الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                        باب ما ذكر في الحجر الأسود

                                                                                                                                                                                                        1520 حدثنا محمد بن كثير أخبرنا سفيان عن الأعمش عن إبراهيم عن عابس بن ربيعة عن عمر رضي الله عنه أنه جاء إلى الحجر الأسود فقبله فقال إني أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع ولولا أني رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك

                                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                                        قوله : ( باب ما ذكر في الحجر الأسود ) أورد فيه حديث عمر في تقبيل الحجر ، وقوله : " لا تضر ولا تنفع " وكأنه لم يثبت عنده فيه على شرطه شيء غير ذلك ، وقد وردت فيه أحاديث : منها حديث عبد الله بن عمرو بن العاص مرفوعا : إن الحجر والمقام ياقوتتان من ياقوت الجنة طمس الله نورهما ، ولولا ذلك لأضاءا ما بين المشرق والمغرب . أخرجه أحمد ، والترمذي ، وصححه ابن حبان ، وفي إسناده رجاء أبو يحيى ، وهو ضعيف ، قال الترمذي : حديث غريب ، ويروى عن عبد الله بن عمرو موقوفا ، وقال ابن أبي حاتم عن أبيه وقفه أشبه ، والذي رفعه ليس بقوي . ومنها حديث ابن عباس مرفوعا : نزل الحجر الأسود من الجنة وهو أشد بياضا من اللبن ، فسودته خطايا بني آدم . أخرجه الترمذي وصححه ، وفيه عطاء بن السائب وهو صدوق لكنه اختلط ، وجرير ممن سمع منه بعد اختلاطه ، لكن له طريق أخرى في صحيح ابن خزيمة فيقوى بها ، وقد رواه النسائي من طريق حماد بن سلمة ، عن عطاء مختصرا ، ولفظه الحجر الأسود من الجنة وحماد ممن سمع من عطاء قبل الاختلاط ، وفي صحيح ابن خزيمة أيضا ، عن ابن عباس مرفوعا ، أن لهذا الحجر لسانا وشفتين يشهدان لمن استلمه يوم القيامة بحق ، وصححه أيضا ابن حبان ، والحاكم ، وله شاهد من حديث أنس عند الحاكم أيضا .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( عن إبراهيم ) هو ابن يزيد النخعي ، وقد رواه سفيان ، وهو الثوري بإسناد آخر عن إبراهيم ، وهو ابن عبد الأعلى ، عن سويد بن غفلة ، عن عمر ، أخرجه مسلم .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( إني أعلم أنك حجر ) في رواية أسلم الآتية بعد باب عن عمر ، أنه قال : " أما والله ، إني لأعلم أنك " .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( لا تضر ولا تنفع ) أي إلا بإذن الله ، وقد روى الحاكم من حديث أبي سعيد أن عمر لما قال هذا قال له علي بن أبي طالب : إنه يضر وينفع ، وذكر أن الله لما أخذ المواثيق على ولد آدم كتب ذلك في رق ، وألقمه الحجر ، قال : وقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : يؤتى يوم القيامة بالحجر الأسود وله لسان ذلق يشهد لمن استلمه بالتوحيد ، وفي إسناده أبو هارون العبدي وهو ضعيف جدا ، وقد روى النسائي من وجه آخر ما يشعر بأن عمر رفع قوله ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، أخرجه من طريق طاوس ، عن ابن عباس قال : رأيت عمر قبل الحجر ثلاثا ، ثم قال : إنك حجر لا تضر ولا تنفع ، ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبلك ما قبلتك . ثم قال : " رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل [ ص: 541 ] مثل ذلك " . قال الطبري : إنما قال ذلك عمر لأن الناس كانوا حديثي عهد بعبادة الأصنام ، فخشي عمر أن يظن الجهال أن استلام الحجر من باب تعظيم بعض الأحجار كما كانت العرب تفعل في الجاهلية ، فأراد عمر أن يعلم الناس أن استلامه اتباع لفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لا لأن الحجر ينفع ويضر بذاته كما كانت الجاهلية تعتقده في الأوثان ، وقال المهلب : حديث عمر هذا يرد على من قال : إن الحجر يمين الله في الأرض يصافح بها عباده ، ومعاذ الله أن يكون لله جارحة ، وإنما شرع تقبيله اختيارا ليعلم بالمشاهدة طاعة من يطيع ، وذلك شبيه بقصة إبليس حيث أمر بالسجود لآدم . وقال الخطابي : معنى أنه يمين الله في الأرض أن من صافحه في الأرض كان له عند الله عهد ، وجرت العادة بأن العهد يعقده الملك بالمصافحة لمن يريد موالاته والاختصاص به ، فخاطبهم بما يعهدونه . وقال المحب الطبري : معناه أن كل ملك إذا قدم عليه الوافد قبل يمينه ، فلما كان الحاج أول ما يقدم يسن له تقبيله نزل منزلة يمين الملك ، ولله المثل الأعلى .

                                                                                                                                                                                                        وفي قول عمر هذا التسليم للشارع في أمور الدين ، وحسن الاتباع فيما لم يكشف عن معانيها ، وهو قاعدة عظيمة في اتباع النبي صلى الله عليه وسلم فيما يفعله ولو لم يعلم الحكمة فيه ، وفيه دفع ما وقع لبعض الجهال من أن في الحجر الأسود خاصة ترجع إلى ذاته ، وفيه بيان السنن بالقول والفعل ، وأن الإمام إذا خشي على أحد من فعله فساد اعتقاد أن يبادر إلى بيان الأمر ويوضح ذلك ، وسيأتي بقية الكلام على التقبيل والاستلام بعد تسعة أبواب . قال شيخنا في " شرح الترمذي " : فيه كراهة تقبيل ما لم يرد الشرع بتقبيله ، وأما قول الشافعي : ومهما قبل من البيت فحسن ، فلم يرد به الاستحباب ، لأن المباح من جملة الحسن عند الأصوليين .

                                                                                                                                                                                                        ( تكميل ) : اعترض بعض الملحدين على الحديث الماضي ، فقال : كيف سودته خطايا المشركين ، ولم تبيضه طاعات أهل التوحيد ؟ وأجيب بما قال ابن قتيبة : لو شاء الله لكان ذلك ، وإنما أجرى الله العادة بأن السواد يصبغ ، ولا ينصبغ على العكس من البياض . وقال المحب الطبري : في بقائه أسود عبرة لمن له بصيرة ، فإن الخطايا إذا أثرت في الحجر الصلد فتأثيرها في القلب أشد . قال : وروي عن ابن عباس : إنما غيره بالسواد لئلا ينظر أهل الدنيا إلى زينة الجنة ، فإن ثبت ، فهذا هو الجواب . قلت : أخرجه الحميدي في فضائل مكة بإسناد ضعيف ، والله أعلم .




                                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية