الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          ( وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع لعلهم يتقون ) أمر الله تعالى رسوله بهذا الإنذار الخاص بعد أمره بتبليغ الناس حقيقة رسالته ، وكونها لا تستلزم أن يكون له من التصرف والعلم ما لا يكون إلا لله تعالى ، ولا أن يكون ملكا من الملائكة ، والمناسبة بينها أن الموصوفين بما ذكر في هذه الآية أجدر من غيرهم بفهم حقيقة الرسالة والانتفاع بنذر الرسول ، فهي كقوله : ( إنما تنذر الذين يخشون ربهم بالغيب وأقاموا الصلاة ومن تزكى فإنما يتزكى لنفسه ) ( 35 : 18 ) وقوله : ( إنما تنذر من اتبع الذكر وخشي الرحمن بالغيب ) ( 36 : 11 ) أي : وأنذر بما يوحى إليك جماعة المؤمنين بك ، الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم ، أي : يخافون شدة وطأة الحشر والقدوم على الله عز وجل ، وما فيه من شدة الحساب وما يتبعه من الجزاء على الأعمال في يوم ( لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة ) ( 2 : 254 ) ( يوم لا تملك نفس لنفس شيئا والأمر يومئذ لله ) ( 82 : 19 ) وكل يأتيه فيه فردا ليس له من دونه ولي ينصره ، ولا شفيع يدفع عنه ، إذ أمر النجاة متوقف على مرضاته عز وجل ، فإن هؤلاء هم الذين يرجى أن يتقوا الله تعالى اهتداء بإنذارك ، ويتحروا ما يؤدي إلى مرضاته ، لا يصدهم عن تقواه الاتكال على الأولياء ، ولا الاعتماد على الشفعاء ؛ لصحة توحيدهم ، وعلمهم أن الشفاعة لله جميعا ( ما من شفيع إلا من بعد إذنه ) ( 1 : 3 ) ( ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون ) ( 21 : 28 ) وأن نجاتهم وسعادتهم إنما تكون بإيمانهم وأعمالهم وتزكيتهم لأنفسهم لا بانتفاعهم بصلاح غيرهم ، أو اعتمادهم على شفاعة الشفعاء لهم ، كالمشركين وغيرهم من الكافرين الذين جهلوا أن مدار سعادة الدنيا والآخرة على تزكي النفس وطهارتها بالإيمان الصحيح والأخلاق الكريمة ، وما يلزم من الأعمال الصالحة التي يترتب عليها رضاء الله عنها لا على أمر خارج عن النفس لا تأثير له فيها .

                          هذا ما يتبادر إلى الفهم من معنى الآية مؤيدا بآيات كثيرة أخرى ، بل بجملة الدين وكلياته التي أشرنا إليها آنفا ، وبنحوه فسرها الحافظ ابن كثير في تفسيره المأثور ، وهاك نص عبارته : أي : وأنذر بالقرآن يا محمد الذين هم من خشية ربهم مشفقون ، الذين يخشون ربهم ويخافون سوء الحساب ، ( الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم ) أي يوم القيامة ، ( ليس لهم ) أي يومئذ ( من دونه ولي ولا شفيع ) أي لا قريب لهم ولا شفيع فيهم من عذابه إن أراده بهم ، ( لعلهم يتقون ) أي [ ص: 361 ] أنذر هذا اليوم الذي لا حاكم فيه إلا الله عز وجل ، لعلهم يتقون فيعملون في هذه الدار عملا ينجيهم الله به يوم القيامة من عذابه ، ويضاعف لهم به الجزيل من ثوابه . اهـ .

