الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ذكر البيعة للمهدي وخلع عيسى بن موسى

وفيها خلع عيسى بن موسى بن محمد بن علي من ولاية العهد وبويع للمهدي محمد ابن المنصور .

وقد اختلف في السبب الذي خلع لأجله نفسه ، فقيل : إن عيسى لم يزل على ولاية العهد وإمارة الكوفة من أيام السفاح إلى الآن ، فلما كبر المهدي وعزم المنصور على البيعة له كلم عيسى بن موسى في ذلك ، وكان يكرمه ويجلسه عن يمينه ويجلس المهدي عن يساره ، فلما قال له المنصور في معنى خلع نفسه وتقديم المهدي عليه أبى وقال : يا أمير المؤمنين كيف بالأيمان علي وعلى المسلمين من العتق والطلاق وغير ذلك ؟ ليس إلى الخلع سبيل ! .

فتغير المنصور عليه وباعده بعض المباعدة ، وصار يأذن للمهدي قبله ، وكان يجلس عن يمينه في مجلس عيسى ثم يؤذن لعيسى فيدخل فيجلس إلى جانب المهدي ، ولم يجلس عن يسار المنصور ، فاغتاظ منه ثم صار يأذن للمهدي ولعمه عيسى بن علي ، ثم لعبد الصمد بن علي ، ثم لعيسى بن موسى ، وربما قدم وأخر ، إلا أنه يبدأ بالإذن للمهدي على كل حال .

وتوهم عيسى أنه يقدم إذنهم لحاجة له إليهم ، وعيسى صامت لا يشكو ، ثم صار [ ص: 150 ] حال عيسى إلى أعظم من ذلك ، فكان يكون في المجلس معه بعض ولده فيسمع الحفر في أصل الحائط ، وينثر عليه التراب ، وينظر إلى الخشبة من السقف قد حفر عن أحد طرفيها لتقلع فيسقط التراب على قلنسوته وثيابه فيأمر من معه من ولده بالتحول ويقوم هو يصلي ثم يؤذن له فيدخل بهيئته والتراب على رأسه وثيابه لا ينفضه ، فيقول له المنصور : يا عيسى ما يدخل علي أحد بمثل هيئتك من كثرة الغبار والتراب ! أفكل هذا من الشارع ؟ فيقول : أحسب ذلك يا أمير المؤمنين ، ولا يشكو شيئا .

وكان المنصور يرسل إليه عمه عيسى بن علي في ذلك ، فكان عيسى بن موسى لا يؤثره ويتهمه . فقيل : إن المنصور أمر أن يسقى عيسى بن موسى بعض ما يتلفه فوجد الماء في بطنه فاستأذن في العود إلى بيته بالكوفة ، فأذن له ، فمرض من ذلك واشتد مرضه ثم عوفي بعد أن أشفى .

وقال عيسى بن علي للمنصور : إن ابن موسى إنما يتربص بالخلافة لابنه موسى فابنه الذي يمنعه ، فقال له : خوفه وتهدده ، فكلمه عيسى بن علي في ذلك وخوفه ، فخاف موسى بن عيسى .

وأتى العباس بن محمد فقال : يا عم إني أرى ما يسام أبي من إخراج هذا الأمر من عنقه ، وهو يؤذى بصنوف الأذى والمكروه ، فهو يهدد مرة ، ويؤخر إذنه مرة ، ويهدم عليه الحيطان مرة ، وتدس إليه الحتوف مرة ، وأبي لا يعطي على ذلك شيئا ولا يكون ذلك أبدا .

ولكن هاهنا طريق لعله يعطي عليها وإلا فلا ، قال : وما هو ؟ قال : يقبل عليه أمير المؤمنين وأنا شاهد فيقول له : إني أعلم أنك لا تبخل بهذا الأمر عن المهدي لنفسك لكبر سنك ، وأنه لا تطول مدتك فيه ، وإنما تبخل به لابنك ، أفتراني أدع ابنك يبقى بعدك حتى يلي على ابني ؟ كلا والله لا يكون ذلك أبدا ، ولأثبن على ابنك وأنت تنظر حتى تيأس منه . فإن فعل ذلك فلعله أن يجيب إلى ما يراد منه .

فجاء العباس إلى المنصور وأخبره بذلك ، فلما اجتمعوا عنده قال ذلك ، وكان عيسى بن علي حاضرا ، فقام ليبول ، فأمر عيسى بن موسى ابنه موسى ليقوم معه يجمع عليه ثيابه ، فقام معه ، فقال له عيسى بن علي : بأبي أنت وبأبي أب ولدك ، والله إني لأعلم أنه لا خير في هذا الأمر بعدكما ، وأنكما لأحق به ، ولكن المرء مغرى بما تعجل .

فقال موسى [ في نفسه ] : امكنني هذا والله من مقاتله وهو الذي يغري بأبي ، والله [ ص: 151 ] لأقتلنه ! فلما رجعا قال موسى لأبيه ذلك سرا ، فاستأذنه في أن يقول للمنصور ما سمع منه ، فقال له أبوه : أف لهذا رأيا ومذهبا ! ائتمنك عمك على مقالة أراد أن يسرك بها فجعلتها سببا لمكروهه ، ولا يسمعن هذا أحد ، ارجع إلى مكانك .

فلما رجع إلى مكانه أمر المنصور الربيع فقام إلى موسى فخنقه بحمائله ، وموسى يصيح : الله الله في دمي يا أمير المؤمنين ! وما يبالي عيسى أن تقتلني وله بضعة عشر ذكرا ، والمنصور يقول : يا ربيع أزهق نفسه ، والربيع يوهم أنه يريد تلفه وهو يرفق به وموسى يصيح .

فلما رأى ذلك أبوه قال : والله يا أمير المؤمنين ما كنت أظن أن الأمر يبلغ منك هذا كله ! فاكفف عنه ، فهأنذا أشهدك أن نسائي طوالق ومماليكي [ أحرار ] وما أملك في سبيل الله تصرف ذلك في من رأيت يا أمير المؤمنين ! وهذه يدي بالبيعة للمهدي . فبايعه للمهدي . ثم جعل عيسى بن موسى بعد المهدي .

فقال بعض أهل الكوفة : هذا الذي كان غدا فصار بعد غد .

وقيل : إن المنصور وضع الجند وكانوا يسمعون عيسى بن موسى ما يكره ، فشكا ذلك من فعلهم ، فنهاهم المنصور عنه ، وكانوا يكفون ثم يعودون .

ثم إنهما تكاتبا مكاتبات أغضبت المنصور ، وعاد الجند معه لأشد ما كانوا ، منهم : أسد بن المرزبان ، وعقبة بن سلم ، ونصر بن حرب بن عبد الله ، وغيرهم ، فكانوا يمنعون من الدخول عليه ويسمعونه ، فشكاهم إلى المنصور ، فقال له : يا ابن أخي أنا والله أخافهم عليك وعلى نفسي ، فإنهم يحبون هذا الفتى ، فلو قدمته بين يديك لكفوا . فأجاب عيسى إلى ذلك .

وقيل إن المنصور استشار خالد بن برمك في ذلك وبعثه إلى عيسى ، فأخذ معه ثلاثين من كبار شيعة المنصور ممن يختارهم ، وقال لعيسى في أمر البيعة ، فامتنع ، فرجعوا إلى المنصور وشهدوا على عيسى أنه خلع نفسه فبايع للمهدي ، وجاء عيسى فأنكر ذلك فلم يسمع منه ، وشكر لخالد صنيعه .

وقيل : بل اشترى المنصور منه ذلك بمال قدره أحد عشر ألف ألف درهم له ولأولاده وأشهد على نفسه بالخلع .

وكانت مدة ولاية عيسى بن موسى الكوفة ثلاث عشرة سنة ، وعزله المنصور [ ص: 152 ] واستعمل محمد بن سليمان بن علي عليها ليؤذي عيسى ويستخف به ، فلم يفعل ولم يزل معظما له مبجلا .

التالي السابق


الخدمات العلمية