الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين، ما خلقناهما إلا بالحق ولكن أكثرهم لا يعلمون. إن [ ص: 3216 ] يوم الفصل ميقاتهم أجمعين. يوم لا يغني مولى عن مولى شيئا ولا هم ينصرون. إلا من رحم الله إنه هو العزيز الرحيم ..

                                                                                                                                                                                                                                      واللفتة لطيفة، والمناسبة بين خلق السماوات والأرض وما بينهما وبين قضية البعث والنشور مناسبة دقيقة.

                                                                                                                                                                                                                                      ولكن الفطرة البشرية تدركها في يسر حين توجه إليها مثل هذا التوجيه.

                                                                                                                                                                                                                                      والواقع أن تدبر ما في خلق السماوات والأرض من دقة وحكمة وقصد ظاهر وتنسيق ملحوظ، وخلق كل شيء بمقدار لا يزيد ولا ينقص عن تحقيق الغاية من خلقه، وتحقيق تناسقه معكل شيء وحوله، وظهور القصد في خلق كل شيء بالقدر والشكل الذي خلق به، وانتفاء المصادفة والبعث في أي جانب صغر أو كبير في تصميم هذه الخلائق الهائلة وما فيها من خلائق دقيقة لطيفة.

                                                                                                                                                                                                                                      الواقع أن تدبر هذا كله يوقع في النفس أن لهذا الخلق غاية فلا عبث فيه; وأنه قائم على الحق فلا باطل فيه. وأن له نهاية لم تأت بعد، ولا تجيء بالموت، بعد هذه الرحلة القصيرة على هذا الكوكب. وأن أمر الآخرة، وأمر الجزاء فيها حتم لا بد منه من الناحية المنطقية البحتة لهذا التصميم المقصود في بناء هذه الحياة وهذا الوجود. حتى تتحقق به النهاية الطبيعية للصلاح والفساد في هذه الحياة الدنيا. هذا الصلاح وهذا الفساد اللذان ركب الإنسان على أساس الاستعداد لهما; وظهور جهده هو وإرادته في اختيار أحدهما، وتلقي جزاء هذا الاختيار في نهاية المطاف.

                                                                                                                                                                                                                                      وإن خلق الإنسان بهذا الاستعداد المزدوج، ونفي البعث عن فعل الله سبحانه، ليقتضيان أن يكون لهذا الإنسان مصير معين، ينتهي إليه بعد انتهاء رحلته الأرضية. وهذا هو صميم قضية الآخرة. ومن ثم يجيء بعد توجيه النظر إلى الحكمة والقصد في خلق السماوات والأرض. يجيء قوله تعالى:

                                                                                                                                                                                                                                      إن يوم الفصل ميقاتهم أجمعين. يوم لا يغني مولى عن مولى شيئا ولا هم ينصرون إلا من رحم الله، إنه هو العزيز الرحيم ..

                                                                                                                                                                                                                                      يجيء هذا القول طبيعيا ومرتبطا بما قبله كل الارتباط. فالحكمة تقتضي أن يكون هناك يوم يفصل فيه بين الخلائق، ويحكم فيه بين الهدى والضلال، ويكرم فيه الخير ويهان فيه الشر، ويتجرد الناس من كل سند لهم في الأرض، ومن كل قربى وآصرة، ويعودون إلى خالقهم فرادى كما خلقهم، يتلقون جزاء ما عملت أيديهم، لا ينصرهم أحد، ولا يرحمهم أحد، إلا من ينال رحمة ربه العزيز القادر الرحيم العطوف. الذي خرجوا من يده - سبحانه - ليعملوا; وعادوا إلى يده - سبحانه - ليتسلموا منه الجزاء. وما بين خروجهم ورجوعهم إنما هو فرصة للعمل ومجال للابتلاء.

                                                                                                                                                                                                                                      هكذا تقتضي الحكمة الظاهرة في تصميم هذا الكون، وفي خلق السماوات والأرض وما بينهما بالحق، وفي التقدير الواضح والقصد الناطق في كل شيء في هذا الوجود..

                                                                                                                                                                                                                                      وبعد تقرير هذا المبدإ يعرض عليهم مشهدا من مشاهد يوم الفصل; وما ينتهي إليه العصاة والطائعون من عذاب ومن نعيم. مشهدا عنيفا يتناسق مع ظلال السورة وجوها العنيف:

                                                                                                                                                                                                                                      إن شجرت الزقوم طعام الأثيم، كالمهل يغلي في البطون كغلي الحميم. خذوه فاعتلوه إلى سواء الجحيم. ثم صبوا فوق رأسه من عذاب الحميم. ذق إنك أنت العزيز الكريم. إن هذا ما كنتم به تمترون. [ ص: 3217 ] إن المتقين في مقام أمين. في جنات وعيون. يلبسون من سندس وإستبرق متقابلين. كذلك وزوجناهم بحور عين. يدعون فيها بكل فاكهة آمنين. لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى ووقاهم عذاب الجحيم. فضلا من ربك. ذلك هو الفوز العظيم ..

                                                                                                                                                                                                                                      ويبدأ المشهد بعرض لشجرة الزقوم، بعد تقرير أنها طعام الأثيم. عرض مفزع مرعب مخيف. إن هذا الطعام مثل دردي الزيت المغلي - وهو المهل - يغلي في البطون كغلي الحميم. وهناك هذا الأثيم. هذا المتعالي على ربه وعلى الرسول الأمين. وهذا هو الأمر العالي يصدر إلى الزبانية ليأخذوه في عنف يليق بمقامه الكريم! :

                                                                                                                                                                                                                                      خذوه فاعتلوه إلى سواء الجحيم. ثم صبوا فوق رأسه من عذاب الحميم ..

                                                                                                                                                                                                                                      خذوه أخذا واعتلوه عتلا، وشدوه في إهانة وجفوة فلا كرامة ولا هوادة. وهناك صبوا فوق رأسه من ذلك الحميم المغلي الذي يشوي ويكوي. ومع الشد والجذب والدفع والعتل والكي والشيء.. التأنيب والترذيل:

                                                                                                                                                                                                                                      ذق. إنك أنت العزيز الكريم ..

                                                                                                                                                                                                                                      وهذا جزاء العزيز الكريم في غير ما عزة ولا كرامة، فقد كان ذلك على الله وعلى المرسلين!

                                                                                                                                                                                                                                      إن هذا ما كنتم به تمترون ..

                                                                                                                                                                                                                                      فقد كنتم تشكون في هذا اليوم كما كنتم تسخرون وتستهزئون!

                                                                                                                                                                                                                                      وبينما الأخذ والعتل، والصب والكي، والتأنيب والخزي.. في جانب من جوانب الساحة.. يمتد البصر - بعين الخيال - إلى الجانب الآخر. فإذا " المتقون " الذين كانوا يخشون هذا اليوم ويخافون. إذا هم: في مقام أمين .. لا خوف فيه ولا فزع، ولا شد فيه ولا جذب، ولاعتل فيه وصب! بل هم منعمون رافلون في جنات وعيون .. يلبسون من سندس - وهو الحرير الرقيق - ومن إستبرق - وهو الحرير السميك - ويجلسون متقابلين في مجالسهم يسمرون. كل ذلك ومثله تزويجهم بحور عين، يتم بهن النعيم. وهم في الجنة أصحاب الدار، يطلبون ما يشاءون و يدعون فيها بكل فاكهة آمنين .. لا يتوقعون نهاية لهذا النعيم، فلا موت هنالك وقد ذاقوا الموتة الأولى، وغيرها لا يذوقون.. (وذلك في مقابل ما كان المشركون يقولون: إن هي إلا موتتنا الأولى وما نحن بمنشرين .. فنعم إنها الموتة الأولى ولكن وراءها الجحيم والنعيم) . ووقاهم عذاب الجحيم .. تفضلا منه سبحانه. فالنجاة من العذاب لا تكون إلا بفضله ورحمته: فضلا من ربك. ذلك هو الفوز العظيم .. وأي فوز عظيم؟!

                                                                                                                                                                                                                                      وفي ظل هذا المشهد العنيف العميق المؤثر بجانبيه تختم السورة بالتذكير بنعمة الرسالة والتخويف من عاقبة التكذيب:

                                                                                                                                                                                                                                      فإنما يسرناه بلسانك لعلهم يتذكرون. فارتقب إنهم مرتقبون ..

                                                                                                                                                                                                                                      وهو ختام يلخص جو السورة وظلها. ويتناسق مع بدئها وخط سيرها. فقد بدأت بذكر الكتاب وتنزيله للإنذار والتذكير، وورد في سياقها ما ينتظر المكذبين. يوم نبطش البطشة الكبرى إنا منتقمون .. فجاء هذا الختام يذكرهم بنعمة الله في تيسير هذا القرآن على لسان الرسول العربي الذي يفهمونه ويدركون معانيه. ويخوفهم العاقبة والمصير، في تعبير ملفوف. ولكنه مخيف: فارتقب إنهم مرتقبون ..

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية