الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          ( ما فرطنا في الكتاب من شيء ) التفريط في الأمر التقصير فيه وتضييعه حتى يفوت - كما في الصحاح - ويقال : فرطه وفرط فيه كما في القاموس ولسان العرب ، ومنه قول صخر الغي :

                          وذلك بزي فلن أفرطه البز هنا السلاح

                          ، ويقال : فرط فلانا - إذا تركه وتقدمه ، روي عن ابن عباس تفسير الكتاب هنا بأم الكتاب ، وفسروا أم الكتاب بأنه أصله وجملته ، وقالوا : إنه اللوح المحفوظ ، وهو خلق من عالم الغيب أثبت الله تعالى فيه مقادير الخلق ما كان منها وما يكون بحسب النظام المعبر عنه بالسنن الإلهية ، ومنهم من يفسر الكتاب هنا - وكذا أم الكتاب في آيتي الرعد والزخرف - بالعلم الإلهي المحيط بكل شيء ، شبه بالكتاب [ ص: 330 ] بكونه ثابتا لا يسنى ، وقال بعضهم : إن المراد بالكتاب هنا القرآن ، ولا يصح أن يكون القرآن أم الكتاب ؛ لأن أم الكتاب شامل له ولغيره من كتب الله تعالى ومن مقادير خلقه . قال تعالى بعد ذكر القرآن في أول الزخرف : ( وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم ) ( 43 : 4 ) .

                          ومعنى الجملة : ما تركنا في الكتاب شيئا لم نثبته فيه تقصيرا وإهمالا ، بل أحصينا فيه كل شيء أو جعلناه تبيانا لكل شيء ، فإذا أريد بالكتاب العلم الإلهي أو اللوح المحفوظ فالاستغراق على ظاهره ، وإذا أريد به القرآن فالمراد بقوله : ( من شيء ) - الدال على العموم - الشيء الذي هو من موضوع الدين الذي يرسل به الرسل وينزل به الكتب وهو الهداية ; لأن العموم في كل شيء بحسبه ، أي ما تركنا في الكتاب شيئا ، ما من ضروب الهداية التي ترسل الرسل لأجلها إلا وقد بيناه فيه ، وهي أصول الدين وقواعده وأحكامه وحكمها ، والإرشاد إلى استعمال القوى البدنية والعقلية في الاستفادة من تسخير الله كل شيء للإنسان ، ومراعاة سننه تعالى في خلقه التي يتم بها الكمال المدني والعقلي ، فالقرآن قد بين ذلك كله بالنص أو الفحوى ، ومنه ما أرشد إليه هنا في علم الحيوان الذي يهدي إلى كمال المعرفة والإيمان ، وقد بينا وجه اشتمال الكتاب على جميع أمر الدين في تفسير ( ياأيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم ) ( 5 : 101 ) من هذا الجزء ، وتفسير ( اليوم أكملت لكم دينكم ) ( 5 : 3 ) من تفسير الجزء السادس ، وتفسير ( أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم ) ( 4 : 59 ) من تفسير الجزء الخامس فليرجع إليها من شاء .

                          ومن الناس من قال : إن القرآن قد حوى علوم الأكوان كلها ، وأن الشيخ محيي الدين بن العربي وقع عن حماره فرضت رجله فلم يأذن للناس بحمله إلا بعد أن استخرج حادثة وقوعه ورض رجله من " سورة الفاتحة " ، وهذا القول لم يقل به أحد من الصحابة ، ولا علماء التابعين ، ولا غيرهم من علماء السلف الصالحين ، ولا يقبله أحد من الناس إلا من يرون أن كل ما كتبه الميتون في كتبهم حق وإن كان لا يقبله عقل ، ولا يهدي إليه نقل ، ولا تدل عليه اللغة ، بل قال أئمة السلف : إن القرآن لا يشتمل على جميع فروع أحكام العبادات الضرورية بدلالة النص ولا الفحوى ، وإنما أثبت وجوب اتباع الرسول فصار دالا على كل ما ثبت في السنة ، وأثبت قواعد القياس الصحيح وقواعد أخرى ، فصار مشتملا على جميع فروعها وجزئياتها ، ولا يخرج شيء من الدين عنها ، وأن قبول الناس للخرافة المروية عن ابن العربي هي التي جرأت مثل مسيح الهند أحمد القادياني على ذلك التفسير الذي فسر به الفاتحة وزعم أنه معجزته الدالة على كونه هو المسيح المنتظر ، وكله لغو وهذيان ، ومن أغربه زعمه أن اسم الرحمن في الفاتحة دليل على بعثة خاتم الرسل محمد - صلى الله عليه وسلم - واسم الرحيم دليل على بعثته هو [ ص: 331 ] ( ثم إلى ربهم يحشرون ) أي ثم يبعث أولئك الأمم من الناس والحيوان يوم القيامة ويساقون مجتمعين إلى ربهم المالك لأمرهم لا إلى غيره ، فيحاسب كلا على ما فعل ، ويقتص للمظلوم ممن ظلم ، وإنما حسن عود ضميري الغيبة في ربهم وفي يحشرون إلى الدواب والطير والناس جميعا ; لأنه خبر من الله تعالى عطف على خطاب الناس وغلب فيه ضمير الأشرف ، وإذا جعل من جملة الخطاب تعين رجوع الضميرين إلى الدواب والطير ، ونكتة جعلهما من ضمائر العقلاء حينئذ تشبيه أممهما بأمم البشر ، وذلك إجراء لهما مجرى العقلاء ويؤيد حشر تلك الأمم كلها قوله تعالى : ( وإذا الوحوش حشرت ) ( 81 : 5 ) وحديث أبي ذر عند أحمد وعبد الرزاق وابن جرير " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأى عنزين ينتطحان ، فقال : يا أبا ذر ، هل تدري فيم ينتطحان ؟ قال : لا . قال : لكن الله يدري وسيقضي بينهما " وفي رواية " أتدرون فيم انتطحا ؟ قلنا : لا " وزاد في رواية ابن جرير عن أبي ذر : ولقد تركنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وما يقلب طائر جناحيه إلا ذكر لنا منه علما ، والحديث مروي من طريق منذر الثوري وهو ثقة ، ولكن رواه أحمد عن شيوخ لم يسمعوا ، وفيه حجة على كون علم الحيوان من علم الهداية المشروعة في الإسلام لما ذكرنا من فائدته آنفا .

                          وروى البيهقي في شعب الإيمان والخطيب في تالي التلخيص وابن عساكر عن عبيد الله بن أبي زيادة البكري قال : دخلت على ابني بشر المازنيين صاحبي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلت : يرحمكما الله ، الرجل منا يركب الدابة فيضربها بالسوط أو يكبحها باللجام ، فهل سمعتما من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ذلك شيئا ؟ فقالا : لا ، قال عبيد الله : فنادتني امرأة من الداخل ، فقلت له : يا هذا ، إن الله يقول في كتابه ( وما من دابة في الأرض ولا طائر . . . ) الآية . فقالا هذه أختنا ، وهي أكبر منا ، وقد أدركت رسول الله صلى الله عليه وسلم . فهذه الصحابية استدلت بالآية على وجوب الرفق والرحمة بالدواب وغيرها من الحيوان ، وأنه تعالى يحاسب الناس على ظلمهم لها يوم يحشرهم إليه جميعا . ويؤيده ما ورد في ذلك من الأحاديث كحديث " ما من إنسان يقتل عصفورا فما فوقها بغير حقها إلا سأله الله عز وجل عنها يوم القيامة " وذكر أن حقها أكلها ، رواه النسائي والحاكم وصححه ، وفي معناه حديث آخر عند النسائي وابن حبان في صحيحه ، وحديث " إن الله كتب الإحسان على كل شيء ، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة ، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة ، وليحد أحدكم شفرته ، وليرح ذبيحته " رواه أحمد ومسلم وأصحاب السنن الأربعة من حديث شداد بن أوس مرفوعا ، وأخرج رواة التفسير المأثور والحاكم وصححه عن أبي هريرة في تفسير الآية " إن الله يحشر هذه الأمم يوم القيامة ويقتص لبعضها من بعض حتى يقتص للجلحاء [ ص: 332 ] من ذات القرن " وفي رواية " للجماء من القرناء " وغلط الألوسي فعزاه إلى حديث الصحيحين ولكن روى مسلم والترمذي عنه مرفوعا " لتؤدن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء " . ونقل عن المعتزلة أن العقل يدل على وجوب إعادة الحيوان كالإنسان للتعويض على كل ، لا لمحض العقاب على الجناية ، فكل حي أصابه ألم يجب أن ينال عوضا عنه ، فإذا كان الألم بفعل الله أو بشرعه كالذي يذبح ليؤكل أو يقتل اتقاء ضرره فالله يعوضه عن ذلك .

                          وروى ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس في قوله : ( ثم إلى ربهم يحشرون ) قال : موت البهائم حشرها . وفي لفظ قال : يعني بالحشر الموت . قال السيد الألوسي : ومراده - رضي الله تعالى عنه - على ما قيل إن قوله سبحانه : ( ثم إلى ربهم يحشرون ) : مجموعه مستعار على سبيل التمثيل للموت ، كما ورد في الحديث " من مات فقد قامت قيامته " فلا يرد عليه أن الحشر بعث من مكان إلى آخر ، وتعديته بإلى تنصيص على أنه لم يرد به الموت مع أن الموت أيضا نقل من الدنيا إلى الآخرة . انتهى . وصوب ابن جرير أن المراد الحشران جميعا حشر الموت وحشر البعث ، وعلله بأن الحشر في كلام العرب: الجمع ، وهو يشملها ، ولا مرجع لأحدهما من كتاب ولا سنة ، هذا محصل قوله ، والصواب أن الحشر جمع وبعث ، أو كما قال الراغب : إخراج الجماعة عن مقرهم وإزعاجهم إلى الحرب ونحوها ، ففيه معنى الجمع ؛ لأنه لا يطلق على الواحد . ومعنى الحشر بالموت : سوق الأحياء إليه حتى يكون هو غايتهم .

                          وأحسن ما قاله ابن جرير في تفسير الآية بيان وجه العبرة والموعظة فيها ، قال : يقول الله تعالى لنبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - قل لهؤلاء المعرضين عنك المكذبين بآيات الله : أيها القوم ، لا تحسبن الله غافلا عما تعملون ، أو أنه غير مجازيكم على ما تكسبون ، وكيف يغفل عن أعمالكم ، أو يترك مجازاتكم ، وهو غير غافل عن عمل شيء دب على الأرض صغيرا أو كبيرا ، ولا عمل طائر طار بجناحيه في الهواء ، بل جعل ذلك كله أجناسا مجنسة ، وأصنافا مصنفة ، تعرف كما تعرفون ، وتتصرف فيما سخرت له كما تتصرفون ، ومحفوظ عليها ما عملت من عمل لها وعليها ، ومثبت كل ذلك من أعمالها في أم الكتاب ، ثم إنه - تعالى ذكره - مميتها ، ثم منشرها ومجازيها يوم القيامة جزاء أعمالها . يقول : فالرب الذي لم يضيع حفظ البهائم والدواب في الأرض ، والطير في الهواء حتى حفظ عليها حركاتها [ ص: 333 ] وأفعالها ، وأثبت ذلك منها في أم الكتاب ، وحشرها ثم جازاها على ما سلف منها في دار البلاء ، أحرى ألا يضيع أعمالكم ولا يفرط في حفظ أفعالكم التي تجترحونها أيها الناس حتى يحشركم فيجازيكم على جميعها ؛ إن خيرا فخير وإن شرا فشر ؛ إذ كان قد خصكم من نعمه ، وبسط عليكم من فضله ما لا يعم غيركم في الدنيا ، وكنتم بشكره أحق وبمعرفة واجبه عليكم أولى ، لما أعطاكم من العقل الذي به بين الأشياء تميزون ، والفهم الذي لم يعطه البهائم والطير الذي به بين مصالحكم ومضاركم تفرقون . اهـ .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية