبراهيم النخعي : لغو اليمين: ما حنث فيه الرجل ناسيا. وحكى ابن عبد البر قولا: إن اللغو أيمان المكره.

قال القاضي أبو محمد رحمه الله:

وطريقة النظر أن تتأمل لفظة اللغو ولفظة الكسب، ويحكم موقعهما في اللغة، فكسب المرء ما قصده ونواه، واللغو ما لم يتعمده أو ما حقه لهجنته أن يسقط، فيقوى على هذه الطريقة بعض الأقوال المتقدمة ويضعف بعضها.

وقد رفع الله عز وجل المؤاخذة بالإطلاق في اللغو، فحقيقته ما لا إثم فيه ولا كفارة. والمؤاخذة في الأيمان هي بعقوبة الآخرة في الغموس المصبورة -وفيما ترك تكفيره مما فيه كفارة- وبعقوبة الدنيا في إلزام الكفارة فيضعف القول بأنها اليمين المكفرة لأن المؤاخذة قد وقعت فيها وتخصيص المؤاخذة بأنها في الآخرة فقط تحكم.

وقوله تعالى: ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم قال ابن عباس ، والنخعي [ ص: 552 ] وغيرهما: ما كسب القلب: هي اليمين الكاذبة الغموس، فهذه فيها المؤاخذة في الآخرة، والكفارة إنما هي فيما يكون لغوا إذا كفر.

وقال مالك وجماعة من العلماء: الغموس لا تكفر، هي أعظم ذنبا من ذلك. وقال الشافعي ، وقتادة ، وعطاء ، والربيع : اليمين الغموس تكفر، والكفارة مؤاخذة، والغموس: ما قصد الرجل في الحلف به الكذب، وكذلك اليمين المصبورة، المعنى فيهما واحد، ولكن الغموس سميت بذلك لأنها غمست صاحبها في الإثم، والمصبورة سميت بذلك لأنها صبرها مغالبة وقوة عليها، كما يصبر الحيوان للقتل والرمي. وقال زيد بن أسلم قوله تعالى: ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم هو في الرجل يقول: هو مشرك إن فعل، أي هذا لغو إلا أن يعقد الإشراك بقلبه ويكسبه.

و غفور حليم صفتان لائقتان بما ذكر من طرح المؤاخذة، إذ هو باب رفق وتوسعة.

وقوله تعالى: للذين يؤلون من نسائهم الآية. قرأ أبي بن كعب ، وابن عباس : "للذين يقسمون"، و"يؤلون": معناه: يحلفون، يقال: آلى الرجل يولي إيلاء، والألية اليمين، ويقال فيها أيضا: ألوة بفتح الهمزة وبضمها وبكسرها.

والتربص: التأني والتأخر، وكان من عادة العرب أن يحلف الرجل ألا يطأ امرأته، يقصد بذلك الأذى عند المشارة ونحوها، فجعل الله تعالى في ذلك هذا الحد لئلا يضر الرجال بالنساء، وبقي للحالف على هذا المعنى فسحة فيما دون الأربعة الأشهر.

[ ص: 553 ] واختلف، من المراد أن يلزمه حكم الإيلاء؟ فقال مالك رحمه الله: هو الرجل يغاضب امرأته فيحلف بيمين -يلحق عن الحنث فيها حكم- ألا يطأها -ضررا منه- أكثر من أربعة أشهر، لا يقصد بذلك إصلاح ولد رضيع ونحوه. وقال به عطاء وغيره، وقال علي بن أبي طالب ، وابن عباس ، والحسن بن أبي الحسن : هو الرجل يحلف ألا يطأ امرأته على وجه مغاضبة ومشارة، وسواء كان في ضمن ذلك إصلاح ولد أو لم يكن. فإن لم يكن عن غضب فليس بإيلاء. وقال ابن عباس : لا إيلاء إلا بغضب. وقال ابن سيرين : سواء كانت اليمين في غضب أو غير غضب هو إيلاء. وقاله ابن مسعود ، والثوري ، ومالك ، والشافعي ، وأهل العراق . إلا أن مالكا قال: ما لم يرد إصلاح ولد. وقال الشعبي ، والقاسم بن محمد ، وسالم بن عبد الله ، وابن المسيب : كل يمين حلفها الرجل، ألا يطأ امرأته، أو ألا يكلمها، أو أن يضارها، أو أن يغاضبها، فذلك كله إيلاء. وقال ابن المسيب منهم- إلا أنه إن حلف ألا يكلم وكان يطأ فليس بإيلاء، وإنما تكون اليمين على غير الوطء إيلاء إذا اقترن بذلك الامتناع من الوطء.

وأقوال من ذكرناه -مع سعيد - مسجلة محتملة ما قال سعيد ، ومحتملة أن فساد العشرة إيلاء، وذهب إلى هذا الاحتمال الأخير الطبري . وقال ابن عباس أيضا: لا يسمى موليا إلا الذي يحلف ألا يطأ أبدا، حكاه ابن المنذر . وقال مالك ، والشافعي ، وأحمد ، وأبو ثور : لا يكون موليا إلا إن زاد على الأربعة الأشهر.

وقال عطاء ، والثوري ، وأصحاب الرأي: الإيلاء أن يحلف على أربعة أشهر فصاعدا. وقال قتادة ، والنخعي ، وحماد بن أبي سليمان ، وإسحاق ، وابن أبي ليلى : من حلف على قليل من الوقت أو كثير فتركها أربعة أشهر فهو مول، قال ابن المنذر : وأنكر هذا القول كثير من أهل العلم.

وقوله تعالى: من نسائهم يدخل فيه الحرائر والإماء إذا تزوجن.

[ ص: 554 ] والعبد يلزمه الإيلاء من زوجته. وقال الشافعي ، وأحمد وأبو ثور : أجله أربعة أشهر وقال مالك ، والزهري ، وعطاء بن أبي رباح ، وإسحاق : أجله شهران. وقال الحسن : أجله من حرة أربعة أشهر، ومن أمة زوجة شهران، وقاله النخعي . وقال الشعبي : الإيلاء من الأمة نصف الإيلاء من الحرة. وقال مالك ، والشافعي ، وأصحاب الرأي، والأوزاعي ، والنخعي ، وغيرهم: المدخول بها وغير المدخول بها سواء في لزوم الإيلاء فيهما. وقال الزهري ، وعطاء ، والثوري : لا إيلاء إلا بعد الدخول. وقال مالك : ولا إيلاء من صغيرة لم تبلغ، فإن آلى منها فبلغت لزمه الإيلاء من يوم بلوغها. وقال عمر بن الخطاب ، وعثمان بن عفان ، وعلي بن أبي طالب ، وأبو الدرداء ، وابن عمر ، وابن المسيب ، ومجاهد ، وطاووس ، ومالك ، والشافعي ، وأحمد ، وإسحاق ، وأبو عبيد : إذا انقضت الأربعة الأشهر وقف، فإما فاء وإما طلق، وإلا طلق عليه. وقال ابن مسعود ، وابن عباس ، وعثمان ، وعلي أيضا، وزيد بن ثابت ، وجابر بن زيد ، والحسن ، ومسروق : بانقضاء الأربعة الأشهر دخل عليه الطلاق دون توقيف.

واختلف العلماء في الطلاق الداخل على المولي; فقال عثمان ، وعلي ، وابن عباس وابن مسعود ، وعطاء ، والنخعي ، والأوزاعي ، وغيرهم: هي طلقة بائنة لا رجعة له فيها. وقال سعيد بن المسيب ، وأبو بكر بن عبد الرحمن ، ومكحول ، والزهري ، ومالك : هي رجعية.

و"فاءوا" معناه: رجعوا، ومنه: حتى تفيء إلى أمر الله "والفيء": الظل الراجع عشيا.

[ ص: 555 ] وقال الحسن ، وإبراهيم . إذا فاء المولي ووطئ فلا كفارة عليه في يمينه لقوله تعالى: فإن فاءوا فإن الله غفور رحيم .

قال القاضي أبو محمد رحمه الله:

وهذا متركب على أن لغو اليمين ما حلف في معصية، وترك وطء الزوجة معصية.

وقال الجمهور: إذا فاء كفر، والفيء عند ابن المسيب ، وابن جبير : لا يكون إلا بالجماع. وإن كان مسجونا أو في سفر مضى عليه حكم الإيلاء إلا أن يطأ، ولا عذر له ولا فيء بقول.

وقال مالك رحمه الله: لا يكون الفيء إلا بالوطء أو بالتكفير في حال العذر كالغائب والمسجون. قال ابن القاسم في المدونة: إلا أن تكون يمينه مما لا يكفرها لأنها لا تقع عليه إلا بعد الحنث، فإن القول يكفيه ما دام معذورا.

واختلف القول في المدونة في اليمين بالله تعالى; هل يكتفى فيه بالفيء بالقول والعزم على التكفير أم لا بد من التكفير، وإلا فلا فيء؟ وقال الحسن ، وعكرمة ، والنخعي وغيرهم: الفيء من غير المعذور الجماع، ولا بد ومن المعذور أن يشهد أنه قد فاء بقلبه.

وقال النخعي أيضا: يصح الفيء بالقول والإشهاد فقط، ويسقط حكم الإيلاء، أرأيت إن لم ينتشر للوطء؟

وقال القاضي أبو محمد رحمه الله:

ويرجع في هذا القول إن لم يطأ إلى باب الضرر. وقرأ أبي بن كعب : "فإن فاؤوا فيهن". وروي عنه: "فإن فاؤوا فيها".

[ ص: 556 ] وقوله تعالى: وإن عزموا الطلاق الآية. قال القائلون: إن بمضي الأربعة أشهر يدخل الطلاق، عزيمة الطلاق هي ترك الفيء، حتى تنصرم الأشهر. وقال القائلون: لا بد من التوقيف بعد تمام الأشهر، والعزيمة: هي التطليق أو الإبانة وقت التوقيف حتى يطلق الحاكم، واستدل من قال بالتوقيف بقوله: "سميع"، لأن هذا الإدراك إنما هو في المقولات. وقرأ ابن عباس : "وإن عزموا السراح".

التالي السابق


الخدمات العلمية