الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( ولن يتمنوه أبدا بما قدمت أيديهم ) : هذا من المعجزات ؛ لأنه إخبار بالغيب ، ونظيره من الإخبار بالمغيب قوله : ( فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا ) ، وظاهره أن من ادعى أن الجنة خالصة له دون الناس ممن اندرج تحت الخطاب في قوله : ( قل إن كانت لكم الدار الآخرة عند الله خالصة ) ، لا يمكن أن يتمنى الموت أبدا ، ولذلك كان حرف النفي هنا " لن " الذي قد ادعي فيه أنه يقتضي النفي على التأبيد ، فيكون قوله : أبدا ، على زعم من ادعى ذلك للتوكيد . وأما من ادعى أنه بمعنى لا ، فيكون " أبدا " إذ ذاك مفيدا لاستغراق الأزمان . ويعني بالأبد هنا : ما يستقبل من زمان أعمارهم .

وفي المنتخب ما نصه : وإنما قال هنا : ( ولن يتمنوه ) ، وفي الجمعة ( ولا يتمنونه ) ؛ لأن دعواهم هنا أعظم من دعواهم هناك ؛ لأن السعادة القصوى فوق مرتبة الولاية ؛ لأن الثانية تراد لحصول الأولى ، ولن أبلغ في النفي من لا ، فجعلها النفي الأعظم . انتهى كلامه . قال المهدوي في كتاب : التحصيل من تأليفه : وهذه المعجزة إنما كانت على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم ارتفعت بوفاته - صلى الله عليه وسلم - ونظير ذلك رجل يقول لقوم حدثهم بحديث : دلالة صدقي أن أحرك يدي ولا يقدر أحد منكم أن يحرك يده ، فيفعل ذلك ، فيكون دليلا على صدقه ، ولا يبطل دلالته إن حركوا أيديهم بعد ذلك . انتهى كلامه ، وقد قاله غيره من المفسرين .

قال ابن عطية : والصحيح أن هذه النازلة من موت من تمنى الموت ، إنما كانت أياما كثيرة عند نزول الآية ، وهي بمنزلة دعائه النصارى من أهل نجران إلى المباهلة ، انتهى كلامه . وكلا القولين ، أعني قول المهدوي وابن عطية ، مخالف لظاهر القرآن ؛ لأن أبدا ظاهره أن يستغرق مدة أعمارهم ، كما بينا . وهل امتناعهم من تمني الموت كان لعلمهم أن كل [ ص: 312 ] نبي عرض على قومه أمرا وتوعدهم عليه بالهلاك فردوه تكذيبا له ، فإن ما توعدهم به واقع لا محالة ؟ أو لعلمهم بصدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنه لا يقول على الله إلا الحق ؟ أو لصرف الله إياهم عن ذلك ، كما قيل في عدم معارضة القرآن بالصرفة ؟ أقوال ثلاثة . والظاهر أن ذلك معلل ( بما قدمت أيديهم ) . والذي قدمته أيديهم : تكذيبهم الأنبياء ، وقتلهم إياهم ، وقولهم : ( أرنا الله جهرة ) ، وقولهم : ( اجعل لنا إلها ) ، وقولهم : ( فاذهب أنت وربك ) ، واعتداؤهم في السبت ، وسائر الكبائر التي لم تصدر من أمة قبلهم ولا بعدهم . وهذا التمني الذي طلب منهم ، ونفي عنهم ، لم يقع أصلا منهم ، إذ لو وقع لنقل ، ولتوفرت دواعي المخالفين للإسلام على نقله .

وقد تقدمت الأقوال في تفسير التمني ، والظاهر أنه لا يعني به هنا العمل القلبي ؛ لأنه لا يطلع عليه ، فلا يتحدى به ، وإنما عنى به القول اللساني كقولك : ليت الأمر يكون . ألا ترى أنه يقال لقائل ذلك تمنى ؟ وتسمى ليت كلمة تمن ، ولم ينقل أيضا أنهم قالوا : تمنينا ذلك بقلوبنا ، ولا جائز أن يكون امتناعهم من الإخبار أنهم تمنوا بقلوبهم كونهم لا يصدقون في ذلك ، لأنهم قد قاولوا المسلمين بأشياء لا يصدقونهم فيها ، من الافتراء على الله ، وتحريف كتابه ، وغير ذلك . وقال الماتريدي ما ملخصه : أن المؤمن يقول : إن الجنة له ، ومع ذلك ليس يتمنى الموت . وأجاب : بأنه لم يجعل لنفسه من المنزلة عند الله من ادعاء بنوة ومحبة من الله لهم ما جعلته اليهود ؛ لأن جميع المؤمنين ، غير الأنبياء ، لا يزول عنهم خوف الخاتمة . والخاطئ منهم مفتقر إلى زمان يتدارك فيه تكفير خطئه . فلذلك لم يتمن المؤمنون الموت . ولذلك كان المبشرون بالجنة يتمنونه . وذكروا في " ما " من قوله : ( بما قدمت ) ، أنها تكون مصدرية ، والظاهر أنها موصول ، والعائد محذوف ، وهي كناية عما اجترحوه من المعاصي السابقة . ونسب التقديم لليد مجازا ، والمعنى بما قدموه ، إذ كانت اليد أكثر الجوارح تصرفا في الخير والشر . وكثر هذا الاستعمال في القرآن : ( ذلك بما قدمت يداك ) ، ( بما قدمت أيديكم ) ، ( فبما كسبت أيديكم ) . وقيل : المراد اليد حقيقة هنا ، والذي قدمته أيديهم هو تغيير صفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكان ذلك بكتابة أيديهم .

( والله عليم بالظالمين ) : هذه جملة خبرية ، ومعناها : التهديد والوعيد ، وعلم الله متعلق بالظالم وغير الظالم . فالاقتصار على ذكر الظالم يدل على حصول الوعيد . وقيل : معناه مجازيهم على ظلمهم ، فكنى بالعلم عن الجزاء ، وعلق العلم بالوصف ليدل على العلية ، والألف واللام في الظالمين للعهد ، فتختص باليهود الذين تقدم ذكرهم ، أو للجنس ، فتعم كل ظالم . وإنما ذكر الظالمين ؛ لأن الظلم هو تجاوز ما حد الله ، ولا شيء أبلغ في التعدي من ادعاء خلوص الجنة لمن لم يتلبس بشيء من مقتضياتها ، وانفراده بذلك دون الناس .

( ولتجدنهم أحرص الناس على حياة ) : الخطاب هنا للنبي - صلى الله عليه وسلم - ووجد هنا متعدية إلى مفعولين : أحدهما الضمير ، والثاني " أحرص الناس " . وإذا تعدت إلى مفعولين كانت بمعنى علم المتعدية إلى اثنين ، كقوله تعالى : ( وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين ) . وكونها هنا تعدت إلى مفعولين ، هو قول من وقفنا على كلامه من المفسرين . ويحتمل أن يكون وجد هنا بمعنى لقي وأصاب ، ويكون انتصاب أحرص على الحال ، لكن لا يتم هذا إلا على مذهب من يرى أن إضافة أفعل التفضيل ليست بمحضة ، وهو قول الفارسي . وقد ذهب إلى ذلك من أصحابنا الأستاذ أبو الحسن بن عصفور . أما من قال بأنها محضة ، ولا يجيز في الحال أن تأتي معرفة ، فلا يجوز عنده في أحرص النصب على الحال . و " أحرص " هنا هي أفعل التفضيل ، وهي مؤولة . بمعنى من ، وقد أضيف إلى معرفة ، فيجوز فيها الوجهان : أحدهما : أن يفرد مذكره ، وإن كانت جارية على فرد ومثنى ومجموع ، ومذكر ومؤنث . والثاني : أن يطابق ما قبلها . فمن الوجه الأول " أحرص الناس " ولو جاء على المطابقة ، لكان أحارص الناس ، أو أحرصي الناس . ومن الوجه الثاني قوله : ( أكابر مجرميها ) ، [ ص: 313 ] كلا الوجهين فصيح . وذكر أبو منصور الجواليقي أن المطابقة أفصح من الإفراد . وذهب ابن السراج إلى تعين الإفراد ، وليس بصحيح . وإذا أضيفت إلى معرفة ، كهذين الموضعين ، فشرط ذلك أن يكون بعض ما يضاف إليه ، ولذلك منع البصريون : يوسف أحسن إخوته ، على أن يكون أحسن أفعل التفضيل ، وتأولوا ما ورد مما يشبهه ، وشذ نحو قوله :


يا رب موسى أظلمي وأظلمه



يريد : أظلمنا حيث لم يضل أظلم إلى ما هو بعضه . والضمير المنصوب في ولتجدنهم عائد على اليهود الذين أخبر عنهم بأنهم لا يتمنون الموت ، أو على جميع اليهود ، أو على علماء بني إسرائيل أقوال ثلاثة . وأتى بصيغة أفعل من الحرص مبالغة في شدة طلبهم للبقاء ودوام الحياة . والناس : الألف واللام للجنس فتعم ، أو للعهد . إما لأن يكون المراد جماعة من الناس معروفين غلب عليهم الحرص على الحياة ، أو لأن يكون المراد بذلك المجوس ، أو مشركي العرب ؛ لأن أولئك لا يوقنون ببعث ، فليس عندهم إلا نعيم الدنيا ، أو بؤسها ، ولذلك قال بعضهم :


تمتع من الدنيا فإنك فان     من النشوات والنسا الحسان



وقال آخر :


إذا انقضت الدنيا وزال نعيمها     فما لي في شيء سوى ذاك مطمع



( على حياة ) : قدروا فيه أنه على حذف مضاف ، أي على طول حياة ، أو على حذف صفة ، أي على حياة طويلة . ولو لم يقدر حذف لصح المعنى ، وهو أن يكون أحرص الناس على مطلق حياة ؛ لأن من كان أحرص على مطلق حياة ، وهو تحققها بأدنى زمان ، فلأن يكون أحرص على حياة طويلة أولى ، وكانوا قد ذموا بأنهم أشد الناس حرصا على حياة ، ولو ساعة واحدة . وقرأ أبي : على الحياة ، بالألف واللام . قال الزمخشري ما معناه : قراءة التنكير أبلغ من قراءة أبي ؛ لأنه أراد حياة مخصوصة ، وهي الحياة المتطاولة . انتهى . وقد بينا أنه لا يضطر إلى هذه الصفة .

( ومن الذين أشركوا ) يجوز أن يكون متصلا داخلا تحت أفعل التفضيل ، فيكون ذلك من الحمل على المعنى ؛ لأن معنى أحرص الناس : أحرص من الناس . ويحتمل أن يكون ذلك من باب الحذف ، أي وأحرص من الذين أشركوا ، فحذف أحرص لدلالة أحرص الأول عليه . والذين أشركوا : المجوس ، لعبادتهم النور والظلمة . وقيل : النار ، أو مشركو العرب لعبادتهم الأصنام واتخاذهم آلهة مع الله أو قوم من المشركين كانوا ينكرون البعث ، كما قال تعالى : ( يقولون أئنا لمردودون في الحافرة أئذا كنا عظاما نخرة ) . وعلى هذه الأقوال يكون : ( ومن الذين أشركوا ) تخصيصا بعد تعميم ، إذا قلنا : إن قوله : " أحرص الناس " عام ، ويكون في ذلك أعظم توبيخ لليهود ، إذ هم أهل كتاب يرجون ثوابا ويخافون عقابا ، وهم مع ذلك أحرص ممن لا يرجو ذلك ولا يؤمن ببعث . وإنما كان حرصهم أبلغ لعلمهم بأنهم صائرون إلى العقاب ، فكانوا أحب الناس في البعد منه ؛ لأن من توقع شرا كان أنفر الناس عنه ، فلما كانت الحياة سببا في تباعد العقاب ، كانوا أحرص الناس عليها . وعلى هذا الذي تقرر من اتصال ، ومن الذين أشركوا بأفعل التفضيل ، فلا بد من ذكر من ؛ لأن أحرص الناس جرى على اليهود ، فلو عطفت بغير من لكان معطوفا على الناس ، فيكون في المعنى : ولتجدنهم أحرص الذين أشركوا ، فكان أفعل يضاف إلى غير ما اندرج تحته ؛ لأن اليهود ليسوا من المشركين ، أعني المشركين الذين فسر بهم الذين أشركوا هنا ، لا إذا قلنا : إن الثواني في العطف يجوز فيها ما لا يجوز في الأوائل ، فإنه يصح ذلك . وأما قول من زعم أن قوله : ( ومن الذين أشركوا ) معطوف على الضمير في قوله : ولتجدنهم ، أي ولتجدنهم وطائفة من الذين أشركوا أحرص الناس على حياة ، فيكون في [ ص: 314 ] الكلام تقديم وتأخير . فهو معنى يصح ، لكن اللفظ والتركيب ينبو عنه ويخرجه عن الفصاحة ، ولا ضرورة تدعو إلى أن يكون ذلك من باب التقديم والتأخير ، لا سيما على قول من يخص التقديم والتأخير بالضرورة .

وهذا البحث كله على تقدير أن تكون الواو في : ( ومن الذين أشركوا ) لعطف مفرد على مفرد ، وأما إذا كانت لعطف الجمل ، فيكون إذ ذاك منقطعا من الدخول تحت أفعل التفضيل ، ويكون ابتداء إخبار عن قوم من المشركين يودون طول الحياة أيضا . وتقدم أن المعني بالذين أشركوا : أهم المجوس ؟ أم مشركو العرب ؟ أم قوم من المشركين في الوجه الأول ؟ وأما على أن يكون استئناف إخبار ، فقالابن عطية : هم المجوس ؛ لأن تشميتهم للعاطس بلغتهم معناه : عش ألف سنة . وفي هذا القول تشبيه لبني إسرائيل بهذه الفرقة من المشركين . انتهى كلامه . قال الزمخشري : والذين أشركوا على هذا ، أي على أنه كلام مبتدأ ، مشار به إلى اليهود ، لأنهم قالوا عزير ابن الله . انتهى كلامه .

فعلى هذا القول ، يكون قد أخبر أن من هذه الطائفة التي اشتد حرصها على الحياة من ( يود ) لو عمر ألف سنة ، فيكون ذلك نهاية في تمني طول الحياة ، ويكون الذين أشركوا من وقوع الظاهر المشعر بالعلية موقع المضمر ، إذ المعنى : ومنهم قوم يود أحدهم ، ويود أحدهم صفة لمبتدأ محذوف ، أي ومن الذين أشركوا قوم يود أحدهم ، وهذا من المواضع التي يجوز حذف الموصوف فيها ، كقوله تعالى : ( وما منا إلا له مقام معلوم ) ، ( وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته ) ، وكقول العرب : منا ظعن ومنا أقام ، وعلى أن تكون الواو في ( ومن الذين أشركوا ) لعطف المفرد على المفرد ، قالوا : ويكون قوله : ( يود أحدهم ) جملة في موضع الحال ، أي وادا أحدهم ، قالوا : ويكون حالا من الذين ، فيكون العامل " أحرص " المحذوف ، أو من الضمير في أشركوا ، فيكون العامل أشركوا . ويجوز أن يكون حالا من الضمير المنصوب في ولتجدنهم ، أي ولتجدنهم الأحرصين على الحياة وادا أحدهم ، ويجوز أن يكون استئناف إخبار عنهم يبين حال أمرهم في ازدياد حرصهم على الحياة .

( أحدهم ) : أي واحد منهم ، وليس أحد هنا هو الذي في قولهم ما قام أحد ؛ لأن هذا مستعمل في النفي أو ما جرى مجراه . والفرق بينهما أن أحدا هذا أصوله همزة وحاء ودال ، وأصول ذلك واو وحاء ودال . فالهمزة في أحدهم بدل من واو ، ولا يراد بقوله : ( يود أحدهم ) أي يود واحد منهم دون سائرهم ، وإنما أحدهم هنا عام عموم البدل ، أي هذا الحكم عليهم بودهم أن يعمروا ألف سنة ، هو يتناول كل واحد واحد منهم على طريقة البدل . فكان المعنى أنك إذا نظرت إلى حرص واحد منهم ، وشدة تعلق قلبه بطول الحياة ، وجدته لو عمر ألف سنة .

( لو يعمر ألف سنة ) : مفعول الودادة محذوف تقديره : يود أحدهم طول العمر . وجواب لو محذوف تقديره : لو يعمر ألف سنة لسر بذلك ، فحذف مفعول يود لدلالة لو يعمر عليه ، وحذف جواب لو لدلالة يود عليه . هذا هو الجاري على قواعد البصريين في مثل هذا المكان . وذهب بعض الكوفيين وغيرهم في مثل هذا إلى أن لو هنا مصدرية بمعنى أن ، فلا يكون لها جواب ، وينسبك منها مصدر هو مفعول يود ، كأنه قال : يود أحدهم تعمير ألف سنة . فعلى هذا القول لا يكون في الكلام حذف ، وعلى القول الأول لا يكون لقوله : ( لو يعمر ألف سنة ) محل إعراب . وعلى القول الثاني محله نصب على المفعول ، كما ذكرنا ، والترجيح بين القولين هو مذكور في علم النحو . قال الزمخشري : فإن قلت : كيف اتصل لو يعمر بيود أحدهم ؟ قلت : هو حكاية لودادتهم ، ولو في معنى التمني ، وكان القياس لو أعمر ، إلا أنه جرى على لفظ الغيبة لقوله : يود أحدهم ، كقولهم : حلف بالله ليفعلن . انتهى كلامه . وفيه بعض إبهام ، وذلك أن " يود " فعل قلبي ، وليس فعلا قوليا ، ولا معناه معنى القول . وإذا كان كذلك ، [ ص: 315 ] فكيف تقول هو حكاية لودادتهم ؟ إلا أن ذلك لا يسوغ إلا على تجوز ، وذلك أن يجري يود مجرى يقول ؛ لأن القول ينشأ عن الأمور القلبية ، فكأنه قال : يقول أحدهم عن ودادة من نفسه لو أعمر ألف سنة . ولا تحتاج لو ، إذا كانت للتمني ، إلى جملة جوابية ، لأن معناها معنى : يا ليتني أعمر ، وتكون إذ ذاك الجملة في موضع مفعول على طريق الحكاية . فتلخص بما قررناه في لو ثلاثة أقوال : أن تكون حرفا لما كان سيقع لوقوع غيره ، وأن تكون مصدرية ، وأن تكون للتمني محكية . ومعنى " ألف سنة " : العمر الطويل في أبناء جنسه ، فيكون " ألف سنة " كناية عن الزمان الطويل ، ويحتمل أن يريد ألف سنة حقيقة ، وإن كان يعلم أنه لا يعيش ألف سنة ؛ لأن التمني يقع على الجائز والمستحيل عادة أو عقلا ، فيكون هذا معناه أنهم لشدة حرصهم في ازدياد الحياة يتعلق تمنيهم في ذلك بما لا يمكن وقوعه عادة .

( وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمر ) : الضمير من قوله : و " ما هو " عائد على أحدهم ، وهو اسم ما ، وبمزحزحه خبر ما فهو في موضع نصب ، وذلك على لغة أهل الحجاز . وعلى ذلك ينبغي أن يحمل ما ورد في القرآن من ذلك ، و " أن يعمر " فاعل بمزحزحه ، أي وما أحدهم مزحزحه من العذاب تعميره . وجوزوا أيضا في هذا الوجه ، أعني : أن يكون الضمير عائدا على " أحدهم " ، أن يكون هو مبتدأ ، وبمزحزحه خبرا . وأن يعمر فاعل بمزحزحه ، فتكون ما تميمية . وهذا الوجه ، أعني : أن تكون ما تميمية هو الذي ابتدأ به ابن عطية . وأجازوا أن يكون هو ضميرا عائدا على المصدر المفهوم من قوله : ( لو يعمر ) ، وأن يعمر بدل منه ، وارتفاع هو على وجهيه من كونه اسم ما أو مبتدأ . وقيل : هو كناية عن التعمير ، وأن يعمر بدل منه ، ولا يعود هو على شيء قبله . والفرق بين هذا القول والذي قبله ، أن مفسر الضمير هنا هو البدل ، ومفسره في القول الأول هو المصدر الدال عليه الفعل في لو يعمر . وكون البدل يفسر الضمير فيه خلاف ، ولا خلاف في تفسير الضمير بالمصدر المفهوم من الفعل السابق . فهذا يفسره ما قبله ، وذاك يفسره ما بعده . وهذا الذي عنى الزمخشري بقوله : ويجوز أن يكون هو مبهما ، وأن يعمر موضحه . يعني : أن يكون هو لا يعود على شيء قبله ، وأن يعمر بدل منه وهو مفسر . وأجاز أبو علي الفارسي في الحلبيات أن يكون هو ضمير الشأن ، وهذا ميل منه إلى مذهب الكوفيين ، وهو أن مفسر ضمير الشأن ، وهو المسمى عندهم بالمجهول ، يجوز أن يكون غير جملة إذا انتظم إسنادا معنويا نحو : ظننته قائما زيدا ، وما هو بقائم زيد ، فهو مبتدأ ضمير مجهول عندهم ، وبقائم في موضع الخبر ، وزيد فاعل بقائم . وكان المعنى عندهم : ما هو يقوم زيد ، ولذلك أعربوا في : ظننته قائما زيدا ، الهاء ضمير المجهول ، وهي مفعول ظننت ، وقائما المفعول الثاني ، وزيد فاعل بقائم . ولا يجوز في مذهب البصريين أن يفسر إلا بجملة مصرح بجزأيها سالمة من حرف جر . قال ابن عطية : وحكى الطبري عن فرقة أنها قالت : هو عماد . انتهى كلامه ، ويحتاج [ ص: 316 ] إلى تفسير ، وذلك أن العماد في مذهب بعض الكوفيين يجوز أن يتقدم مع الخبر على المبتدأ ، فإذا قلت : ما زيد هو القائم ، جوزوا أن تقول : ما هو القائم زيد . فتقدير الكلام عندهم ، وما تعميره هو بمزحزحه . ثم قدم الخبر مع العماد ، فجاء : وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمر ، أي تعميره ، ولا يجوز ذلك عند البصريين ؛ لأن شرط الفصل عندهم أن يكون متوسطا . وتلخص في هذا الضمير : أهو عائد على " أحدهم " ؟ أو على المصدر المفهوم من يعمر ؟ أو على ما بعده من قوله أن يعمر ؟ أو هو ضمير الشأن ؟ أو عماد ؟ أقوال خمسة ، أظهرها الأول .

( والله بصير بما يعملون ) : قرأ الجمهور يعملون بالياء ، على نسق الكلام السابق . وقرأ الحسن وقتادة والأعرج ويعقوب بالتاء ، على سبيل الالتفات والخروج من الغيبة إلى الخطاب . وهذه الجملة تتضمن التهديد والوعيد ، وأتى هنا بصفة بصير ، وإن كان الله تعالى متنزها عن الجارحة ، إعلاما بأن علمه - بجميع الأعمال - علم إحاطة وإدراك للخفيات . وما : في بما ، موصولة ، والعائد محذوف ، أي يعملونه . وجوزوا فيها أن تكون مصدرية أي بعملهم ، وأتى بصيغة المضارع ، وإن كان علمه تعالى محيطا بأعمالهم السالفة والآتية لتواخي الفواصل .

وقد تضمنت هذه الآيات الكريمة الامتنان على بني إسرائيل وتذكارهم بنعم الله ، إذ آتى موسى التوراة المشتملة على الهدى والنور ، ووالى بعده بالرسل لتجديد دين الله وشرائعه ، وآتى عيسى الأمور الخارقة ، من إحياء الأموات ، وإبراء الأكمه والأبرص ، وإيجاد المخلوق ، ونفخ الروح فيه ، والإنباء بالمغيبات ، وغير ذلك . وأيده بمن ينزل الوحي على يديه ، وهو جبريل - عليه السلام - ثم مع هذه المعجزات والنعم كانوا أبعد الناس عن قبول ما يأتيهم من عند الله ، وكانوا بحيث إذا جاءهم رسول بما لا يوافقهم ، بادروا إلى تكذيبه ، أو قتلوه ، وهم غير مكترثين بما يصدر منهم من الجرائم ، حتى حكي أنهم في أثر قتلهم الجماعة من الأنبياء ، تقوم سوق البقل بينهم ، التي هي أرذل الأسواق ، فكيف بالأسواق التي تباع فيها الأشياء النفيسة ؟ ثم نعى تعالى عليهم أنهم باقون على تلك العادة من تكذيب ما جاء من عند الله ، وإن كانوا قبل مجيئه به يذكرون أنه يأتيهم من عند الله . فحين وافاهم ما كانوا ينتظرونه ويعرفونه ، كفروا به ، فختم الله عليهم باللعنة . وأن سبب طردهم عن رحمة الله هو ما سبق من كفرهم ، وأن إيمانهم كان قليلا ، إذ كانوا قبل مجيء الكتاب يؤمنون بأنه سيأتي كتاب . ثم أخذ في ذكر ذمهم ، أن باعوا أنفسهم النفيسة بما يترتب لهم على كفرهم بآيات الله من المآكل والرياسات المنقضية في الزمن اليسير ، وأن الحامل على ذلك هو البغي والحسد ، لأن اختص الله بفضله من شاء من عباده ، فلم يرضوا بحكمه ولا باختياره ، فباءوا بالغضب من الله ، وأعد لهم في الآخرة العذاب الذي يذلهم ويهينهم . إذ كان امتناعهم من الإيمان ، إنما هو للتكبر والحسد وعدم الرضا بالقدر ، فناسب ذلك أن يعذبوا العذاب الذي فيه صغار لهم وذلة وإهانة .

ثم أخبر تعالى عنهم ، أنهم إذا عرض عليهم الإيمان بما أنزل الله ، أجابوا أنهم يؤمنون بالتوراة ، وأنهم يكفرون بما سواها . هذا والكتب المنزلة من عند الله سواء ، إذ كلها حق يصدق بعضها بعضا . فالكفر ببعضها كفر بجميعها . ثم أخبر تعالى بكذبهم في قولهم : ( نؤمن بما أنزل علينا ) ، وذلك بأنهم قتلوا الأنبياء ، والتوراة ناطقة باتباع الأنبياء والاقتداء بهم ، فقد خالف قولهم فعلهم . ثم كرر عليهم - توبيخا لهم - أن موسى الذي أنزل عليه التوراة ، وأنهم يزعمون أنهم آمنوا بها ، قد جاءهم بالأشياء الواضحة والمعجزات الخارقة ، من نجاتهم من فرعون ، وفلق البحر وغير ذلك ، ومع ذلك اتخذوا من بعد ذهابه إلى مناجاة ربه إلها من أبعد الحيوان ذهنا وأبلدها ، وهو العجل المصنوع من حليهم ، المشاهد إنشاؤه وعمله ، وموسى لم يمت بعد ، وكتاب الله طري نزوله عليهم ، لم يتقادم عهده . وكرر تعالى ذكر رفع الطور عليهم ليقبلوا ما في [ ص: 317 ] التوراة ، وأمروا بالسمع والطاعة ، فأجابوا بالعصيان . هذا وهم ملجئون إلى الإيمان ، أو كالملجئين ؛ لأن مثل هذا المزعج العظيم من رفع جبل عليهم ليشدخوا به جدير بأن يأتي الإنسان ما أمر به ، ويقبل ما كلف به من التكاليف . وتأبيهم لذلك ، وعدم قبولهم ، سببه أن عبادة العجل خامرت قلوبهم ومازجتها ، حتى لم تسمع قبولا لشيء من الحق ، والقلب إذا امتلأ بحب شيء لم يسمع سواه ولم يصغ إلى ملام ، وأنشدوا :


ملأت ببعض حبك كل قلبي     فإن ترد الزيادة هات قلبا



ثم ذمهم تعالى على ما أمرهم به إيمانهم ، ولا إيمان لهم حقيقة ، بل نسب ذلك إليهم ، على سبيل التهكم من عبادة العجل واتخاذه إلها من دون الله . ثم كذبهم في دعواهم أن الجنة هي خالصة لهم ، لا يدخلها أحد سواهم ، فأمرهم بتمني الموت ؛ لأن من اعتقد أنه يصير إلى سرور وحبور ولذة دائمة لا تنقضي ، يؤثر الوصول إلى ذلك ، وانقضاء ما هو فيه من الذلة والنكد .

وأخبر تعالى أن تمني الموت لا يقع منهم أبدا ، وأن امتناعهم من ذلك هو بما قدمت أيديهم من الجرائم ، فظهر كذبهم في دعواهم بأنهم أهل الجنة . ثم أخبر ترشيحا لما قبله من عدم تمنيهم الموت ، أنهم أشد الناس حرصا على حياة ، حتى إنهم أحرص من الذين لا يؤمنون بالدار الآخرة ، ولا يرجون ثوابا ، ولا يخافون عقابا . ثم ذكر أن أحدهم يود أن يعمر ألف سنة ، ومع ذلك فتعميره ، وإن طال ، ليس بمنجيه من عذاب الله .

ثم ختم الآيات بأن الله تعالى مطلع على قبائح أفعالهم ، ومجازيهم عليها . وتبين بمجموع هذه الآيات ما جبل عليه اليهود من فرط كذبهم ، وتناقض أفعالهم وأقوالهم ، ونقص عقولهم ، وكثرة بهتهم ، أعاذنا الله من ذلك ، وسلك بنا أنهج المسالك .

التالي السابق


الخدمات العلمية