الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
              صفحة جزء
              1040 وقال إسماعيل بن أبي خالد ، عن قيس بن أبي حازم ، سمعت أبا هريرة يقول : صحبت النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث سنوات ثناه بندار ، نا يحيى بن سعيد ، عن إسماعيل بن أبي خالد . وأبو هريرة إنما صحب النبي صلى الله عليه وسلم بخيبر وبعده ، وهو يخبر أنه شهد هذه الصلاة مع النبي صلى الله عليه وسلم ، فمن يزعم أن خبر ابن مسعود ناسخ لقصة ذي اليدين لو تدبر العلم وترك العناد ولم يكابر عقله علم استحالة هذه الدعوى ، إذ محال أن يكون المتأخر منسوخا ، والمتقدم ناسخا ، وقصة ذي اليدين بعد نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن الكلام في الصلاة بسنين ، فكيف يكون المتأخر منسوخا والمتقدم ناسخا ، على أن قصة ذي اليدين ليس من نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن الكلام في الصلاة بسبيل ، وليس هذا من ذلك الجنس ، إذ الكلام في الصلاة على العمد من المصلي مباح ، والمصلي عالم مستيقن أنه في الصلاة فنسخ ذلك ، وزجروا أن يتعمدوا الكلام في الصلاة على ما كان قد أبيح لهم قبل ، لا أنه كان أبيح لهم أن يتكلموا في الصلاة ساهين ناسين لا يعلمون أنهم في الصلاة فنسخ ذلك [ ص: 515 ] وهل يجوز للمركب فيه العقل ، يفهم أدنى شيء من العلم أن يقول : زجر الله المرء إذا لم يعلم أنه في الصلاة أن يتكلم ، أو يقول : نهى الله المرء أن يتكلم في الصلاة وهو لا يعلم أن الله قد زجر عن الكلام في الصلاة ، وإنما يجب على المرء أن لا يتكلم في الصلاة بعد علمه أن الكلام في الصلاة محظور غير مباح . ومعاوية بن الحكم السلمي إنما تكلم وهو لا يعلم أن الكلام في الصلاة محظور ، فقال في الصلاة خلف النبي صلى الله عليه وسلم لما شمت العاطس ، ورماه القوم بأبصارهم ، واثكل أمياه ، ما لكم تنظرون إلي ، فلما تكلم في الصلاة بهذا الكلام ، وهو لا يعلم أن هذا الكلام محظور في الصلاة علمه صلى الله عليه وسلم أن كلام الناس في الصلاة محظور غير جائز ولم يأمره صلى الله عليه وسلم بإعادة تلك الصلاة التي تكلم فيها بهذا الكلام ، والنبي صلى الله عليه وسلم في قصة ذي اليدين إنما تكلم على أنه في غير الصلاة ، وعلى أنه قد أدى فرض الصلاة بكماله ، وذو اليدين كلم النبي صلى الله عليه وسلم ، وهو غير عالم أنه قد بقي عليه بعض الفرض إذ جائز عنده أن يكون الفرض قد رد إلى الفرض الأول إلى ركعتين ، كما كان في الابتداء ألا تسمعه يقول للنبي صلى الله عليه وسلم : أقصرت الصلاة أم نسيت ؟ فأجابه النبي صلى الله عليه وسلم بأنه لم ينس ولم تقصر ، وهو عند نفسه في ذلك الوقت غير مستيقن أنه قد بقي عليه بعض تلك الصلاة فاستثبت أصحابه ، وقال لهم : " أكما يقول ذو اليدين " ، فلما استيقن أنه قد بقي عليه ركعتان من تلك الصلاة قضاهما فلم يتكلم صلى الله عليه وسلم في هذه القصة بعد علمه ويقينه بأنه قد بقي عليه بعض تلك الصلاة ، فأما أصحابه الذين أجابوه وقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم بعد مسألته إياهم : " أكما يقول ذو اليدين ؟ " قالوا : نعم ، فهذا كان الجواب المفروض عليهم أن يجيبوه عليه السلام ، وإن كانوا في الصلاة عالمين مستيقنين أنهم في نفس فرض الصلاة إذ الله عز وجل فرق بين نبيه المصطفى وبين غيره من أمته بكرمه له وفضله بأن أوجب على المصلين أن يجيبوه وإن كانوا في الصلاة في قوله : [ ص: 516 ] ياأيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم [ الأنفال : 24 ] . وقد قال المصطفى صلى الله عليه وسلم لأبي بن كعب ، ولأبي سعيد بن المعلى لما دعا كل واحد منهما على الانفراد ، وهو في الصلاة فلم يجبه حتى فرغ من الصلاة : " ألم تسمع فيما أنزل علي - أو نحو هذه اللفظة - ياأيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم [ الأنفال : 24 ] . قد خرجت هذين الخبرين في غير هذا الموضع ، فبين أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في كلامهم الذي تكلموا به يوم ذي اليدين ، وكلام ذي اليدين على الصفة التي تكلم بها ، وبين من بعدهم فرق في بعض الأحكام ، أما كلام ذي اليدين في الابتداء فغير جائز لمن كان بعد النبي صلى الله عليه وسلم أن يتكلم بمثل كلام ذي اليدين ، إذ كل مصل بعد النبي صلى الله عليه وسلم إذا سلم في الركعتين من الظهر أو العصر يعلم ويستيقن أنه قد بقي عليه ركعتان من صلاته إذ الوحي منقطع بعد النبي صلى الله عليه وسلم ، ومحال أن ينتقص من الفرض بعد النبي صلى الله عليه وسلم ، فكل متكلم يعلم أن فرض الظهر والعصر أربعا ، كل واحد منهما على الانفراد ، إذا تكلم بعد ما قد صلى ركعتين ، وبقيت عليه ركعتان عالم مستيقن بأن كلامه ذلك محظور عليه ، منهي عنه ، وأنه متكلم قبل إتمامه فرض الصلاة ، ولم يكن ذو اليدين لما سلم النبي صلى الله عليه وسلم من الركعتين عالما ، ولا مستيقنا بأنه قد بقي عليه بعض الصلاة ، ولا كان عالما أن الكلام محظور عليه ، إذ كان جائز عنده في ذلك الوقت أن يكون فرض تلك الصلاة قد رد إلى الفرض الأول إلى ركعتين كما كان في الابتداء ، وقوله في مخاطبته النبي صلى الله عليه وسلم دال على هذا ، ألا تسمعه يقول للنبي صلى الله عليه وسلم : أقصرت الصلاة أم نسيت ؟ وقد بينت العلة التي لها تكلم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بعد قول النبي صلى الله عليه وسلم لذي اليدين : " لم أنس ، ولم تقصر " ، وأعلمت أن الواجب المفترض عليهم كان أن يجيبوا النبي صلى الله عليه وسلم وإن كانوا في الصلاة ، وهذا الفرض اليوم ساقط غير جائز لمسلم أن يجيب أحدا - وهو في الصلاة - بنطق ، فكل من تكلم بعد انقطاع الوحي فقال لمصل قد سلم من [ ص: 517 ] ركعتين أقصرت الصلاة أم نسيت ؟ فواجب عليه إعادة تلك الصلاة إذا كان عالما أن فرض تلك الصلاة أربع لا ركعتان ، وكذاك يجب على كل من تكلم وهو مستيقن بأنه لم يؤد فرض تلك الصلاة بكماله ، فتكلم قبل أن يسلم منها في ركعتين ، أو بعدما سلم في ركعتين ، وكذاك يجب على كل من أجاب إنسانا وهو في الصلاة إعادة تلك الصلاة ، إذ الله عز وجل لم يجعل لبشر أن يجيب في الصلاة أحدا في الصلاة غير النبي صلى الله عليه وسلم ، الذي خصه الله بها ، وهذه مسألة طويلة ، قد خرجتها بطولها مع ذكر احتجاج بعض من اعترض على أصحابنا في هذه المسألة ، وأبين قبح ما احتجوا على أصحابنا في هذه المسألة من المحال وما يشبه الهذيان ، إن وفقنا الله " .

              التالي السابق


              الخدمات العلمية