                          فالآية قد نزلت في إنذار المؤمنين الذين يخافون الله ويرجونه ، وقد روى أحمد ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، والطبراني ، وأبو الشيخ ، وغيرهم عن عبد الله بن مسعود أنها نزلت هي وما بعدها في صهيب وعمار وبلال وخباب ونحوهم من ضعفاء المسلمين السابقين الأولين ، وسيأتي بيان ذلك . ولما كانت نافية للشفاعة عنهم لجأ بعض مفسري الخلف إلى تأويلها ، ، وذهب بعضهم أنها لا تحتاج إلى تأويل " لأن شفاعة الملائكة والرسل للمؤمنين إنما تكون بإذن الله ؛ لقوله : ( من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه ) ( 2 : 255 ) فلما كانت تلك الشفاعة بإذن الله كانت في الحقيقة من الله تعالى " قاله الرازي في وجه نزول الآية في المؤمنين ، وذكر فيها وجهين آخرين أحدهما : أنها نزلت في الكفار . وثانيهما : أنها عامة . ومن المعلوم أن كل ما يتعلق بالكفار في هذه السورة فالمراد به مشركو مكة وماحولها ، وإنما يدخل فيه غيرهم بدلائل العموم ، وكان أولئك المشركون ينكرون الحشر ويثبتون الشفاعة عند الله لآلهتهم وأوليائهم الذين اتخذوا لهم التماثيل والأصنام ، كإبراهيم وإسماعيل عليهما الصلاة والسلام ، إلا من شذ منهم فقال بالبعث ، ولا أذكر الآن أنه كان في مكة أحد منهم عند نزول السورة ، ولا يعقل أن تكون الآية نزلت في إنذار هذا الشاذ النادر .

                          ولكن أبا السعود تنطع في التأويل فذهب إلى أن الإنذار هنا موجه " إلى من يتوقع منهم التأثر في الجملة وهم المجوزون منهم للحشر على الوجه الآتي سواء كانوا جازمين بأصله كأهل الكتاب وبعض المشركين المعترفين بالبعث المترددين في شفاعة آبائهم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام كالأولين ، أو في شفاعة الأصنام كالآخرين ، أو مترددين فيهما معا كبعض الكفرة الذين يعلم من حالهم أنهم إذا سمعوا بحديث البعث يخافون أن يكون حقا ، وأما المنكرون للحشر رأسا ، والقائلون به القاطعون بشفاعة آبائهم أو بشفاعة الأصنام ، فهم خارجون ممن أمر بإنذارهم ، وقد قيل : هم المفرطون في الأعمال من المؤمنين ، ولا يساعده سباق النظم الكريم ولا سياقه ، بل فيه ما يقضي باستحالة صحته ، كما ستقف عليه " - هذه عبارته - وقد جعل جملة ( ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع ) حالا من ضمير ( يحشروا ) قال : " والمعنى : أنذر به الذين يخافون أن يحشروا غير منصورين من جهة أنصارهم على زعمهم ، ومن هذا اتضح أن لا سبيل إلى كون المراد بالخائفين المفرطين من المؤمنين ؛ إذ ليس لهم ولي سواه تعالى يخافون الحشر بدون نصرته ، وإنما الذي يخافونه الحشر بدون نصرته عز وجل " انتهى . وقد لخص كلامه السيد الألوسي في " روح المعاني " وقال : " هو تحقيق لم أره لغيره ، ويصغر لديه ما في التفسير الكبير ، ولعل [ ص: 362 ] ما روي عن ابن عباس والحسن - رضي الله عنهما - لم يثبت عنهما فتدبر " انتهى . ومراده بما روي عن الحبر والحسن هو أن الآية نزلت في المؤمنين .

                          ونقول : قد تدبرنا الكلام فوجدنا أن هذا الذي سميته تحقيقا تنطع وتكلف بعيد عن سباق الآية وسياقها ، ولولا إعجابك بهذا الرجل واعتمادك عليه في حل تفسيرك لما خفي عن ذهنك المنير تكلفه هذا الذي خالف فيه المأثور المتبادر من النظم الكريم الموافق للحال الذي نزلت فيه السورة ، فجعل الإنذار موجها إلى من لا يكاد يوجد أحد منهم في مكة من أهل الكتاب وشذاذ المشركين ، ولا حاجة في حال توجيه الإنذار إلى المؤمنين إلى تخصيصه بالمفرطين منهم ، ولم يكن في المؤمنين يومئذ مفرط ولا مقصر ، بل كلهم سابق بالخيرات مشمر ، فهم السابقون الأولون الذين شهد الله تعالى لهم ، وأثبت في كتابه رضاءه عنهم . والمأثور أن هؤلاء الذين أمر - صلى الله عليه وسلم - بإنذارهم هم الذين نهى عن طردهم بقوله عز وجل :

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية